مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
2023

الملف: الطريق


مهى قمر الدين

الطرق‭ ‬هي‭ ‬أعرق‭ ‬وسيلة‭ ‬تواصل. ‬لم‭ ‬تنازعها‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬الأخرى‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬أهميتها. ‬فأهميتها‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬مهّد‭ ‬الإنسان‭ ‬القديم‭ ‬بقدميه‭ ‬السبيل‭ ‬الترابي‭ ‬الأول،‭ ‬وحتى‭ ‬إنشاء‭ ‬أحدث‭ ‬الطرق‭ ‬السريعة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬اليوم. ‬إنها‭ ‬شرايين‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الحضارات‭.‬

لم‭ ‬يتغيّر‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬غير‭ ‬الشكل،‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬تعاظم‭ ‬في‭ ‬دوره‭ ‬رافق‭ ‬هذا‭ ‬التطور،‭ ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬تراجع‭ ‬بفعل‭ ‬ظهور‭ ‬شبكات‭ ‬تواصل‭ ‬أخرى‭.‬

ولا‭ ‬حصر‭ ‬للغايات‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬تُسلك‭ ‬الطرق. ‬فلكل‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬عليها‭ ‬غايته‭ ‬الخاصة،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬مشترك‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭ ‬جميعًا‭ ‬غير‭ ‬الحركة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬أو‭ ‬ذاك. ‬إنها‭ ‬حركة‭ ‬انتقال‭ ‬الناس،‭ ‬والسلع،‭ ‬والأفكار،‭ ‬والمعارف‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬دونها‭ ‬لما‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬حضارة. ‬فالطرق‭ ‬هي‭ ‬الشبكة‭ ‬الأساس‭ ‬للعالم‭ ‬غير‭ ‬الافتراضي،‭ ‬وهي‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬عماد‭ ‬الحضارة‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الملف،‭ ‬تجول‭ ‬بنا‭ ‬مهى‭ ‬قمر‭ ‬الدين‭ ‬على‭ ‬طرقات‭ ‬العالم‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬لها‭ ‬وعليها،‭ ‬من‭ ‬إسهامها‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬التبادل‭ ‬التجاري‭ ‬والمعرفي‭ ‬العابر‭ ‬لحدود‭ ‬الحضارات‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬انطوت‭ ‬وتنطوي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬مخاطر،‭ ‬ووقْع‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬الإنسانية‭ ‬كما‭ ‬تتجلى‭ ‬في‭ ‬الآداب‭ ‬والفنون‭.‬

يقول‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ ‬إن “‬أصل‭ ‬الوجود‭ ‬الحركة. ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬للجمود‭ ‬دور‭ ‬فيه،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬الوجود‭ ‬ثابتًا،‭ ‬سوف‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬مصدره،‭ ‬وهو‭ ‬الفراغ. ‬ولهذا‭ ‬السبب‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬الرحلة‭ ‬أبدًا،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬الآخرة”.

