لكن ماذا لو لم تكن الكرة في ملعبنا؟
أحيط مؤتمر كوبنهاغن للتغيرات المناخية الذي عُقد في شهر ديسمبر الماضي، بتعبئة إعلامية غير مسبوقة في حدتها. وتمثل ذلك في إعلان البعض قبل انعقاد هذا المؤتمر أنه «مؤتمر الفرصة الأخيرة»، كما تمثَّل أيضاً خلال انعقاد القمة في ضغط الشارع، أو الشوارع المحيطة بمقر المؤتمر في العاصمة الدنماركية، وما شهدته من اضطرابات. وبصدور القرارات والتوصيات، كان هناك من وصفها بأنها «نصف نجاح»، وآخر بـ «نصف فشل»، وثالث رأى أنها «واقعية». إن الذين تابعوا مجريات الأمور في قمة كوبنهاغن من خلال خطوطها الإعلامية العريضة، بدت لهم القضية على أنها مؤلفة من مشكلة بديهية لا يفترض أن يكون هناك أي خلاف على حلها. وأن أي خلاف لا بد وأن ينتهي بشكل حاسم لصالح واحد من طرفين لا ثالث لهما. ولكنها في الحقيقة ليست كذلك.
كميل حوَّا يتناول مختلف الجوانب التي تتكشف عنها قضية الاحتباس الحراري المثيرة للشكوك على مستويات عديدة بدءاً بقدرة علم المناخ على تأكيد صحة توقعاته، مروراً بالمعطيات التي تأكدت صحتها وتلك التي لم تتأكد، وصولاً إلى البحث عن الحلول الواقعية الذي يبدو أنه لا يزال في بداياته. إذ إن من المفارقات التي تكشفت عنها قمة كوبنهاغن وضجيجها من جهة، والدراسات العلمية الهادئة من جهة أخرى، هي أن العلماء المدققين في قضية الاحتباس الحراري، ما زالوا متأخرين في حسم قناعاتهم، عن شطر كبير من الرأي العام سبقه بأشواط إلى ذلك.
حسب توقعات أوساط علماء المناخ، فإن هذا العام 2010م سيكون الأشد سخونة منذ أن وُجدت أجهزة قياس حرارة الجو. وبكلام آخر، أشد سخونة من أي عام مضى في التاريخ الحديث.
ولن تغيِّر العواصف الثلجية العاتية التي تضرب أوروبا الغربية وأجزاء واسعة من آسيا والولايات المتحدة في معطيات مثل هذا التوقع أو احتمال تحققه، مهما شعر أصحابه من حرج مؤقت، تماماً كما شعر المشاركون في مؤتمر كوبنهاغن الذي عُقد كي يتصدَّى لظاهرة سخونة المناخ، وتزامن اختتام أعماله مع بدء موجات الصقيع التي وصلت إلى مستويات غير معهودة في كثافة الثلوج وإغلاق الطرقات.
حول علم المناخ أولآً
إن أهم أسباب الاعتقاد بحتمية سخونة طقس هذا العام، هو تجمع كتل حرارية حول خط الاستواء في المحيط الهادي، يُعتقد أنها كانت مسؤولة عن ارتفاع الحرارة عام 1998م ووصولها إلى رقم قياسي لم تصل إليه في أي من سنوات العقد الحالي الذي ينتهي بنهاية هذا العام. وتسمَّى هذه الظاهرة «النينيو». وكما أن النينيو الحار يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة، فكذلك النينيو البارد يؤدي إلى العكس، كما حدث في عامي 2007 و2008م. وهذا ما يفسِّر لماذا كانت مثل هذه السنوات باردة مقارنة بالسنوات الأخرى من هذا العقد.
إلى جانب «النينيو» هناك الشمس كمصدر آخر للسخونة، والتي تتعرض على ما يبدو إلى تحولات في مستوى توهجها كل 11 سنة تقريباً. وقد كانت عام 2009م في أدنى نقطة منخفضة من خط التوهج، وبالتالي من المتوقع أن يبدأ هذا التوهج بالازدياد هذا العام، ليضاف إلى العوامل المؤدية إلى ارتفاع سخونة المناخ.
