وجد نسيم الصمادي أسباب عجز الجميع عن تطبيق منظومة العادات السبع كاملة بعدما انخرط في دراسة ومتابعة حثيثة لتعاليم «ستيفن كوفي» استمرت خمسة عشر عاماً، ليكتشف أن نقطة ضعف «العادات السبع» في قوتها، وينبع نقصها من تكاملها وتسلسلها، فإذا انقطعت حلقة منها انهارت منظومتها كلية. في المقال التالي سيفسِّر لنا الصمادي حكمة ورؤية ستيفن كوفي الذي وصفه بأنه أعظم منظّري القيادة دون منازع.
كوفي المعلم
يمكنني القول إن أدق وصف يمكن أن يطلق على فيلسوف ومنظّر القيادة الأول في العالم هو: «المعلم»، ولهذا الرأي سببان لا يعرفهما كثيرون من تلاميذه ومحبيه ومعجبيه.
بداية؛ استطاع «كوفي» صياغة لغة جديدة للإدارة، فوضع لها قاموساً بسيطاً جعل مصطلحات القيادة والتخطيط والتنمية البشرية في متناول الجميع. أفكار «كوفي» ومصفوفاته الفطرية السهلة لم تكن كلها من ابتكاره وبنات أفكاره، لكنه حولها بلغته وجرأته وخياله إلى عناوين مشهورة يتداولها الخاصة والعامة على السواء. وكما يتطور الفلاسفة الكبار، تحوَّل أيضاً من دراسة السلوك إلى تدريب الملوك، ثم عاد في سنواته الأخيرة ليضع وصفاته التربوية المبسطة لبناء نظم تعليم مبدعة؛ تجعل الصغار يتصرفون كالكبار، وتصنع من الطفل قائداً صغيراً، ومن المعلم قائداً كبيراً.
كان «كوفي» مباشراً وجريئاً في تعاليمه الضمنية والصريحة فاستحق لقب المعلم. وإذ تُعد عاداته النصائح السبع جريئة أقنعت العالم بواقعيتها، فقد تضمنت نصوصه عشرات المقولات التي يصعب نسيانها. ومن أشهر تعاليمه قوله: «مفتاح النجاح ليس أن ترتب أولوياتك من واقع جدول أعمالك، بل أن تضع جدول أعمالك منطلقاً من أولوياتك». كما قال: «الإنسان ليس نتاجاً لظروفه وما يحدث له (خارجه)، بل هو نتاج لقراراته وما يحدث فيه (داخله)».
العادات السبع
في عام 1989م، نشر «كوفي» كتاب «العادات السبع» الشهير بعدما قضى سنوات عشر ينقحه ويعمِّقه. كما أمضى عمره وهو يبحث ويدرس فلسفة الإدارة والقيادة في العالم؛ وشمل درسه وبحثه مخرجات القيادة في «أمريكا» من عام 1776 وحتى عام 1976م؛ حتى أفنى عمره وهو يطوِّر مصفوفته الخالدة في القيادة والإدارة.