‬والمؤكد‭ ‬أن‭ ‬الطريق‭ ‬يرتبط‭ ‬ارتباطًا‭ ‬وثيقًا‭ ‬بهذه‭ ‬النزعة‭ ‬الوجودية‭ ‬إلى‭ ‬الحركة. ‬فهو‭ ‬الأساس‭ ‬للمساعي‭ ‬البشرية‭ ‬ووسيلة‭ ‬للتنقل. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬رحلة‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬غاية،‭ ‬إما‭ ‬لكسب‭ ‬الرزق،‭ ‬أو‭ ‬التجارة،‭ ‬أو‭ ‬الاكتشاف،‭ ‬أو‭ ‬المغامرة،‭ ‬أو‭ ‬خوض‭ ‬حرب،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬للنزهة. ‬ومنذ‭ ‬أن‭ ‬اعتمد‭ ‬البشر‭ ‬التنقل‭ ‬على‭ ‬الدواب‭ ‬فوق‭ ‬مسارات‭ ‬كانت‭ ‬تمهدها‭ ‬تلك‭ ‬الحيوانات‭ ‬ذاتها،‭ ‬سعوا‭ ‬إلى‭ ‬شق‭ ‬الطرقات‭ ‬وتمهيدها. ‬وتطور‭ ‬الأمر‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬حتى‭ ‬توصلوا‭ ‬إلى‭ ‬تأمين‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬معابر‭ ‬بمعايير‭ ‬حديثة. ‬فالطرق‭ ‬تربط‭ ‬عالمنا‭ ‬بعضه‭ ‬ببعض،‭ ‬مجازيًا‭ ‬وحرفيًا،‭ ‬وهي‭ ‬ذات‭ ‬تأثير‭ ‬بالغ‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬المجتمعات‭ ‬والأوطان،‭ ‬وتوحيد‭ ‬العوالم‭ ‬وتفريقها،‭ ‬تُثقلها‭ ‬آمال‭ ‬من‭ ‬يسافرون‭ ‬عليها‭ ‬ومخاوفهم‭.‬

وفي‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين،‭ ‬أصبح‭ ‬البشر‭ ‬أكثر‭ ‬عددًا‭ ‬وأشد‭ ‬ترابطًا‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى،‭ ‬وأصبحت‭ ‬الشبكات‭ ‬على‭ ‬أنواعها،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬شبكات‭ ‬الطرق،‭ ‬سمة‭ ‬أساسًا‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬عصرنا. ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تتطور‭ ‬فيه‭ ‬هذه‭ ‬الشبكات‭ ‬وتتوسع،‭ ‬بتنا‭ ‬نجد‭ ‬صعوبة‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬ما‭ ‬يعنيه‭ ‬هذا‭ ‬الترابط. ‬فليس‭ ‬كل‭ ‬ترابط‭ ‬مفيد،‭ ‬وليس‭ ‬كل‭ ‬تواصل‭ ‬مثمر. ‬فالطرق‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬الازدهار‭ ‬والتطور‭ ‬والتقدم‭ ‬الاقتصادي‭ ‬تُلحق‭ ‬أضرارًا‭ ‬بالبيئة‭ ‬الطبيعية،‭ ‬والطرق‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تنقل‭ ‬الأدوية‭ ‬والعلاجات‭ ‬تعجّل‭ ‬في‭ ‬انتشار‭ ‬الأمراض‭ ‬الفتاكة،‭ ‬والطرق‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تسهل‭ ‬التواصل‭ ‬وتبادل‭ ‬الأفكار‭ ‬ونقل‭ ‬المعرفة،‭ ‬تؤدي‭ ‬أحيانًا‭ ‬إلى‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬ثقافات‭ ‬السكان‭ ‬الأصليين،‭ ‬والطرق‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تمر‭ ‬عليها‭ ‬السيارات‭ ‬للنزهة‭ ‬والترويح‭ ‬عن‭ ‬النفس‭ ‬هي‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يشهد‭ ‬موت‭ ‬أعداد‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬تفوق‭ ‬أعداد‭ ‬من‭ ‬يقضون‭ ‬نحبهم‭ ‬في‭ ‬الحروب؛‭ ‬والطرق‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تعرّفنا‭ ‬بالأصدقاء‭ ‬تسمح‭ ‬أيضًا‭ ‬بوصول ‬الأعداء‭ ‬إلينا‭.‬

