ما بين بطاقة الائتمان في جيوب الأفراد، والإعلانات التجارية التي تدعونا إلى شراء هذه السلعة أو تلك بواسطة الكومبيوتر، هناك اقتصاد عملاق وصل حجمه إلى أربعة تريليونات دولار خلال هذا العام.
إنه اقتصاد الشبكات الذي يحدثنا عنه الزميل أمين نجيب، ويعرض لنا بعضاً من آثاره المهمة في مجمل المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية التي أُسست مع الثورة الصناعية، وترسخت لأكثر من قرنين من الزمن، وتبدو اليوم عرضة لتغييرات شاملة.
لم يشهد تاريخ التكنولوجيا تأثيراً كبيراً وسريعاً في الاقتصاد كالذي أحدثته شبكة الإنترنت. فالتجارة عبر الإنترنت التي تسمى أحياناً التجارة الإلكترونية أو الأعمال الإلكترونية eBusiness e-commerce لم تكمل بعد أعوامها الثمانية. ورغم ذلك فقد أحدثت في هذه المدة القصيرة تحولات عميقة في مسار اقتصاديات دول العالم وأخذت تفرز مفاهيم جديدة حول القوانين الاقتصادية نفسها. كما برزت مصطلحات جديدة في الكتابات الحديثة مثل اقتصاد الشبكات ومجتمعات الشبكات. حتى أن تي. مورفي يذهب بعيداً في نظرياته التي نشرها في كتابه الصادر عام 2000م بعنوان “قواعد الشبكة”، فيقول: “إننا نشهد أكبر انتقال لمراكز القوة في التاريخ”. ويعني بذلك أن السلطة التي كانت سابقاً في يد المنتج (في ما يسمى أحياناً عصر فورد) بدأت تنتقل إلى المستهلك. وهذا بحد ذاته تغيير هائل يصحب معه تغييرات كبيرة في المفاهيم وفي النظرة إليها. فكثير من المفاهيم القديمة للدولة والطبقة والشركة والحزب والجمعية وغيرها تتعرض اليوم للاهتزاز الشديد نتيجة لهذه التغييرات الكبيرة الحاصلة على صعيد علاقات اقتصاد الشبكات.
ما نعنيه باقتصاد الشبكات هو جميع الأعمال التي لها علاقة بالإنترنت من بطاقات الائتمان التي نستعملها في السوبرماركت إلى أعمال البورصة والتبادلات المالية والتجارية بين الشركات، وأيضاً بينها وبين جموع المستهلكين.
لقد مرت هذه الاقتصادات بثلاث مراحل خلال المدة القصيرة من تاريخها. فالمرحلة الأولى كانت مقتصرة على أعمال الدعاية عبر الشبكات، والمرحلة الثانية شهدت وضع “طلبات عبر الشركة” وبعض المعاملات الاقتصادية، والثالثة تضمنت معظم أشكال الأعمال الاقتصادية الأساسية إضافة إلى الحوافز الموجهة إلى المستهلكين.
وجاء في تقرير لشركة الأبحاث IDC أن حجم الاقتصاد عبر الشبكة في السنة الجارية هو بحدود 4 ترليون دولار أي ما يعادل تقريباً عشر مرات حجم مبيعات النفط في العام، ومن المتوقع حسب مصادر أخرى أن يتضاعف هذا الرقم خلال العام المقبل. وفي عام 2000م كان هناك نحو 106.4 مليون مستهلك على الخط Online Buyers، أما التوقعات لعام 2006م فتتحدث عن 464.1 مليون مستهلك. ولتأكيد عالمية هذه الشبكة، فإن التوقعات تشير إلى أنه سيكون هناك 21 في المئة فقط أمريكيون ويتوزع الباقون على أنحاء العالم كافة.