إذا اعتبرنا «بيتر دركر» أعظم مفكري الإدارة في التاريخ، فإن «كوفي» هو أعظم منظري القيادة دون منازع. ألَّف «دركر» 39 كتاباً باع كلاً منها مليون نسخة، وألَّف «كوفي» حوالي 10 كتب، باع أحدها 39 مليون نسخة. وإذا كان «دركر» هو أستاذ التنظيم في إدارة المؤسسات، فإن «كوفي» هو أستاذ تطوير الذات وأنسنة العلاقات. وقد اتفق كل منهما على أن الفعالية عادة، وحين أوضح «دركر» الفرق بين الكفاءة والفعالية، جاء «كوفي» ليوضِّح الفرق بين الشخصيتين الخارجية والداخلية، واعتبر الكفاءة من سمات الأولى، والفعالية من سمات الثانية. ويكفيه مجداً أنه خالف كل علماء الإدارة حين قال إن الشخصية الحقيقية السوية والقوية هي أساس نجاح الأعمال، وليس التنظيم الإداري ورأس المال. وبتفريقه بين شخصية الإنسان الخارجية المصنوعة، وبين الشخصية الجوهرية الداخلية المطبوعة، يكون «كوفي» قد أثبت خطأ دعاة التغيير السهل القائم على فبركة و«مكيجة» وإعادة إنتاج الشخصية الخارجية من خلال البرمجة اللغوية العصبية. فقد كرّس عمره ليقنعنا بأن الطريق لا تكون مختصرة أبداً، ولم تكن يوماً كذلك لأي ناجح، رغم ما يعتقده الكثيرون في عصرنا سريع الإيقاع قصير الأنفاس، ممن يريدون الثراء المنيع والنجاح السريع، تشجعهم على ذلك أو تدعّم لديهم هذا الوهم كتب من شاكلة: «كيف تصبح مليونيراً في شهر»، أو «اكسب الأصدقاء في عشر طرق»، أو «السر»، أو «قوة التفكير الإيجابي». يريدون أن يحصدوا دون أن يزرعوا ويتعبوا، أو يريدون حصاداً جاهزاً لم يزرعوه بأنفسهم، يريدون الطرق المختصرة والسلالم المتحركة التي تصل بهم في خطوة واحدة إلى النجاح المادي حتى لو كان ذلك على حساب قيمهم وأخلاقياتهم.
مبدأ الفلاّح وطريق الفَـلاَح
وضع «كوفي» قانون «المزرعة» أو «الفلاّح» ومفاده أن الفلاَّح لا يستطيع أن يحصد محصولاً مثمراً ما لم يخطط بحذر لرعايته ونموه، ويعمل بكل جد واجتهاد وصبر ومثابرة على مدار فترات زمنية طويلة. فمجهوده يمر بمراحل كثيرة ومتنوعة، بدءاً من إعداد التربة، وتسميدها، وغرس البذور، وري الزرع ورعايته باستمرار لحين نموه، والتخلص من الأعشاب الضارة، حتى حمايته من الحشرات وأمراض النبات، ومتابعته باستمرار لمعرفة التوقيت الأمثل لحصاده. تحتاج كل هذه المراحل إلى وقت ومجهود متواصل دون استعجال، وإلا ما حصد الفلاح شيئاً. ومن مقولاته المشهورة: «لا يمكن تحسين طعم الثمار دون تغيير وتحسين نوع البذار». ينطبق هذا على جميع مناحي الحياة، كاللاعب الذي يقضي سنوات طوال في التدريب لإتقان لعبته، والطالب الذي يدرس طوال العام ليثري معلوماته ويصقل مهاراته، ويتأكد أنها أصبحت جزءاً من ذاكرته الدائمة وسلوكه، فيضمن النجاح في اختباراته ويزيد فرصه في الحياة وخياراته.
مثلما يُمهِّد الفلاح الأرض، كذلك يجب أن يُعد المرء نفسه للنجاح. عليه أولاً أن يقتلع من رأسه الأفكار الضارة والخبيثة والسلبية، وأن يثريها ويرويها بالأفكار الإيجابية وبالكتب والمحاضرات التدريبية. ثم يغرس بذور النجاح، وعندما تسنح له الفرص، عليه أن يحصدها، في التوقيت المناسب، وبالطريقة الصحيحة. ومثل الفلاح الذي يغرس بذور المحصول الذي يريد بالتحديد أن يحصده، فلا يزرع ذرة، مثلاً، ليحصد قمحاً. على المرء أن يغرس بذور ما يريد أن يحصد. وهنا يأتي دور تحديد الأهداف، حيث يحدد المرء الأهداف التي ينشدها ثم يضع خطة لبلوغها. وأخيراً يحصد الفلاح محصوله في الوقت المناسب، ليس مبكراً فيكون غير مكتمل النمو، ولا متأخراً فيفسد ويعطن. على الإنسان ألا يتردد في اقتناص الفرص حين قطافها. ومثلما تتحسن قدرة الفلاح على زراعة المحصول وحصاده عاماً بعد عام، تتحسن كذلك قدراتنا على تمهيد طريقنا نحو النجاح واقتناص الفرص.
