طاقة واقتصاد

شانتارام.. رجل الحُب والسلام

قصة عجيبة جداً، وكاتبها أعجب جداً، وقصة ما بعد القصة الأعجب جداً

لا غرو أن يجمع عمل عظيم فنانَين كبيرين من أقطاب الفن السابع على مستوى العالم، كأمثال الفنان الأمريكي جوني ديب وممثل بوليود الأول اميتاب باتشان ليلتقيا لأول مرة تجسيداً لأحداث فِلم مقتبس عن رواية شانترام. فالرواية تزخر بتفاصيل قصة حقيقية لسجين ممن يسمونهم في عالم السجون بسجناء الصفوة، أي من قام بأكثر من عمل إجرامي كبير. اختار الكاتب نجيب الزامل المعروف بقراءاته الكثيفة وثقافته الغزيرة، للقافلة رواية شانترام ليصحبكم في رحلة مع «جريجوري» بطل القصة الحقيقية والصديق على المستويين الفعلي والمعنوي!

* 
«في بعض الأوقات نحب مقابل لا شيء واضح إلا مجرد الأمل. بعض الأوقات نبكي بكل شيء إلا الدموع!» جريجوري دافيد روبرتس- من قصته «شانتارام».

هذه قصة واقعية مذهلة كتبها صاحبُها في أجمل ما قرأت باللغة الإنجليزية إمتاعاً ولفظاً وأسلوباً وتعبيراً ووصفاً. والقصة اسمها «شانتارام» Shantaram والمؤلف أسترالي اسمه جريجوري دافيد روبرتس. والطريف أن جريجوري هذا مجرم مدان بجرائم كبيرة ثم هرب من سيدني إلى الهند، حيث انتحل شخصية رجل نيوزيلندي، وتعرف إلى حمّالٍ هندي صار مرشده وصديقه، وعلى مجموعة من الغربيين والأفغان الهنود والإفريقيين الذين يتاجرون في العالم السفلي لمدينة بمباي الهندية. ثم تأخذك القصة لملاحظاته المذهلة على مجتمعات القاع وتحزبات الطبقات الأعلى في الهند.. لو أعطيك مثلاً لمقارنة أدبية، ولكن بعيدة، لجريجوري هذا، فسرده يشابه مدرسة «سومرست موم»، مع واقعيةٍ أشد، ووصفٍ أغنى، وملاحظاتٍ أدق.. ومواهبٍ روائيةٍ فوق المعتاد.

وسأعطيكم أقل القليل من بعض ما يجري في القصة التي تصل صفحاتها للألف تقريباً، ويمكن أن تبتلعها بجرعة متواصلة من قوة الأحداث وانهمار تتابعها الآخذ للأنفاس، لبعضٍ من تجاربه وأعماله الغريبة في المدينة التي تُعد بوابة الهند. ومن يقرأ القصة الواقعية سيقع على أغرب ما فيها وهو كاتبها، مجرمٌ هاربٌ يكشف عن أبرع قصَصيٍّ واقعيٍّ عرفته حتى الآن.. وقد عرفت العشرات من أكبر قصَصي الأرض!

«جريجوري دافيد سميث»، تعرفت إليه شخصياً بعد عدة اتصالات، وبعد أن كتبت عنه وحاضرت حول كتابه في أكثر من مناسبة ودولة، واحدة منها ألقيت في المركز الإيرلندي بالتراث الإنساني، وهي جمعية تعتني بأنثرلوبوجيا الفكر والأدب. وصرنا نتحادث ونتكاتب ليس كثيراً ولكن القليل الذي يكفي نهِماً مثلي في مغاليق العقل البشري. جريجوري ليس فيه من الوسامة شيء، ومع ذلك افتتنت به شابة سويسرية-أمريكية فارهة الجمال، فقد كان غِناه الكرزمائي يسيل كشلالات نيوزلندا الذي غش في جنسيتها ليدخل الهند آمناً من مطاردة البوليس الأممي. انظر صفات صديقي جريجوري: سجينٌ ممن يسمونهم في عالم السجون بسجناء الصفوة، أي من قام بأكثر من عمل إجرامي كبير، ويستحق «جريجوري» تاج سجناء الصفوة، فهو لص مسلح سطا على العديد من محلات الجواهر والبنوك، ومهرب ومدمن مخدرات، وقاتل! تمكن من الهرب من السجن ووصل إلى مدينة مومباي ليروي عنها من قاع القاع ما لم ينجح هنديٌ واحد في شرحه بل حتى ملاحظته.. انظر إنه اكتشف أن أعظم تنظيم للإمداد بالطعام في المكاتب هو في مدينة ممبي. عشرات الآلاف من العربات المهترئة التي تجرها السائمة من الثيران والجواميس تحمل بالأواني الصغيرة المتراكبة طلبات وجبات مليوني موظف في وسط المركز التجاري بلا خطأ واحد، بحيث يصل كل موظف طعامه بالطلب المحدد في الوقت المحدد، وذلك لأن الغلطة بالطعام ليست خطأً يومياً مسموحاً بل خطأ ديني لا يُغتفر، تصوّر مثلاً -اسم الله علينا- أن يصل لحمُ ضانٍ مبهّر إلى هندوكيٍّ نباتي.. مصيبة بمعنى ما تحمله الكلمة! أو يصل لحمُ خنزير لمسلم.. مصيبة. ومع هذا رغم تشابك الهند الديني والطائفي والمذهبي وطرائق الحياة إلا أن سائقي الجواميس لا يخطئون بالتوزيع! لاحظ «جريجوري» شيئاً آخر، أن المرور بالهند شديد الالتزام (رغم أنهم ما عندهم «ساهر» هندي)، ووجد أن السبب أن عابري الطريق يجرّون السائقَ المخطئ من سيارتِه ويتجمهرون عليه ويوسعونه ضرباً حتى يتلاشى اللحمُ عن العظم.. إنه روعٌ عظيم.