أما إذا لم يتحقق هذا التوقع، فإن ذلك سيعود ويؤكد أن قدرة العلم على الإلمام بجميع العوامل المؤثرة في حرارة وبرودة المناخ ما زالت غير موثوقة، وأن علماء المناخ يحتاجون إلى مزيد من أنظمة القياس، رغم وصولها إلى مستويات متطورة وشديدة التعقيد وتستخدم أدوات رصد تتدخَّل فيها الأقمار الصناعية في الفضاء وأدوات قياس على الأرض، وتأخد في الاعتبار عوامل متحولة لا حصر لها.
فما هو المؤكد وما هو غير المؤكد في مسألة سخونة المناخ؟ وما هو المؤكد وما هو غير المؤكد في الحلول المطروحة لهذه الظاهرة؟
مسألة محسومة.. أم ليس تماماً؟
إن نظرة نلقيها على الخط البياني لقياس معدَّل درجات الحرارة على كرتنا الأرضية الزرقاء، تُظهر -رغم التذبذبات صعوداً وهبوطاً- ازدياداً عاماً بهذا المعدل خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة. ورغم أن هناك شبه إجماع بين علماء المناخ على أن هذه الظاهرة هي بالدرجة الأولى من صنع الإنسان ونتيجة ما يسمى بظاهرة الاحتباس الحراري، والتي هي بشكل رئيس نتيجة انبعاث غازات مثل ثاني أكسيد الكربون، إلا أنه مازال الكثير من العلماء يشكِّكون بهذه القناعة ويعتبرون أنها تحولت إلى نوع من الحملة العقائدية، بل التبشيرية، التي يستعد أصحابها أحياناً إلى التغاضي عن معطيات ومؤشرات قد تغيِّر أو تعدِّل في النتائج التي توصلوا إليها. فهناك علماء كثيرون مازالوا يعتقدون أن ارتفاع حرارة المناخ هو نتيجة تغيرات مناخية دورية، كالتي كانت تشهدها الأرض عبر العصور، والتي قد تنتج عن زيادة في الوهج الحراري من الشمس أو من مصادر أخرى في الفضاء غير المتناهي، وأن هذا المنعطف ربما يكون قد شارف على نهايته.
ورغم أن هؤلاء العلماء أقلية في الأوساط العلمية، هناك مجموعة أخرى تقول إن الاحتباس الحراري يقع ضمن مسيرة تغير المناخ على المدى الطويل، وما تتعرَّض له من صعود وهبوط يجعل هذه القضية في النهاية ظاهرة عرضية. وفي خدمة هذا النقاش، جاءت حادثة تزيد من بعض الشك الذي يلف هذا التوجه العام، حيث نُشرت على الإنترنت مجموعة هائلة من الرسائل الخاصة لبعض أبرز العلماء، الذين حصروا أسباب سخونة المناخ بالانبعاثات الكاربونية، يعبِّرون فيها عن شكهم بالنتيجة التي توصلوا إليها. وظهرت هذه الشكوك ضمن رزمة ضخمة من الرسائل أخذت من «وحدة أبحاث المناخ» من جامعة إيست إنجليا الإنجليزية. وتتخصص هذه الوحدة بدراسة المناخ في الحقب السابقة لوجود أدوات قياس الحرارة (الثرمومتر) وحيث المراجع نسبية مثل شكل وحجم الحلقات الداخلية في جذوع الأشجار. وقد احتوت هذه «الإيميلات» على كلمات تشكك بالنتائج التي يتوصل إليها أصحابها، وتكون قاطعة بأن التسخن الحراري هو من صنع الإنسان.