من‭ ‬حيث‭ ‬تعريفه،‭ ‬بوسعنا‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬الطريق‭ ‬هو‭ ‬معبر،‭ ‬أو‭ ‬نهج‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬مكانين‭ ‬اثنين‭ ‬شرط‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تسطيحه‭ ‬وتمهيده‭ ‬ليكون‭ ‬صالحًا‭ ‬للتنقل‭ ‬مشيًا‭ ‬على‭ ‬الأقدام،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬مركبات‭ ‬ذات‭ ‬عجلات‭ ‬وخلاف‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬وسائل‭ ‬النقل. ‬وللطرق‭ ‬بمعناها‭ ‬العام‭ ‬تسميات‭ ‬عديدة‭ ‬وفق‭ ‬طولها‭ ‬وعرضها‭ ‬والأماكن‭ ‬التي‭ ‬تصلها‭ ‬ببعضها. ‬فهناك‭ ‬الدرب‭ ‬وهو‭ ‬طريق‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بريًا‭ ‬ولم‭ ‬يتعرض‭ ‬لرصف‭ ‬أو‭ ‬تعديل‭ ‬بشري‭ ‬مقصود‭ ‬في‭ ‬استوائه‭ ‬أو‭ ‬اتساع‭ ‬عرضه،‭ ‬وهناك‭ ‬المسلك‭ ‬وهو‭ ‬ممر‭ ‬صعب‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬منه‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬لا‭ ‬طريق‭ ‬أو‭ ‬درب‭ ‬فيها،‭ ‬وهناك،‭ ‬أيضًا،‭ ‬الزقاق‭ ‬أو “الزاروب” ‬وهو‭ ‬ممر‭ ‬ضيق‭ ‬وقصير‭ ‬داخل‭ ‬حي‭ ‬سكني،‭ ‬ويكون‭ ‬عادةً‭ ‬مغطى. ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬الجادة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬طريق‭ ‬معبد‭ ‬داخل‭ ‬المدينة‭ ‬يصل‭ ‬بين‭ ‬شارعين‭ ‬رئيسين،‭ ‬وهناك‭ ‬أيضًا‭ ‬الشارع،‭ ‬وهو‭ ‬الطريق‭ ‬المعبد‭ ‬الحديث‭ ‬الذي‭ ‬نجده‭ ‬داخل‭ ‬المدن،‭ ‬وقد‭ ‬يمتد‭ ‬طويلًا‭ ‬بين‭ ‬المدن‭ ‬ليصل‭ ‬بينها. ‬أما‭ ‬الطريق،‭ ‬فهي‭ ‬كلمة‭ ‬جامعة‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬سبقها‭ ‬يمكن‭ ‬استخدامها‭ ‬مكان‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬التسميات‭ ‬الأخرى،‭ ‬كما‭ ‬تُستخدم‭ ‬رسميًا‭ ‬عند‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬مكانين‭ ‬متباعدين‭ ‬نسبيًا‭.‬

الطرق‭ ‬بين‭ ‬قديمها‭ ‬وحديثها

منذ‭ ‬آلاف‭ ‬السنين،‭ ‬لعبت‭ ‬الطرق‭ ‬دورًا‭ ‬حيويًا‭ ‬في‭ ‬تنمية‭ ‬المجتمعات‭ ‬البشرية،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬الحضارات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬التجارة،‭ ‬فقد‭ ‬سهلت‭ ‬شبكات‭ ‬الطرق‭ ‬التبادل‭ ‬عبر‭ ‬مسافات‭ ‬شاسعة‭ ‬لسلع‭ ‬محددة‭ ‬كانت‭ ‬تتميز‭ ‬بنقص‭ ‬العرض‭ ‬وارتفاع‭ ‬الطلب،‭ ‬كما‭ ‬مكنت‭ ‬الإمبراطوريات‭ ‬مترامية‭ ‬الأطراف‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬أراضيها‭ ‬وإدارتها. ‬وفي‭ ‬العصور‭ ‬القديمة،‭ ‬وعلى‭ ‬طول‭ ‬هذه‭ ‬الطرق‭ ‬تنقّلت‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬البضائع‭ ‬والمعرفة‭ ‬والأفكار‭ ‬والتقانة،‭ ‬وعند‭ ‬تقاطعاتها‭ ‬وُلدت‭ ‬المدن‭ ‬وتفاعلت‭ ‬الثقافات‭.‬