نشر «كوفي» عدداً من الكتب المشهورة التي تُرجمت إلى كل لغات العالم الحية تقريباً. ومن أشهرها بعد «العادات السبع» كتب: «القيادة المرتكزة على المبادىء»، و«الأولويات أولى»، و«العادة الثامنة»، و«البديل الثالث». وقد مات وهو يفكر في كيفية تخليص العالم من الجريمة. إلا أن أعظم إنجازاته كان تطبيقه وممارسته للمبادىء التي ينادي بها. فقد زاوج بين القول والفعل، وبين ما يدعو إليه وما يطبقه. وعندما حاول بعض الأدعياء تقليده، جاءت تجاربهم فاشلة، لأنهم اعتمدوا على فهم سطحي لمقولاته واكتشافاته ومصفوفاته. فلأن مصفوفة «العادات السبع» اعتمدت على التطبيق لا على التلفيق، فلم يفهمها ممن درسوها ودرَّبوها إلا الذين طبقوها.
العادة الثامنة
يرى «كوفي» أن ثوابت الحضارة الإنسانية والدوافع البشرية تتلخص في ثلاثة هي: استمرار التغيير، وحرية الاختيار، ورسوخ المبادىء. فهذه الثلاثية لا تتغير. فالإنسان حر في خياراته التي يجب أن تقوم على المبادئ الكونية الراسخة لمواجهة التغير المستمر الذي لا يتغير. وإذ يرى قرَّاء «كوفي» وتلاميذه ومعارضوه ومؤيدوه أن أعظم كتبه هو «العادات السبع» فإنني أرى أن كتابه «العادة الثامنة» الذي نشره عام 2004م هو الأروع والأنفع.
يتعلق كتاب «العادات السبع» بعلاقة الإنسان بذاته وتحمله لمسؤولياته، ليحقق انتصاراً خارجياً في عالمه هو، بعد انتصاره الداخلي. بينما يتعلَّق كتاب «العادة الثامنة» بانتصار الإنسان على نفسه من أجل الآخر. توجه «العادات السبع» ذاتي، وتوجه «العادة الثامنة» إنساني. الأول ينحو إلى الفعالية، والثاني نحو العظمة. الأول عجز الجميع عن تطبيق «عاداته السبع»، بينما يكفي كل إنسان أن يكتشف أجمل ما فيه، ثم يدعو الآخر ليحذو حذوه، كما تنص العادة الثامنة.
العادة الثامنة التي أفرد لها «كوفي» كتاباً كاملاً هي نفسها «البديل الثالث» الذي وصفه في كتاب آخر. فالبديل الثالث ليس هو الحل الذي تقدِّمه أنت باعتبارك طرفاً في العلاقة، وهو ليس الحل الذي يقدِّمه الطرف الآخر، بل هو الحل الذي تتوصلان إليه معاً ليحفظ لكل منكما الحد الأدنى الذي يحقق لكما علاقة تقوم على مبدأ (ربح/ربح). البديل الثالث يشبه نقطة المنتصف بين رأيك ورأي الآخر. وللوصول إلى هذا البديل الثالث يجب المرور بتحولين أساسيين: التحوُّل من التصادم إلى التفاهم، والتحوُّل من التحامل إلى التكامل.
اكتشف صوتك .. واعرف نفسك
هذا الفهم الناقد لنظرية «كوفي» لم يدركه كثيرون. ولكني أجزم بأن كتاب «العادة الثامنة» التي تقول: «اكتشف صوتك وساعد الآخرين على اكتشاف أصواتهم»، جاءت لتصحح ما اعترى مصفوفة العادات السبع من قصور. فقد يكون صوتي أو صوتك واحدة أو اثنتين أو ثلاثة من العادات السبع، نشكِّل منها مزيجاً قوياً يبذر أجمل ما فينا في تربة الواقع اليومي المعاش، لينبت أداءً، ويزهر فعالية، ويثمر عظمة. فعادة واحدة مميزة تكفي إذ نركز عليها أن تتحوَّل إلى إبداع لا اتباع، وإلى قوة لامتناهية من الفعالية والأداء المتميز. أما تطبيق العادات السبع كلها، في تسلسلها وتصاعدها من الخاص إلى العام، ومن الجزئي إلى الكلي، فهو أمر مستحيل. فمن لا يملك أحدها كجزء من ذاته، وفي إطار قدراته، فلن يستطيع إعادة بنائها وإنشائها، لأن فاقد أي شيء -من القدرات والجدارات والدوافع والرغبات الإنسانية- لا يأخذه ولا يعطيه. فشخصيتنا الجوهرية هي نتاج مركَّب ومزيج من عاداتنا اليومية النمطية واللاواعية التي نفعلها يومياً، حتى دون أن نريدها كما يقول «كوفي» نفسه.