مرجَّح، مؤكَّد، وحتمي
أمام هذا النقاش والذي غدا شبه محسوم لصالح فريق دون آخر، هناك أمر مؤكد، وهو أن الانبعاثات الغازية هي في الأساس ظاهرة غير مستحبة سواء أكانت في البيئة الطبيعية أم في المجتمع المدني الإنساني، وذلك قبل أن توجه إليها أصابع الاتهام في مسألة الاحتباس الحراري. وما من شك في أن العمل على خفضها والحد من الاعتماد عليها والتخفيف من آثارها كلها أمور مرغوبة على المدى البعيد.
لكن، حتى ولو كان يرجَّح أنها المسؤولة عن هذه الظاهرة، فإن الإنسانية تجد نفسها عاجزة عن خفضها بالسرعة المرجوة؛ لأنها في الحقيقة تمثل الشكل الأساسي للعيش الإنساني بمختلف أوجهه. فمن ناحية، ما زالت الأبحاث في مجالات الطاقة البديلة، سواء أكانت الشمسية أو الهوائية أو غيرها، في حالة تكاد تكون أشبه بالمراوحة لبطء تقدمها. وعندما تنصب عليها الجهود لتطويرها، تُكتشف نواقص وثغرات أو تكاليف مرتفعة تجعلها محبطة للآمال.
لكن حتى فيما هو أبعد من موضوع الطاقة والوقود، الذي يبدأ بكثرة المصانع وينتهي عند المرأة العجوز التي توقد النار تحت حلة الغسيل أو الطعام، فإن مجمل الحياة البشرية «الحية» يشكِّل مصدراً للانبعاث الحراري، بدءاً بحركة الإنسان الفرد مروراً بأساليب انتقاله وانتهاءً بالمباني نفسها التي يقطنها أو يعمل فيها. وتظهر دراسات مختلفة مثلاً أن الأبنية الحكومية الكبيرة يصدر عنها انبعاثات غازية لا يستهان بها.
وقد ورد في دراسة أن 28 ألف مبنى مملوكة للدولة في المملكة المتحدة، تبث ما يقارب 14 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في السنة. وهي نسبة تفوق بكثير ما كان مقدَّراً في الماضي. ولذلك فإن وضع مقاييس وشروط على المباني الجديدة له دور جدِّي في تخفيض مثل هذه الانبعاثات.
البحث عن حلول واقعية
وبين الذين يتبنَّون الرأي بأن احترار الأرض من صنع الإنسان، هناك فروقات واسعة في إحصاء نتائج آثار الاحترار والمدد الزمنية المتوقع فيها. ومن بين هؤلاء من يرفع الصوت منادياً بالسير في سبل تؤدي إلى حلول نتائجها أخف وطأة على المجتمع الاقتصادي الإنساني وأكثر واقعية.
ومن أبرز هذه المجموعات من علماء البيئة من يطالب بتفعيل العوامل التي تزيد من الامتصاص الطبيعي للغازات المنبعثة. فهناك مقابل المصانع التي تنبعث منها الغازات، مصانع طبيعية تمتص ثاني أكسيد الكربون وغيره، تبدأ بالغابات وتصل إلى أسطح مياه البحار والمحيطات. وهذه «المصانع» الرفيقة بالبيئة، يمكن زيادة فاعليتها، وبالتالي خفض معدلات الاحتباس الحراري بشكل قد يصل مع الوقت إلى ما يتجاوز نسبة %2 التي توصَّل إليها الاتفاق في مؤتمر كوبنهاغن.
فمن المعروف أن الغابات والمحيطات والبحار تمتص حوالي %60 من مجموع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن أوجه النشاط المختلفة لبني البشر، مما أسهم في إبقاء ظاهرة الاحتباس الحراري طوال القرن الماضي ضمن حدوده. علماً بأنه ليس هناك من وسائل تستطيع إحصاء كمية ما تستوعبه النباتات والأتربة والبحار بدقة، ولكن هذه الكميات قابلة للزيادة بطبيعة الحال، كما تمتص أسطح البحار والمحيطات ثاني أكسيد الكربون من الجو لأنه قابل للذوبان فيها تلقائياً. وقد نجحت دراسات جديدة في إحصاء شبه دقيق لكمية هذا الغاز التي يمتصها سطح المحيط. وبكون كمية الانبعاثات الصادرة عن المصانع معروفة، فإن هذا يساعد في تحديد الكمية التي تمتصها النباتات حتى درجة معقولة من الدقة.