نهاية عصر الدكان
وقد شهدت الشركات التي انخرطت في اقتصاد الشبكات مثل America Online و eBay و Amazon وغيرها ارتفاعاً في مداخيلها وصلت إلى نحو 42 في المئة وتقلص مجموع التكاليف بنسبة 59 في المئة. حتى أن شركة IBM العملاقة أنشأت شركة أخرى اسمها WebSphere متخصصة في مكننة الشركات التي تخطط للانخراط في التجارة عبر الشبكة. ويقول لوتنباخ مدير هذه الشركة: “إن النمط القديم من الأعمال قد ولّى إلى غير رجعة”.
ونتيجة لهذا التطور فقد شهد السوق العالمي نشوء شركات جديدة صغيرة أخذت تنافس الشركات القديمة العملاقة وتسحقها أحياناً. فشركة Amazon.com المتخصصة في الكتب والنشر وسّعت مجال نشاطها إلكترونياً وسحقت شركة Barnes & Noble. كما أن شركة Elsevier الهولندية، التي كانت سباقة في إطلاق قواعد معلومات واسعة في مجال النشر العلمي، توسعت في أنحاء العالم كافة وسيطرت على نحو 30 في المئة من سوق النشر، كما أنها اشترت العديد من كبريات دور النشر التقليدية في أوروبا وأمريكا وغيرها مثل Pergamon الإنجليزية و Academic Press الأمريكية وغيرها. أما Google و Yahoo فقد سيطرا على سوق الدعاية. وشركة Expedia سحقت Orbitz في مجال أعمال الطيران، في حين أن شركتي Kazaa.com و iTunes أزالتا من الوجود كبريات شركات الموسيقى، وسيطرت Paypal و eBay على التحويلات المالية عبر الإنترنت.
ونتيجة لهذه “الثورة” أصبحت الكثير من التخصصات القديمة، وحتى الحديثة منها في مجال المعلوماتية وإدارة المعارف مهمشة وبلا جدوى. فجميع أمناء المكتبات في أنحاء العالم يتحدثون مثلاً عن “الغوغلة” (Googlization) والاشتقاق من شركة Google لأنها تقدم للمستهلك طرقاً سهلة يستطيع بواسطتها الوصول إلى أي موقع إلكتروني والحصول على أية معلومات يريدها من دون أية مساعدة متخصصة.
المستهلك الجديد ومجتمع الشبكة
وبحكم الطبيعة التفاعلية (Interactive) للشبكة فإن المستهلك الجديد لم يعد هو نفسه المستهلك القديم المغيب في الاقتصاد التقليدي. فالمستهلك على الشبكة يتفاعل مع المنتج ومع المستهلكين الآخرين. وأصبح بإمكانه أن يكتسب معلومات شبه كاملة عن السوق وعن السلعة. وقد كان الافتراض الأساسي في النظريات الاقتصادية التقليدية من سميث إلى كينز إلى صمويلسون أن عند المستهلك معرفة كاملة لبناء نموذج مثالي للتنافس. ولأن هذه المعرفة كانت ناقصة إلى درجة أن النظام الاقتصادي الرأسمالي جنح إلى الاحتكار، طرح كينز نظريته الشهيرة حول تدخل الدولة في الاقتصاد وإنشاء المصرف المركزي. بهذا المعنى، ولهذه الأسباب، اكتسب المستهلك قوة جديدة، جعلته فاعلاً في السوق. فأصبح العامل الأساسي لنجاح أية شركة جديدة، هو في مدى جاذبيتها للمستهلكين على الشبكة ومدى التصاق هذا المستهلك، أي الوقت الذي يصرفه على موقع معين، لهذه الشركة أو تلك.