في مدينة ممبي صاحبنا جريجوري لم يبقِ شيئاً لم يعمله، كان بمسوح ملاكٍ طاهر، وكان إبليساً ترتعد منه الأبالسة، اختبأ بأفقر أحياء الهند الشعبية.. أميال من الصفيح والكرتون، وهناك لأنه أبيض أزرق العينين ظنوه طبيباً، وفعلاً فتح عيادة مجانية وعالج الآلاف بالمواد الأولى وكان يحضر الأدوية يشتريها رخيصةً من حي المجذومين، وهم قومٌ بلا أطراف وأجسام مركّبة على خشبة بعجلات في معظمهم من مرض الجذام لكنهم أمهر الناس في السطو على مخازن الأدوية بكل مكان. وكان مزيفاً لأكبر منظمة تزييف للهند وتعرف إلى شاب فلسطيني اسمه علي أنصاري وأعجب به، وقاتل معه في الهجوم ضد عصاباتٍ أخرى، ونعاه بصفحة كاملة لم أستطع أن أقرأها بسهولة لأن الدموع غشت عيني. وصادق حمَّالاً هندياً كشقيق وضحَّى من أجله، ووالدة الحمَّال الهندي هي التي أطلقت على جريجوري اسم «شانتارام» وتعني بالمهراتية «رجل الحُب والسلام». وحارب في أفغانستان مع المسلمين ضد الاحتلال الروسي، وهرَّب النقد بكل شرق آسيا إلى غرب إفريقيا وجنوب محيطها العميق إلى موريشيوس، ودخل مع مافيا للمخدرات رئيسها مسلم متدين استطاع اقناعه بوجود الخالق بعد نقاش عظيم عن هندسة الأجرام الكونية، وصار حارساً شخصياً لأعتى لوردات الإجرام. ومن طرفٍ آخر ذاب حشاشة في الحب ولم أجد كتابة رومانسية ولا لمارتين الفرنسي كما يكتب من قلب قلبه جريجوري. وصار ممثلاً في الأفلام الهندية ووقعَتْ مخرجة في هواه، ومصمّمة رقصات وقفت معه بتضحية لا تُجارى، والمفارقة أنه أدخل السجن البغيض في ممبي مرتين عانى فيه ما لا يقدر عليه بشر.