إن توافر مثل هذه المعلومات، بما يمكن أن تؤدي إليه من معرفة مآل الانبعاثات المستمرة لثاني أكسيد الكربون، يمكنه -أسوة بأبحاث علمية أخرى باتجاهات أخرى- أن يلعب دوراً حيوياً في إيجاد سبل لزيادة عملية امتصاص هذه الغازات بشكل أكثر فاعلية وأقل كلفة على المجتمع الإنساني.
الاحتماء في ظل الشجرة
وتميل أوساط كثيرة إلى اعتبار الحرص على الغابات وحمايتها وزيادة رقعتها من أهم نتائج مؤتمر كوبنهاغن الأخير. ويعتقدون أن الفرقاء المتنازعين اتفقوا على الأقل على هذا الهدف. ورغم أن بعض الحملات قد تعتبر أن الزعماء قاموا من خلال الاتفاق «بالاحتماء بظل الشجرة» مما يتعرَّضون له من انتقادات. إلا أن الحقيقة تقول إن الاهتمام بالغابات وما يطلق عليه اسم «البئر الكربوني» يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في التخفيف من ظاهرة الاحتباس الحراري. فالجماعات «الصديقة للغابة» تقول إن قطع أشجار الغابات مسؤول عن %20 من انبعاثات الاحتباس الحراري، وبالتالي فإن وقف هذا هو سبيل فعَّال وغير مكلِّف للحد من الظاهرة. ولذلك رصد لهذا الهدف، ألا وهو وقف استنزاف الغابات، مبلغاً كبيراً يتم صرفه من الآن وحتى عام 2015م. ومن جهة أخرى فقد نجحت الجماعات البيئية بالتأثير على الشركات المستغلة للغابات في الحد من هذا الاستنزاف. وبشكل عام أدت الحملات المتتالية لحماية الغابات إلى أثر ملموس في هذا الاتجاه الحيوي.
وبينما يحتدم النقاش بين الدول وكبرى الشركات وحركات حماية البيئة وتشتد الخلافات، تقوم مؤسسات تجارية وصناعية متفاوتة الحجم بمبادرات خاصة للحد من الانبعاثات في محالها وورشها، وذلك من خلال برامج خاصة تراقب استهلاك الطاقة الكهربائية والتكييف والتدفئة وغيرها. وهي تعتمد في ذلك على مطوري برامج رقمية تساعد في تنظيم هذا الاستهلاك والحد منه وحصره في أوقات الحاجة الحقيقية إليه. كما أن كثيراً من الشركات كانت قد بدأت منذ سنوات بعيدة بمراقبة استهلاك الطاقة بهدف التوفير. ولكن هذا المنحى ترسخ وازداد فاعلية مع انتشار المطالبة بخفض الانبعاث الناتج عنه. واليوم أصبح التواؤم مع التوجهات البيئية جزءاً لا يتجزأ من مظهر الشركة الاجتماعي، فتضعه على منتجاتها وتتباهى به في مطبوعاتها الإعلانية. وهذه الظاهرة أخذت تنتشر حتى بين الأفراد الذي جعلوا من حماية البيئة وتخفيف الاستهلاك الباعث لثاني أكسيد الكربون نمطاً معيشياً ونوعاً من الانتماء إلى الحياة المعاصرة وقيمها «النظيفة».