أهم‭ ‬الطرق‭ ‬القديمة‭ ‬حول‭ ‬العالم

طريق‭ ‬العنبر

ما‭ ‬بين‭ ‬1500‭ ‬سنة‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬وعلى‭ ‬مدى‭ ‬اثني‭ ‬عشر‭ ‬قرنًا‭ ‬بعده،‭ ‬كان‭ ‬العنبر‭ ‬سلعة‭ ‬رئيسة‭ ‬تُعرف‭ ‬بـ “ذهب‭ ‬الشمال”. ‬فكان‭ ‬يُجمع‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬شواطئ‭ ‬بحر‭ ‬البلطيق،‭ ‬وينقل‭ ‬عبر‭ ‬نهري‭ ‬فيستولا‭ ‬ودنيبر‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭ ‬واليونان‭ ‬والبحر‭ ‬الأسود،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭ ‬وعدة‭ ‬مناطق‭ ‬أخرى،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬مصر‭ ‬وسوريا. ‬اتخذ‭ ‬طريق‭ ‬العنبر‭ ‬الشكل‭ ‬الأكثر‭ ‬شهرة‭ ‬اليوم،‭ ‬إذ‭ ‬امتد‭ ‬عموديًا‭ ‬إلى‭ ‬الجنوب،‭ ‬من‭ ‬ساحل‭ ‬البلطيق‭ ‬في‭ ‬ليتوانيا‭ ‬الحديثة،‭ ‬عبر‭ ‬بولندا‭ ‬الحديثة‭ ‬وجمهورية‭ ‬التشيك‭ ‬وسلوفاكيا،‭ ‬إلى‭ ‬رأس‭ ‬البحر‭ ‬الأدرياتيكي‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬روما. ‬وتشعبت‭ ‬مسارات‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الطريق‭ ‬الرئيس‭ ‬عبر‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬أوروبا‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬آسيا‭.‬

طريق‭ ‬البخور

كان‭ ‬طريق‭ ‬البخور‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬شبكة‭ ‬من‭ ‬طرق‭ ‬التجارة‭ ‬البرية‭ ‬والبحرية‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬بين‭ ‬دول‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭ ‬ومصر،‭ ‬مرورًا‭ ‬بشمال‭ ‬شرق‭ ‬إفريقيا‭ ‬والجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬الهند‭ ‬وما‭ ‬وراءها. ‬وازدهر‭ ‬طريق‭ ‬البخور‭ ‬بين‭ ‬القرنين‭ ‬السابع‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬والقرن‭ ‬الثاني‭ ‬الميلادي،‭ ‬وكانت‭ ‬تُنقل‭ ‬عبره‭ ‬بضائع‭ ‬البخور‭ ‬العربي‭ ‬والمر،‭ ‬والتوابل‭ ‬الهندية،‭ ‬والأحجار‭ ‬الكريمة،‭ ‬واللؤلؤ،‭ ‬والأبنوس،‭ ‬والحرير،‭ ‬والمنسوجات‭ ‬الفاخرة،‭ ‬والأخشاب‭ ‬النادرة‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬إفريقيا،‭ ‬وجلود‭ ‬الحيوانات،‭ ‬والعبيد،‭ ‬والذهب‭.‬

بدءًا‭ ‬من‭ ‬اليمن‭ ‬الحالية،‭ ‬كان‭ ‬الطريق‭ ‬شمالًا‭ ‬ينقسم‭ ‬إلى‭ ‬طريقين‭ ‬رئيسين،‭ ‬حيث‭ ‬يتجه‭ ‬الطريق‭ ‬الشرقي‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬النهرين،‭ ‬بينما‭ ‬يتجه‭ ‬الطريق‭ ‬الغربي‭ ‬الأكثر‭ ‬جبلية‭ ‬إلى‭ ‬الشام‭ ‬ومصر‭ ‬والبحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط. ‬ووفقًا‭ ‬للمؤرخ‭ ‬الروماني‭ ‬بليني‭ ‬الأكبر،‭ ‬كانت‭ ‬رحلة‭ ‬قوافل‭ ‬الإبل‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬الغربي‭ ‬تستغرق‭ ‬حوالي‭ ‬62‭ ‬يومًا،‭ ‬رغم‭ ‬تحول‭ ‬المسار‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬لتجنب‭ ‬المستوطنات‭ ‬الجشعة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تطالب‭ ‬بضرائب‭ ‬باهظة‭.‬