مصفوفة الأولويات
عبر سنوات عمره اللاحقة التي أعقبت كتاب «العادات السبع» الذي كان بمثابة دستور لحياته ولحياة الكثيرين، تناول «كوفي» معظم العادات السبع بالتفصيل في كتب منفصلة، كان منها «الأولويات أولى». فـ «كوفي» كان من أكثر الناس المهتمين بإدارة الوقت. وقد طرح «مصفوفة إدارة الوقت» المكونة من أربعة مربعات، أطلقت عليها مربعات: (الاتباع والإبداع والخداع والضياع) وهي:
• مربع الاتباع (الإدارة): يشمل الأنشطة العاجلة والمهمة وهو مربع التنفيذ واتباع النظام.
• مربع الإبداع (القيادة): يشمل الأنشطة المهمة وغير العاجلة وهو مربع التخطيط وابتكار النظام.
• مربع الخداع (التشتت): يشمل الأنشطة التي تبدو عاجلة ولكنها غير مهمة، فهو يخدعنا لنسقط في دوامة أعمال الآخرين، وهو مربع عدم التركيز وعدم التفويض.
• مربع الضياع (المتعة): يشمل الأنشطة غير المهمة وغير العاجلة والتي يجب تجنبها لكننا نغرق فيها لما يصاحبها من متع وما توهمنا به من إحساس بالإشباع اللحظي.
يرى الدكتور «كوفي» أننا لو كنا نعيش في عالم مثالي أو خيالي، لاخترنا جميعاً أن نعيش في المربع الثاني الذي يدور حول الاستعداد والتخطيط للمستقبل وبناء العلاقات والبحث عن فرص. لكن الغالبية العظمى منا تبقى تراوح دائماً بين المربع الأول حيث تقودها الأمور العاجلة، فتنجرف وراء الأزمات والمشكلات الضاغطة والاجتماعات المفاجئة والمواعيد النهائية، أو في المربع الثالث فتنشغل بكتابة التقارير الروتينية أو تتعرض لعشرات الإلهـــــــاءات والمقاطـــــــعات والمكالمات الهاتفية المهدرة للوقت، وبعضنا يسقط في المربع الرابع، فيتسكع ويُدمن المخدرات وينطوي على الذات، منكفئاً لأيام وشهور وسنوات، فلا نخطط للحياة على المدى البعيد، فيختل توازن وقتنا وعمرنا.
يرجع الفضل في الأساس في وضع هذه المصفوفة إلى الرئيس الأمريكي الراحل «آيزنهاور» الذي كان مهتماً بإدارة الوقت فقال: «نادراً ما يكون المهم عاجلاً، ونادراً ما يكون العاجل مهماً». ثم جاء «كوفي» وأعاد إخراج هذا المبدأ وأعطاه اسم «مصفوفة إدارة الوقت» في كتابه الأشهر الذي ارتبط باسمه «العادات السبع» ثم خصص له لاحقاً كتاباً تفصيلياً بعنوان «الأولويات أولى» وقال إننا باتباعنا هذه المصفوفة سنتغلب على ميلنا الفطري إلى التركيز على الأنشطة العاجلة، ونوفر بدلاً من ذلك وقتاً للتركيز على المهم.
تحول المنظور ورصيد العواطف
من الأفكار المؤثرة التي طرحها «كوفي» مفهوم «تحوّل المنظور»، والمنظور هو الزاوية الذي ينظر منها المرء إلى العالم ويكوِّن رأيه وفقاً لما تعلمه أو اعتاد عليه، ووفقاً لمكانه ووضعه وخريطته. تحول المنظور يعني أن نغيِّر طريقة رؤيتنا للأمور، لأن الطريقة التي ننظر بها إلى المشكلة غالباً ما تكون هي المشكلة، أو هي حل المشكلة.