وهناك عائلات في بلدان تقوم بحملات فاعلة للحد من الانبعاثات، خاصة بسبب الضرائب على الوقود وارتفاع سعر الكهرباء، تلجأ إلى تغيير نمط حياتها بأشكال مختلفة، منها تقليل النزهات بالسيارة، وسحب جميع قوابس الكهرباء من توصيلاتها في الليل قبل النوم، ماعدا الثلاجة!
المسألة تحتاج إلى مزيد من التفكير بطريقة العصف الذهني بدل العصف الأخلاقي. وتحتاج إلى حلول مستقاة من دراسة جزئيات واقع المجتمع الإنساني وليس فقط عناوينه الكبيرة. ومنها ما يبدأ بمعطيات حياتنا الأولى: ماذا نزرع، وكيف نأكل، وكيف نتحرك، ونوزع الحرارة، وكيف ننقل أنفسنا وحاجياتنا، وكيف نبني بيوتنا وأحياءنا. ربما في كل تفصيل من هذا حل صغير إذا تحقق ونُفِّذ يؤدي بمجموعه إلى نتيجة تفوق كل الأرقام العالية التي ينادي بها المنادون.
أهمية البحث العلمي
على صعيد آخر، تهمل النقاشات المحتدمة قضية أساسية هي قضية صرف مزيد من الجهد والمال على البحوث العلمية. من هذه البحوث ما يتجه إلى ابتكارات في مجال الطاقة النظيفة وتحسين احتراق المشتقات النفطية، ومنها أيضاً ما يساعد على ابتكار وسائل تكنولوجية متقدِّمة تخفِّف من حجم الانبعاث لنفس كمية الاستهلاك. أو تحقق نجاحات في أفكار مثل تكثيف الغازات المنبعثة وإيجاد سبل لإتلافها أو طمرها من دون أن تحدث ضرراً بيئياً فعلياً، وهذا ما هو معروف بـ «اعتقال الكربون» (Carbon Capture)، رغم أنها عملية مرتفغة الكلفة إذا ما قورنت بحماية الغابات بل وزيادة رقعتها. وكذلك فإن زيادة فاعلية الطاقة الشمسية والهوائية يعتمد على أبحاث علمية متقدِّمة في مجالات مثل مواقع استخدامها والقدرة على تخزين الطاقة وغيرها.
إن كل هذه الحلول تحتاج إلى دراسات ومهندسين ومطوري برامج، ومعهم أصحاب رأي ومواطنين عاديين يعملون معاً لوضع استراتيجيات متنوعة لتحقيق الهدف المطلوب، بدل نقاشات محتدمة بين ساسة في مؤتمرات مسلَّطة عليها الأضواء ومحاطة بحملات من التهويل.
ماذا لو أن الكرة ليست في ملعبنا!
إذا كان العلم نفسه لا يقر بحقائق نهائية، ويقول إن كل قانون قابل لإعادة النظر، فلا شك أن علم المناخ مازال يحتاج إلى الكثير من الوسائل التي توفِّر له القدرة على التنبؤ بالمستقبل بشكل حاسم. ونحن إن سلَّمنا جدلاً بأن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات هي المسؤولة عن الاحتباس الحراري، وأن هذا الاحتباس الحراري هو المسؤول عن ارتفاع سخونة الأرض، وأنه لابد أن تأخذ الإنسانية الخطوات الفعَّالة للحد من الاثنين حماية للحياة على الكرة الأرضية، فيجب علينا ألاَّ نغفل حقيقة أعم وأشمل، وهي أن مصير المناخ على سطح الكرة الأرضية ليس -في نهاية المطاف- في يدنا، على الأقل ليس بالشكل التي توحي بها الحركات البيئية.
فما من شك بأنه حتى لو ثبت أن ظاهرة الاحتباس الحراري لا تعود إلى غازات الدفيئة، يبقى أن العمل على الحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بما يؤدي إليه من بيئة أقل تلوثاً هو جهد إيجابي على المدى البعيد. وإذا ثبت أن هذه الظاهرة هي عرضية فيكون خيراً فوقه خير. أما إذا كان المناخ على وجه الكرة الأرضية مهدد بارتفاع في درجات حرارته من عوامل خارجة عن يد بني البشر، عندها نحتاج إلى استعداد من نوع آخر.. أو ربما إلى كرة أرضية أخرى.
