جون فانتي روائي أمريكي، هكذا يصنِّفه المخضرمون من أساتذة الرواية الأمريكية الحديثة، فيما احتاج جيل الشبَّان اليوم إلى مشاهدة روايته «اسأل الغبار» مصوَّرة سينمائياً لكي يكتشفوه. (فِلم «اسأل الغبار» قام ببطولته كولن فاريل وسلمى حايك، وعرضته إحدى الفضائيات العربية مؤخراً). و«اسأل الغبار» هي واحدة من رباعية روائية كتبها فانتي الذي عُرف أيضاً بقصصه القصيرة وكتابته للسيناريوهات السينمائية، ويتميز أسلوبه بالجمل القصيرة والسلاسة القادرة على أسر ذائقة القارئ.
تقع رواية فانتي «اسأل الغبار» في 165 صفحة. وينطلق المشهد الأول فيها من على سرير بطل الرواية الشجاع والتعيس في الوقت نفسه أرتورو بانديني، في قلب لوس أنجلس. ليكون أمام قرار كبير في حياته، هل يدفع إيجار ليلة إضافية في الفندق، أم يغادر؟ نعم بهذه الطريقة يفكر ويعيش بانديني، ومن هنا بالذات يلاحظ القارئ اتصاله وتماهيه مع هذا البطل. حياته دائماً على المحك، حتى لو كان هذا المحك هو مجرد تناول شطيرة جبن، أو نوم ليلة واحدة. هذه البساطة القاتلة التي يتمكن من خلالها فانتي من إمدادنا بالأكاذيب الصادقة، والمبالغات الجميلة، مبهرة ومثيرة وتجعلك تنهض من سرير بانديني لتحاول التدخل في المشهد، وربما فعل شيء لمساعدته.
بعد المشهد الأول هذا، ينطلق بانديني للتجول في أرجاء مدينته لوس أنجلس التي يحبها ويخاطبها بأرق طريقة ممكنة قائلًا: «لوس أنجلس، أعطيني قليلاً منك! لوس أنجلس سيري إليَّ بالطريقة نفسها التي أسير إليك فيها، أقدامي على شوارعك، أنتِ أيتها المدينة الجميلة التي أحببتها كثيراً، أنتِ أيتها الوردة الحزينة في الرمال، أنتِ أيتها المدينة الجميلة». إنها مغامرة الكاتب المغوار في قلب المدينة الكبيرة التي لا ترحم. يتودد إليها، ويؤمن بقواه الخارقة للتواصل معها، لأنه كاتب، يعيش في مجازاته ويخلق ما يريد، ثم يتحدث مع أناسه، وينشئ حياة كاملة معهم.
الطريقة التي يستطيع بها فانتي خلق مونولوج بانديني، تفتنني في كل مرة، وكأن العالم يتوقف عندما يتحدث بانديني إلى نفسه. يصبح هو الملك، وهو المسيطر، وكل الأشياء تصغي إليه، ها هي رسالته الجميلة وصلت إلى بريده من ناقد إيطالي يدعى ليوناردو، يكتب إلى بانديني ليمتدح قصته القصيرة «ضحكَ الكلب الصغير» ولكن هذا الناقد كان قد توفي عندما وصلت رسالته إلى بانديني، وكان آخر ما قام به هو كتابة هذه الرسالة. يكمل بانديني حديثه الحالم عن قصته، وكيف أنه جعل كل من في الفندق يطلع عليها.
وفي خضم صراعه لإثبات ذاته ككاتب، يضربه الحب على رأسه ويلتقي بانديني نادلة المطعم المكسيكية كاميلا لوبيز، التي تصارع لأجل البقاء. ويتصاعد الاثنان في لحظات من الشغف المتبادل، حتى يصل بانديني إلى نجاحه وينشر روايته الأولى، ويدرك حياة الكاتب التي طالما تخيل وحلم بها، لتصاب كاميلا لوبيز عندها بانهيار عصبي وتختفي تماماً من حياته.. فيجنَّ جنون بانديني ويعود ليرفض حياة الكاتب التي حارب طوال عمره للوصول إليها.
القدرة على بعث المنسي فينا
ينجح جون فانتي في هذه الرواية في نقل كل شيء عبر شعور بانديني به، لا نعلم إن كان هذا حقيقياً، أم متخيلاً لا يعدو كونه حلماً داخل عقل بانديني، ولكننا نعلم أنه الرجل الوحيد الذي بإمكانه أن ينقل إلينا القصة كاملة، بخوفها ورعشتها، بكبريائها وخيباتها أيضاً. من الممكن لهذه القصة العظيمة الواقعة بين الكفاح والحب، والغرور، والألم، ألا تكون سوى خيالات جرّبها بانديني وهو مستلقٍ على سريره في الفندق الذي لم يقرر دفع إيجاره بعد.