ومن هنا برزت فكرة أو مفهوم “المستهلك المتفاعل” وأصبحت البيئة التي يوفرها هذا الموقع أو ذاك هي الأمر المهم. وبذلك أصبح المستهلك هو صاحب الشأن، لا يكتسب قوته من توفر أو سهولة حصوله على المعلومات فقط، بل من الإحساس بالانتماء الجماعي إلى هذا الموقع أو ذاك. وعلى سبيل المثال فإن شركة مثل eBay تعطي ميزة “الوضع الخاص” Status أو المنزلة لأي شخص ليس بالنظر إلى شهرته أو مدى ثروته، بل لكمية المستهلكين الآخرين الذين يتجاوبون مع مقترحاته وأسئلته على الشبكة. وبما أن كثيراً من القوانين الاقتصادية التقليدية لم تعد صالحة في هذا الوضع الجديد، مثل قانون المردود المتزايد وقانون تآكل السلعة (لأن السلعة الأساسية على الشبكة هي المعلومات، والمعلومة تتغير دون أن تتآكل) فإن أهمية وقيمة أية شبكة هي في أعداد الذين يدخلونها ومعدل الوقت الذي يصرفونه في التنقل على مواقعها أو الاتصال بغيرهم من المستهلكين والمنتجين. فبرز إزاء ذلك “مجتمع الشبكة” (Network Community).
ولأن البيئة، أي بيئة الشبكة والموقع هي المهم وليس السلعة نفسها وقيمة استعمالها، فإن الدعاية والإعلان أصبحا يركزان على الأسلوب والشكل والصورة دون المضمون. وبهذا المعنى تصبح شركات مثل Amazon و Microsoft و AOL America Online شيئاً مختلفاً عن شركات أعمال تنتج وتبيع وتروج للسلع، بل أصبحت شركات تخلق وتخدم مجتمعات. فشركة Amazon مثلاً توفر لمجتمع شبكاتها كثيراً من النشاطات الفردية، كمراجعة كتاب مثلاً ونشره على الشبكة مهما كانت قيمته الفعلية. وشركة AOL حققت 30 في المئة من مجموع أرباحها السنوية لعام 2003م والبالغة 6.9 مليار دولار، من مردود ومصادر على الشبكة اشتغل بها متطوعون من مجتمعها على الشبكة، وفروا عليها نحو مليار من التكاليف.
“العالمية” بمفهومها الجديد
من السمات الأساسية لهذه “المجتمعات الشبكية” أن قسماً كبيراً من نشاطها هو خارج سلطة قوانين الدولة، أي دولة. فهي غير محصورة داخل حدود معينة. والمثال الساطع، الخطير أحياناً، هو سوق الأدوية والعقاقير الطبية وغيرها في إنجلترا. فرغم الضوضاء الكثيرة من قبل اللوردات ومجلس العموم وغيرهم من المسؤولين، لم يستطع أحد أن يسن قوانين تضع هذه التجارة الإلكترونية تحتها.
وبما أنه أصبح لأية شركة مصلحة في التوسع عالمياً، وأصبح لزاماً عليها التعرف عن قرب إلى حضارة وثقافة ولغة الآخرين فقد اكتسب المستهلك قوة جديدة بوجه المنتج واكتسب صفة عالمية أيضاً. كذلك لم يعد بإمكان المنتج أو الدولة وضع قوانين إلا بما يرضي جموع المستهلكين هؤلاء، نتيجة لطبيعة التنافس الجديد من نوعه على صعيد الكوكب. فباستطاعة المستهلك الجديد أن يتنقل بسهولة من بيئة إلى أخرى نتيجة للطبيعة التفاعلية لهذه الوسائط الإلكترونية نفسها، خصوصاً لسرعتها.
فالشبكة وضعت حداً لنموذج الإنتاج السوقي التقليدي وأعطت المستهلكين قوة المقاومة الجماعية على نطاق واسع لم تكن موجودة في السابق على الإطلاق. كما انتهى ذلك المستهلك المغيب الواقع تحت سلطة الدعاية والمجبر على الاستهلاك عبر خيارات محدودة. وأصبحت الدعاية تنتشر بواسطة المستهلكين وعلاقاتهم فيما بينهم. فالعلاقة ما بين المستهلكين أصبحت عاملاً حاسماً في اقتصاد الشبكات. كما أصبح كل مستهلك يعي أنه بمقدار ازدياد أعداد الداخلين على الشبكة أو مجتمعها تزداد قيمة كونه عضواً في هذه البيئة. ويجب الإشارة هنا إلى أننا نتكلم عن مئات ملايين البشر في كل أنحاء المعمورة.