المبادرات والمؤتمرات العالمية
المتعلقة بتغيّر المناخ
يعود الاهتمام بظاهرة الاحتباس الحراري إلى القرن التاسع عشر، عندما اكتشف عالم الرياضيات والفيزياء الفرنسي جان بابتيست جوزيف فورييه الاحتباس الحراري وحلله في العام 1824م. لكن هذه الظاهرة ظلت بمنأى عن أي تناول جدي، إلى أن تلمّس العلماء حجم التهديد الناجم عنها والآثار البيئية التي قد تلحق بكوكب الأرض من جرَّائها، فبدأ الاهتمام بها علمياً في أواخر خمسينيات القرن الماضي. ثم تضافرت الجهود العالمية لبحث مخاطر الاحتباس الحراري والاستراتيجيات التي يمكن إقرارها في سبيل كبح جماحها منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، وذلك ضمن محاولات دولية شبه موحدة لهذه الغاية.
وفيما يلي نظرة إلى أبرز المبادرات والمؤتمرات العالمية التي تعاطت مع الاحتباس الحراري وتغيرات المناخ:
1968: مؤتمر الغلاف الحيوي
عقد في العاصمة الفرنسية باريس «المؤتمر الدولي لترشيد استغلال الغلاف الحيوي وحمايته»، وذلك تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو». وشهد المؤتمر أولى المناقشات الخاصة بمفهوم التنمية المستدامة بيئياً.
1971: مبدأ «الملوِّث يتحمّل الكلفة»
أقر مجلس دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD في اجتماع له احتضنته العاصمة النرويجية أوسلو مبدأ «الملوِّث يتحمّل الكلفة»، حيث ينص على أنّه يتعيّن على البلدان المسببة للتلوث أن تدفع تكاليف التلوّث.
1972: مؤتمر حول البيئة البشرية
شهد هذا المؤتمر الذي عقد في ستوكهولم بالسويد، أول اعتراف عالمي بأن البيئة معرضة للخطر؛ فقد أقرّتْ الدول المتقدمة أنّها تجاهلت تماماً التأثير على البيئة أثناء تطورها المتسارع. منذ ذلك الحين، ومع تأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة، تعهدتْ جميع البلدان تقريباً بالبدء بمراقبة نوعيّة الهواء لديها، والمياه وغيرها من مكونات العالم الطبيعي. لتشكّل هذه كلها أساساً لعقد قمة الأرض في ريو دي جانيرو عام 1992م.
1979:
«اتفاقية الحد من التلوث الجوي بعيد المدى عبر الحدود»
وافقت 34 حكومة إلى جانب المفوضية الأوروبية في مؤتمر عقد في جنيف، بسويسرا، آنذاك على الاتفاقية، لتشكل بذلك أوّل صك غير ملزم قانونياً للتعامل مع مشكلات التلوث الجوي على أساس إقليمي واسع النطاق.
1979: الاحتباس الحراري
توصل مؤتمر المناخ العالمي، الذي عُقد في جنيف، بسويسرا، برعاية منظمة الأرصاد الجوية العالمية (WMO)، إلى أن «الاحتباس الحراري» من جرّاء زيادة تراكم غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي يتطلب عملاً دولياً ملحاً.