يدرك بانديني حياة الكاتب التي طالما تخيل وحلم بها، لتصاب كاميلا لوبيز عندها بانهيار عصبي وتختفي تماماً من حياته.. ليجن جنونه ويعود ليرفض حياة الكاتب التي حارب طوال عمره للوصول إليها…
جون فانتي كاتب بارع إلى هذه الدرجة، التي تمكنه من فعل كل هذا بنا، من دون أن نحس ومن دون أن نكتشف خطأً واحداً في سرد هذه الكذبة الجميلة. ولكن هذا لا يهم. آرتور بانديني هو الأعظم على الإطلاق، إنه مجنون وغير قابل لأن يتوقع أحد تصرفاته. ربما لأنه الرجل الوحيد المتبقي على وجه الأرض، وما نحن سوى ظلال عابرة، أو أرواح ضائعة لم تجد طريقها للحياة من جديد.
قراءتك لهذه الرواية تجعلك تثور للحظات، حتى تتمكن من تذوق الدم في فمك، أو تحاول تجربة العواء كذئب. بانديني يصرخ في الكون ليتمكن من جعله يقرأ قصصه وكتاباته، إنه الذي يبعث كل القيم الروحية في هذه الرواية، ويعبِّر عن كل الحنين الذي بداخلنا تجاه الأشياء التي نحن بأمس الحاجة إليها حتى لو لم نستطع تسميتها.
لطالما كان الكتَّاب يملكون هذه القدرة على بعث المنسي فينا، لأننا نشتاق إلى ما لا نعرف.. وعمل الكاتب اليومي هو أن يبحث في هذا المجهول. يطارده ويدوِّنه على صفحاته وعلى ألسنة أبطاله. ولذلك تجد تلك اللحظة المشتركة بيننا جميعاً كقرَّاء حين نقف ونصرخ في منتصف رواية ما، نعم هذا ما أردت قوله بالضبط، لقد أوشكت على قولها ولكن هذا الكاتب سبقني إليها، إنه يفهمني تماماً، إنه شقيقي في عالم آخر لم أجربه بعد.
هنا نعرف تماماً قوة المجاز وقوة اللغة. لا يمكن لأحد الاستهانة بها، ولا يمكن لأحد الاستهانة ببانديني الرجل الحالم، والقوي أيضاً، الذي بإمكانه أن يقضي نهاراً كاملاً للتخطيط لعملية سرقة عدة عبوات حليب من صاحب الشاحنة التي تقف يومياً بالقرب منه، والذي بإمكانه أيضاً أن يقضي نهاره يجوب أطراف المدينة ويخبر الجميع عن قصته ذائعة الصيت التي كتب عنها الناقد الإيطالي قبل أن يموت.
الخطأ المؤدي إلى الصواب
وتنتقل بنا كاميرا جون فانتي إلى المشهد الذي يزور فيه بانديني كاميلا في المستشفى ولا تسمح له الموظفة بزيارتها، لأن يوم الزيارة هو يوم الأربعاء. على بانديني أن ينتظر الآن أربعة أيام، ماذا سيفعل هذا المسكين؟ يخرج خارج المستشفى الضخم ليتجول قربه، وينظر إلى شارع «هل» و«بنكر هل»، ذهب في يوم الثلاثاء لشراء بعض الأشياء لكاميلا، اشترى لها راديو وعلبة حلوى، وبعض كريمات الوجه، وأشياء أخرى. ووصل إلى المستشفى في ظهيرة الأربعاء. توجه إلى الموظفة نفسها وطرح الهدايا أمامها، ثم سألها عن غرفة كاميلا، فردت عليه قائلة إن كاميلا غادرت المستشفى. يسأل بانديني المتعب من الانتظار، أين أجدها إذاً؟ فتجيبه الموظفة بأنها لا تستطيع الرد. فيجن جنون بانديني حينها ويستمر بالسؤال والبحث عنها حتى يجدها أخيراً بعد تلك الحادثة بعدة أيام.
ضمير المتكلم هو ما يستخدمه فانتي على مدار الرواية، والحكَّاء بانديني لا يُعد طرفاً محايداً، على الرغم من كل مبالغاته ومحاولاته لإنكار الواقع وفرض الحلم، إلا أنه يصل إلى قلب الحقيقة في كثير من الأحيان، إنه الخطأ المؤدي إلى الصواب.
كل ما أستطيع قوله هو إن القارئ لا بد وأن يقف طويلاً عند شخصية بانديني، وأن يحاول أن يتلمس من خلالها حقيقة شخصية فانتي نفسه، بعدما يكون قد لحظ أو تأكد أنه أمام «شبه سيرة ذاتية» للأديب الأمريكي نفسه.
———————————————————