أما في مفهومه عن «القيادة المرتكزة على المبادئ»، فذكر «كوفي» عشر معضلات يواجهها القادة، مثل: كيفية تحقيق توازن بين الحياة العملية والعائلية، وكيفية تحرير الطاقات المكبوتة في الموظفين الموهوبين الذين يملكون من الموهبة ما لا يتجسد في وظائفهم، وكيفية خلق ثقافة الاحترام والتنوع دون تحامل وتحيز، وكيفية تحويل رسالة المؤسسة إلى دستور مؤسسي يؤمن به الجميع ويطبقه عن اقتناع، وكيفية الحفاظ على سيطرتك على الموظفين وفي نفس الوقت تترك لهم مساحة ليعملوا بحرية واستقلالية.
البديل الثالث
اهتم «كوفي» بالذكاء العاطفي وطرحه من منظور جديد حين تحدت عن «الرصيد العاطفي». فهو يرى أن أنانية المرء واهتمامه بنفسه على حساب الآخرين يخلان بتوازن العلاقات بيننا وبين الآخرين. نحن نفتح «حساباً عاطفياً» لدى كل من نعرفهم، ومثلما هو الأمر مع الحساب البنكي فإننا نستطيع أن نُودع في هذا الحساب «العاطفي» أو نسحب منه. كل منا لديه أكثر من حساب: لدى والديه، أبنائه، شريك حياته، أصدقائه، مديره، وحتى لدى نفسه. لكن الثقة هي أساس ومفتاح كل هذه الحسابات العاطفية، فعندما تودع في هذا الحساب -كأن تفي بوعدك أو تعلن عن تقديرك لشخص معين- يزداد رصيدك وتزداد فوائده. وكلما زاد هذا الرصيد العاطفي، كان سهلاً أن يتغاضى هؤلاء عن أخطائك ويتسامحون معك. أما إذا سحبت منه -كأن تتعالى عليهم أو تكثر من انتقادك لهم ولومهم- فلن تجد منهم إلا الشك والكراهية، حتى تعلن إفلاسك النفسي والاجتماعي. هذا الرصيد العاطفي أهم من أرصدتك البنكية، ولهذا يجب أن تُودع فيه يومياً لكي تغطي أي عمليات سحب قد تضطر لها مستقبلاً.
عند تطبيق نظريته حول «الرصيد العاطفي» ركِّز على فكرة «الاعتراف بالاختلاف» والاستماع إلى وجهات النظر المعارضة. فعندما نواجه شخصاً يختلف معنا، فإننا ننحو غالباً إلى اتخاذ مواقف دفاعية بصورة تلقائية أو عشوائية. أما البديل الثالث فيعتمد على الحدس، لأنه يحثنا على تقدير من يختلف معنا بدلاً من بناء جدران دفاعية نحتمي خلفها. وقد اعتبر «غاندي» مثالاً يُحتذى لأنه تعلَّم التضافر مع النفس وابتكر بديلاً ثالثاً وهو اللاعنف الإبداعي؛ فتجاوز مستوى التفكير في بديلين اثنين، فلم يستسلم أو يحارب، لأن هذا هو الأسلوب الذي تتبعه الحيوانات، إما أن تحارب أو تهرب. أما هو فقد ذهب إلى جنوب إفريقيا ليعود أوسع خيالاً واستعداداً لأن يحب حتى يموت، أو يموت حتى لا يكره.
التربية حرية إبداعية
لم ينسَ «كوفي» تنمية الأطفال وتطويرهم كقادة من منظور تربوي ضروري للتنمية البشرية. وقد أكد في كتابه «القائد في داخلي» أن التربية الحقيقية رديف للحرية. فإذا اعتبرنا كل الأطفال موهوبين، ونظرنا إليهم كذلك، فإنهم يرتقون إلى مستوى توقعاتنا! إذا عاملت الطفل كما هو فسيعطيك أسوأ ما لديه، أما إذا عاملته كما يمكنه أن يكون، فسيعطيك أفضل ما لديه. فالقيادة هي تعبير عن قدرات وملكات الإنسان حين يكتشفها بنفسه!