1988:
اللجنة الدولية للتغيرات المناخية (IPCC)
تشكلت هذه اللجنة على يد الأمم المتحدة ومنظمة الأرصاد الجوية العالمية (WMO) بهدف تقييم المسائل الفنية التي أُثيرت في النقاشات الدائرة حول التغير المناخي، بحيث يكون صانعو السياسات مسلّحين بالحقائق التي توافرت لديهم من خلال الجهد العلمي الجماعي. ويتمثل دور اللجنة الدولية للتغيرات المناخية في تقييم المعلومات العلمية والفنية والاجتماعية والاقتصادية ذات الصلة في فهم الأساس العلمي لمخاطر تغير المناخ بفعل الإنسان، وتأثيراته المحتملة وخيارات التكيف معها، وذلك على أساس شامل، وموضوعي. وتتألف اللجنة من نحو 140 دولة للنظر في العلم المعروف حالياً والمتعلق بالتغير المناخي، حيث تقوم بإصدار ونشر تقارير، تقدِّم للحكومات ملخصاً عنها يضم المعرفة والحقائق اللازمة كأرضية ومنطلق للنقاش. أما التقارير التحليلية (تقييم كلّ البحوث العلمية الموثوقة المتعلقة بالتغير المناخي) فيعدها أكثر من 600 باحث تم تفويضهم بصورة جماعية من الدول الأعضاء المائة والأربعين.
1992:
قمة الأرض – مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة والتنمية
لم يدُر مؤتمر «قمة الأرض»، الذي عُقد بمدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، حول البيئة ذاتها وإنما حول الاقتصاد العالمي وآثاره على البيئة العالمية. ولقد جاءت الدول المتقدمة إلى ريو دي جانيرو بهدف إيجاد حلول لقضايا المناخ والغابات والأنواع المهددة بالانقراض، غير أن هذا لم يحدث. هذه المرة، كان الجنوب (الدول النامية) في وضع مكّنها من المطالبة بأنه إذا كانت دول الشمال (الدول المتقدمة) تريد منها (أي دول الجنوب) أن تخفض من استهلاكها من النفط والفحم وتوقف اجتثاث الغابات فإن على دول الشمال دفع ثمن ذلك. ولقد شهدت «قمة الأرض» تدشين ما عرف بـ«أجندة 21»، أي جدول أعمال القرن الحادي والعشرين، حيث وُضعت الأجندة لتكون بمثابة مخطط أول للعمل في كافة المجالات التي يؤثر فيها البشر على البيئة. وتبنت 179 دولة «جدول أعمال القرن الحادي والعشرين» بهدف توزيعه على كافة المستويات الحكومية المناسبة.
1992:
اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية المتعلقة بتغير المناخ (UNFCCC)
تُشكّل هذه الاتفاقية، التي تم التوقيع عليها في ريو دي جانيرو، محور الجهود الدولية لمكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري. وتم تبنّيها في شهر مايو عام 1992م خلال قمة الأرض في ريو، ودخلتْ حيّز التطبيق في 21 مارس عام 1994م. وتهدف الاتفاقية إلى تحقيق الاستقرار في تركيز غازات الدفيئة في الغلاف الجوي عند مستوى يحول دون التدخل البشري الخطير في النظام المناخي. وينبغي أن يتحقق هذا الأمر في غضون فترة زمنية كافية تتيح للنظم البيئية (الإيكولوجية) أن تتكيف بصورة طبيعية مع التغير المناخي، لضمان ألا يكون الإنتاج الغذائي مهدداً، وتمكين التنمية الاقتصادية المستدامة.
1995:
المؤتمر الأول للأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP1)
أسفر هذا المؤتمر، الذي عقد في برلين بألمانيا، عن «توصية برلين»، ووافقت الدول المشاركة فيه على خفض انبعاثات غازات الدفيئة في جميع أنحاء العالم. وصادقت أكثر من 170 دولة على الاتفاقية، كما التزم المؤتمر بمواصلة الاجتماع على أساس سنوي.