إن « لين» وهذا اسمه الذي صار يُطلق عليه وهو في الهند، عانى وبكى وصبر وقاوم مقاومة فوق الخيال ليستمر، فقد في الطريق أول وجهٍ أحبّه هو الحمّالُ الصديق والرفيق والأخ «بابو» ذا الابتسامة التي تملأ وجهَهه النحيلَ وبأسنانِه الكثيرةِ البيضاء.. عاش معه سنواتٍ لا يفارقه حتى يومَ احترق أمامه في سيارة تاكسي كانا لتوهما اشترياها ليعمل عليها بابو.. وذهل «لين» واعتكف يبكي أياماً لفقده سنيدِهِ ورفيق روحِه، ويتذكر كيف أن أمَّه هي من سمَّته «شانتارام»، وتعلّم منه اللغتين المهاراتية والهندية، وعرف منه خارطة مدينة ممبي ككفِّ يده.. وبكي سنيناً كلما تذكره. ثم مات رفيق صنعته في تزييف النقد وتهريبه «علي أنصاري» صديقه الثائر الفلسطيني الذي قال عنه «أشهَمُ من رأيت»، وترنّحَ ووقع من فرط البكاء وعرف أعظم عقلٍ قابله بالهند «قادرخان باي» أكبر تاجر ومهرب مخدرات، المؤمن التقي -وهو يحلِّل العمَل بالمخدرات!- ودلَّه بعلم الأجرام الفلكية والتصميم الأعظم للكون بوجود الله. وتذكر الفتاة المليحة «كلارا» حبيبته التي ملكت فؤاده، ثم قطّعته أوصالاً لما ظهر حبيبها الوسيم أحمد الأفغاني وهجرته، وحاول أن يقتل نفسه من تباريح الصبابة والولـَه. وتذكر كيف أن في جسمه جروح عدة رصاصات وعشرات طعنات السكاكين، وآثار سياط السجن الهندي التي كشفت عن عظام ظهره وعروقه مكشوفة تنزف الدماء.. وتذكر كيف كان يعيش ممجَداً بطلاً بين فقراء الأكواخ وسكان الأنابيب بعد أن فتح لهم العيادة المجانية، ودرَّبهم على أعمال كثيرة. وتذكر مئات الأحداث التي لا تمر على شخص بزمان ومكان واحد.. وبكى محروقاً وحيداً لا يستطيع إلا أن يتذكر مقولة عبدالقادر باي: «إن كل نفسٍ من نفوسِنا كونٌ شاسعٌ تظهر فيه أجرامُ وكوكب الألم، وعليك أن تغطس من أجل أن تبحث عن جوهرة السعادة المختبئة، وأحياناً تغرق برحلة البحث، فينبع كون آخر، وتنبع نفسٌ أخرى».

سأقتبس لكم نصاً كتبه جريجوري كقفلةٍ نهائيةٍ بكتابِه الملحمي، وهو على تلة بحرية يراقب البحرَ العميق الممتدّ، سابحاً في ذكرياته ودموعه الكثيرة وابتساماته القليلة، فيقول: « هذا ما نعمل في هذه الحياة، أن نضع خطوةً ثم نترفق لنجد كيف ومتى نضع الخطوةَ التالية. نرفع أعيننا المجهدة إلى تشابك خيوط أحداث الحياة مرة أخرى.. نفكّر، نتصرف، ونشعر. ونضيف تجاربَنا إلى الشرِّ والخير الذي يفيضُ ثم ينسَلُّ من تيارِ الحياة. نجرّ أصلبةَ أشباح أجسادِنا في نفق الأمل لليلةٍ أخرى، وندفع قلوبَنا الجسورة إلى وعدِ يومٍ جديد. والحُب: هذه العاطفةُ الغلاَّبَة التي تجعلنا نبحث عن حقيقة كل الأشخاص إلا عن حقيقة أنفسنا. ومع الاشتياق الكاوي، تنضى عروقُ قلبِك وأنت ترقبها تشتعل ولا تستطيع أن تنفخ بها كي تهمد ولو قليلاً، إنما سعير يتوهّج ويرقص على لحم مشاعرِك. وداخل كل وجودك، تـَحـَرُّقٌ لا يوصف أملاً قصيّا بأن يأتي أحدٌ ويخلصك من عذاباتك. وعلى قدر ما تنتظرنا قصص مصائرنا وأقدارنا.. نستمر مدفوعين بالحياة. ساعدنا يا إلهي، سامحنا يا إلهي.. سنستمر مدفوعين بالحياة.»

وهناك شيء أعجب، وينبئ عن صلابة فولاذية لا تلين لجريجوري، فقد أعيد جريجوري مغدوراً وبتعاونٍ دولي إلى سجنه بأستراليا، ومعه كتابه بثلاثة آلاف صفحة بخط يده- بالطباعة صارت ألفا- وفي السجن الأسترالي كان حرّاسُ السجن يكنّون له حقداً دفيناً لأنه هرب منهم، فحرقوا قصته بالكامل، ثم أعاد كتابتها كلها من الذاكرة لا تنقص حرفاً واحداً! ثم كعذاب إغريقي.. حرقوها مرة أخرى، فأعاد بإصرارٍ أسطوريٍّ كتابتها من الذاكرة كاملة، وللمرة الثالثة!

«جريجوري دايفد سميث» مجرم من النخبةِ الأولى.. صحيح. كاتبٌ من مقدمة الصفوة الأدبية بالإنجليزية: أنا أشهد!

أضف تعليق

التعليقات

وووعه اتمنى برائتها للاسف لاتوجد بالعربيه

اتمنى قراءتها عربيا