وكما أن هناك أربعة جوانب لدينا تجب رعايتها وتجديدها أولاً بأول، فكذلك الأمر مع الطفل. فالطفل لديه احتياجات أساسية لازمة لنموه كي يصبح سعيداً ومنتجاً في مجتمعه، وهي احتياجات بدنية (الصحة الجيدة والغذاء السليم والرياضة والنظافة الشخصية)، ونفسية واجتماعية (العطف والحنان والأمان والصداقة والحُب)، وعقلية (التنمية الفكرية والإبداع والتحديات المثمرة)، وروحية (المشاركة والتميز والقيمة وتحقيق الذات). ومثلما اكتشف «جيم كولنز» في كتابه «من جيد إلى رائع» المستوى الخامس للقيادة، فقد تحدث «كوفي» عن المستوى الثالث للتعليم الذي يحتل قمة هرم النمو الإنساني. فعندما يشعر الطالب بقبول الآخرين وتفهمهم له، يصبح قابلاً للتأثر والتغير. وحين يكون المدير قدوة حسنة للمعلمين، ويكون المعلمون قدوة للطلاب؛ تجمعهم بهم علاقات متينة، يصبحون هم أيضاً أكثر تقبلاً للتأثير، فيصبح التعليم نتاجاً وحصاداً ومتراكماً لكل ما يُرى، ويُسمع، ويُحَس!
الفرق بين «كوفي» و«جاك ولش»
القاسم المشترك في كل نظريات ومفاهيم «كوفي» هو سعادة الإنسان والتخطيط للمدى البعيد. في حين أننا إذا نظرنا إلى عبقري آخر في مجال الإدارة مثل «جاك ويلش» لوجدنا أن جميع نظرياته تنصب حول النجاح الذي لا يتحقق إلا بالأرباح. «جاك ويلش» مثل «كوفي»، يطبق ما يقول وينفذ ما يطلبه من الآخرين. أما نموذجه في القيادة فيقسِّم الموظفين إلى أربعة أنواع أيضاً:
•
أخلاقي ومهاري: يلتزم بثقافة المؤسسة ويتقن عمله. وهو من نحرص على توظيفه دائماً.
•
أخلاقي وغير مهاري: يلتزم بأخلاق المؤسسة ولا يتقن عمله، وهو من ندربه فنياً.
•
غير أخلاقي ومهاري: لا يلتزم بثقافة المؤسسة ويتقن عمله، وهو من ندربه سلوكياً.
•
غير أخلاقي وغير مهاري: لا يلتزم بثقافة المؤسسة ولا يتقن عمله، وهو من يجب استبعاده فوراً.
وهو بذلك عكس «كوفي» الذي يركِّز على الإنتاجية من السعادة، لأن «ويلش» ظل وما زال يركز على الإنتاجية الاقتصادية من حيث الربح والمال والأداء العملي فقط. ولهذا فإن «ستيفن كوفي» كان أبعد ما يكون عن «ولش» وأقرب ما يكون إلى «جيم كولنز» الذي غلَّب الجانب الإنساني والقيمي والفكري، على كل ما هو تجاري ومالي واقتصادي وربحي.
خلاصة مفاهيم «كوفي» هي أنه ليس بمقدور كائن من كان أن يحقق النجاح منفرداً وبتخطيط قصير النظر، لأن السعادة والريادة والقيادة نجاحات تتحقق على المدى البعيد. ولا يمكن لضمير الإنسان أن يستريح ويشعر بالطمأنينة وينعم بالنوم الهانئ إلا من خلال إسعاد الآخرين.
مات «كوفي» وترك ذكرى خالدة، وتراثاً إنسانياً عظيماً يجعلنا نسترجع مجريات حياتنا ونسأل أنفسنا: «ماذا قدَّمنا للعالم؟». مات وهو يؤمن بأننا نستطيع أن نختار أفعالنا، لكننا لا نستطيع أن نحصر ونحجم تداعيات تلك الاختيارات. كان يركب دراجته الهوائية في الهواء الطلق، فانطلقت مسرعة وهوت به فمات، لكن ذكراه وبصمته وحُب العالم له سيبقى خالداً في تاريخ الفكر الإنساني وإلى الأبد. فقد أحب عالمه وأعطاه، وهو الذي قال: «الحُب كشعور هو الثمرة الناضجة للحُب كفعل».