1997: كيوتو (COP3)
حضر هذا المؤتمر الذي عُقد بمدينة كيوتو اليابانية 159 دولة، وتمخض عنه ما بات يعرف لاحقاً بـ«بروتوكول كيوتو»، حيث وافقت 38 دولة متقدمة على تخفيض انبعاثاتها من غازات الدفيئة الستة الرئيسية (وهي: بخار الماء، وثاني أكسيد الكربون، والميثان، وأكسيد النيتروس، والأزون، والكلوروفلوروكربون) . كذلك وافقت الدول المتقدمة وبصورة جماعية، على خفض انبعاثاتها بنسبة %5 على الأقل دون مستويات عام 1990م بحلول 2012م. أما الدول السائرة على طريق التصنيع ذات الموارد المحدودة، فلم تحدد أهدافاً ملزمة (من بينها الصين والهند)، غير أنه تُرك لها الخيار لتحديد أهداف الخفض الطوعي. كما وضع بروتوكول كيوتو أسس الاتجار في الانبعاثات، والتنفيذ المشترك، وآليات التنمية النظيفة لتشجيع التعاون في مشاريع الحد من الانبعاثات بين البلدان المتقدمة والنامية. وبعد مفاوضات صعبة ومحتدمة، بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية تحديداً، تم تبني بروتوكول كيوتو، وبحلول نوفمبر(تشرين الثاني) عام 2009م، صادقت على البروتوكول 187 دولة.
2000: لاهاي، هولندا (COP6)
انهارت المفاوضات في مؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP6)، الذي استضافته لاهاي بهولندا، حيث يعود السبب في المقام الأول إلى الخلاف غير القابل للحل بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. ولقد أعلن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش في ربيع عام 2001م أن الولايات المتحدة لن تصادق على بروتوكول كيوتو.
2002: قمة جوهانسبورج
بعد سنوات عشر على «قمة الأرض» التي استضافتها ريو دي جانيرو عام 1992م، عقدت الأمم المتحدة مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة (WSSD) في جوهانسبورغ، بجنوب إفريقيا لتقييم الوضع العالمي والتقدم الذي تم إحرازه في تطبيق الاتفاقات الدولية التي تمّ تبنّيها في ريو دي جانيرو عام 1992م وفي مؤتمر ستوكهولم عام 1972م.
2002 – 2003:
دلهي (COP8) وميلان (COP9)
حاول الاتحاد الأوروبي من دون جدوى في مؤتمر الأطراف (COP8)، الذي عُقد في دلهي بالهند، دفع الوزراء من أجل الاتفاق على إعلان عن ضرورة وضع مزيد من المبادرات للحد من تغير المناخ.
2007: بالي (COP13)
جمع هذا المؤتمر أكثر من 10 آلاف مشارك، من بينهم ممثلون عن أكثر من 180 دولة بالاشتراك مع مراقبين من المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام. وتوّجت أعمال المؤتمر باعتماد «خارطة طريق بالي»، التي رسمت المسار لعملية تفاوض جديدة على أن يتم التوصل إلى اتفاقية بشأنها في مؤتمر كوبنهاغن للتغير المناخي 2009م، بحيث تؤدي في نهاية المطاف إلى اتفاقية دولية حول تغير المناخ لما بعد العام 2012م.
2009: كوبنهاغن (COP15)
عقد مؤتمر كوبنهاغن للتغيرات المناخية أو «قمة كوبنهاغن» في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن في الفترة بين 7 إلى 18 ديسمبر 2009م، حيث ضم المؤتمر الجلسة الخامسة عشرة لمؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP15) والاجتماع الخامس للأطراف لبروتوكول كيوتو، بغية التوصل إلى إطار عمل نافذ للحد من التغير المناخي، بحسب بنود خارطة طريق بالي. ولقد خلص مؤتمر كوبنهاغن إلى ما يعرف بـ«اتفاقية كوبنهاغن»، التي صاغتها الولايات المتحدة والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، (علماً بأن الولايات المتحدة والصين أكبر دولتين منتجتين لغازات الدفيئة)، حيث لم يتم تبنّي الاتفاقية وإقرارها بصورة ملزمة قانونياً، وإنما اتفق على «العِلْم بها» الأمر الذي جعل العديد من الدول والمؤسسات البيئية تعلن «فشل» قمة كوبنهاغن فعلياً!