وبما أن الموارد الأساسية على الشبكة، أي المعلومات والمعارف وأخيراً الهوية الاجتماعية والانتماء الحديث، لا تعاني “القلة” (Scarcity) كما الموارد التقليدية، وكما أن المستهلك لم يعد ذلك الفرد الذي تقتله الغربة كما في الإنتاج الرأسمالي القديم، فقد أصبح توسع اقتصاد الشبكات من دون حدود وهذا التطور الهائل والمتسارع الجاري يهدد بالإطاحة الكثير من المواقع والمفاهيم التقليدية، ويطرح أسئلة جوهرية حول كافة المؤسسات في المجتمعات القديمة والحديثة في آن.
فمنذ بضع سنوات ونحن نتساءل لماذا تقدم لنا شركات مثل Yahoo و Microsoft وغيرهما مواقع مجانية على الشبكة فيصبح بإمكاننا أن نتصل بأنحاء الكرة الأرضية كافة، بسهولة بالغة. بعضنا كان يظن أنها أندية خيرية أو أنها شركات ودودة تعطي للجماهير ما فاض عندها أو لمجرد الدعاية. كما أن بعضاً منّا ذهب بعيداً ليقارنها ببعض المساعدات من الحكومة الأمريكية بشكل أكياس من الطحين عليها رسم ليدين متشابكتين وتحتها عبارة “تقدمة من الشعب الأمريكي”. أما بعضنا الآخر فقد كان متأكداً أنها عيون للوقوف على كل شاردة وواردة عندنا وقال بأنها رمز المؤامرة. أما اليوم، فبتنا متأكدين من أنها العولمة وأننا جزء منها، سواء وعينا ذلك أم لم نعِ.
—————————————
كادر
كيف تصبح ناشطاً على الشبكة
عليك أن تتصل أولاً بموقع البنك الذي تتعامل معه، وتطلب إليه تزويدك ببطاقة دفع إلكترونية. وعندما تصبح هذه البطاقة بحوزتك، وترغب بشراء بعض السلع الاستهلاكية أو غيرها، عليك أن تدخل من جهازك إلى موقع سوق مركزي (سوبرماركت) معين، وتستطلع أسعار السلع المعروضة فيه. ومن ثم يمكنك أن تنتقل إلى سوق آخر أو أسواق عديدة لمقارنة الأسعار وجودة السلع ومدة الصلاحية.. بعد ذلك تضع كل سلعة تختارها على لائحة معينة هي لائحة الاختيارات. ثم تتوجه إلى المربع المخصص لأرقام بطاقات الدفع، فتضع رقمك وتضغط على حقل الشراء، فتظهر فوراً صفحة المؤسسة المصرفية التي أصدرت بطاقتك طالبة إليك أن تضع كلمة السر. وبمجرد وضعك كلمة السر، تكون عملية الشراء قد تمت. فإذا كنت في المدينة نفسها التي توجد فيها سلعتك المختارة، فإنها ستصلك خلال وقت قصير جداً. أما إذا كان طلبك في بلدان أخرى، فعليك أن تنتظر الوقت الذي يستغرقه البريد السريع.
هذه هي واحدة من أبسط العمليات على الشبكة، غير أن بعضها يتدرج في التعقيد بدءاً بشراء سيارة مثلاً ودخولك مجتمع الشبكة المعنية لاستطلاع آراء المستهلكين الآخرين في السيارة نفسها قبل أن تتخذ قرارك النهائي.. وصولاً إلى إجراء التحويلات المالية على أنواعها، وصرفها، وشراء الأسهم وسندات الخزينة وما إلى ذلك.. وكل ذلك يقوم على الأسس الأولية لطريقة “السوبرماركت” مع بعض الاختلافات الخاصة بكل نوع من أنواع المعاملات.