مصفوفة «العادات السبع»
بعد اكتشافي لنظرية «التمتين» أدركت لماذا عجز الجميع عن تطبيق منظومة العادات السبع كاملة. تكمن نقطة ضعف «العادات السبع» في قوتها، وينبع نقصها من تكاملها وتسلسلها، فإذا انقطعت حلقة منها، انهارت منظومتها كلية. قسَّم «كوفي» العادات الست الأولى بين الانتصارات الذاتية والانتصارات العامة، فالثلاث الأولى ذاتية وهدفها تحقيق الاستقلالية للفرد، والثلاث الثانية إنسانية وهدفها تحقيق التآزر والتعاون بين جميع بني البشر. وهذه هي عناوينها لمن لا يعرفها:
•
كن واعياً ومبادراً (عادة المسؤولية)؛ وهي تصف حرية الاختيار بين الفعل ورد الفعل، بين فقدان الوظيفة وفقدان احترام الذات، ليكون الإنسان مسؤولاً عن حياته وممسكاً بزمام السيطرة فيها؛
•
ابدأ والنهاية في ذهنك (عادة القيادة والرؤية البعيدة)؛ هذه العادة تشجِّع على رسم خطة طريق بعيدة المدى واتخاذ مجموعة من الخيارات «المبادئية» – أي المرتكزة على المبادئ – حول المستقبل؛
•
انجز الأولويات أولاً (عادة الإدارة وتنفيذ الأهم قبل المهم)؛ فالمهم -حسب «كوفي»- ليس إدارة الوقت وإنما إدارة الذات للتركيز على إحراز النتائج الإيجابية؛
•
فكر ربح / ربح (عادة المساواة والعدالة)؛ أي تحقيق الفائدة والمكسب المتبادل لجميع الأطراف، فيربح هذا ويربح ذاك، وهذا أفضل أساليب التعامل الإنساني لأنه يعني أن الاتفاقات والحلول مناسبة للطرفين، أو أن الأمور لن تمضي بالشكل الذي يرضيك أو يرضيني، بل بالشكل الأفضل والأنسب لكلينا؛
•
اسمع قبل أن تُسمع (عادة التواصل الإيجابي)؛ هذه العادة تدعونا لنتعامل مع الآخرين وكأنهم عاشوا نفس ظروف حياتنا وفي نفس البيئات التي نشأنا فيها، أو أن نتوقع منهم أن يتخذوا نفس ردود أفعالنا، كما تتطلب درجة كبيرة من الأمان الداخلي والثقة بالنفس لأن الإنسان يكون معرَّضاً للتأثر وتغيير أفكاره بناء على ما يسمعه من الطرف الآخر؛
•
تآزر مع الآخر (عادة روح الفريق)؛ وهي تدمج جميع العادات السبع في كبسولة واحدة، فعندما يتحد الناس يصبح الكل أفضل من مجموع أجزائه، ولذلك يرى «كوفي» أن التآزر هو الحل الوسط أو «البديل الثالث»، فلا تصبح هناك «طريقتي» ولا «طريقتك» وإنما «طريقتنا» كفريق، وهو ما يُعد صدى ونتيجة لتطبيق العادة الرابعة؛
•
اشحذ المنشار (عادة التجديد والاستعداد الدائم)؛ وبهذه العادة يعود بنا إلى الفرد من جديد ليجعله مستقلاً بحق، وقادراً على التعاون مع الآخرين، فمثل أي أداة أو جهاز يحتاج الإنسان إلى صيانة وشحذ مستمرين. ولهذا يقترح «كوفي» أن نقضي ساعة كل يوم في رعاية احتياجاتنا الحياتية الأربعة: الجسدية والعقلية والروحانية والاجتماعية/العاطفية، بالصلاة والتأمل وممارسة الرياضة أو قراءة كتاب أو كتابة المذكرات أو العيش على حمية غذائية متوازنة أو إدارة ضغوط الحياة، أو خدمة الآخرين. فعندما نجدد طاقتنا بهذه الوسائل يحالفنا النجاح في بقية جوانب حياتنا.