وبدءًا‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الأول‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬بدأ‭ ‬هذا‭ ‬الطريق‭ ‬يتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬بحري،‭ ‬وأصبح‭ ‬أكثر‭ ‬جاذبية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تحسّن‭ ‬صناعة‭ ‬السفن،‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬تبحر‭ ‬من‭ ‬بحر‭ ‬العرب‭ ‬شرقًا‭ ‬إلى‭ ‬الهند‭ ‬والصين،‭ ‬وكذلك‭ ‬شمالًا‭ ‬إلى‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر‭ ‬لنقل‭ ‬البخور‭ ‬إلى‭ ‬الموانئ‭ ‬المصرية‭.‬

الطريق‭ ‬الملكي‭ ‬الفارسي

أعاد‭ ‬ملك‭ ‬الأسرة‭ ‬الأخمينية‭ ‬الفارسية‭ ‬داريوس‭ ‬الكبير (521 إلى 485 قبل الميلاد) تنظيم‭ ‬مسار‭ ‬قديم‭ ‬ورصفه‭ ‬لبناء‭ ‬الطريق‭ ‬الملكي،‭ ‬ووضعه‭ ‬قيد‭ ‬الاستخدام‭ ‬المنتظم‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد. ‬الهدف‭ ‬كان‭ ‬تسهيل‭ ‬التواصل‭ ‬السريع‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬إمبراطوريته‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬وقتئذ‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الأكبر‭ ‬جغرافيًا‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وذلك‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬سيطرته‭ ‬بنحو‭ ‬رئيس‭ ‬على‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬غزاها،‭ ‬وكذلك‭ ‬على‭ ‬المواقع‭ ‬البعيدة. ‬ومن‭ ‬المفارقات‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الطريق‭ ‬قد‭ ‬أسهم‭ ‬لاحقًا‭ ‬في‭ ‬سقوط‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الفارسية،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬الإسكندر‭ ‬الأكبر (356 إلى 232 قبل الميلاد)‭ ‬استخدمه‭ ‬لنقل‭ ‬قواته‭ ‬وقهر‭ ‬الأجزاء‭ ‬المهمة‭ ‬من‭ ‬الإمبراطورية‭.‬

وجديرٌ‭ ‬بالذكر‭ ‬أنه‭ ‬تمت‭ ‬الاستعانة‭ ‬بكتابات‭ ‬المؤرخ‭ ‬اليوناني‭ ‬هيرودوتس،‭ ‬والبحوث‭ ‬الأثرية‭ ‬والسجلات‭ ‬التاريخية‭ ‬الأخرى،‭ ‬لتحديد‭ ‬المسار‭ ‬الدقيق‭ ‬للطريق‭ ‬الملكي‭ ‬الفارسي. ‬وقد‭ ‬بلغ‭ ‬طول‭ ‬الفرع‭ ‬الرئيس‭ ‬منه‭ ‬2‭.‬699‭ ‬كيلومتر‭ ‬من‭ ‬سارديس‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬ساحل‭ ‬بحر‭ ‬إيجة‭ ‬في‭ ‬ليديا،‭ ‬مرورًا‭ ‬بالأناضول (‬تركيا‭ ‬الحديثة)‬ ومدن‭ ‬كركوك‭ ‬ونينوى‭ ‬والرها‭ ‬إلى‭ ‬العاصمة‭ ‬الفارسية‭ ‬سوسة‭ ‬في‭ ‬الشرق. ‬وكان‭ ‬اجتيازه‭ ‬سيرًا‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬يتطلب‭ ‬90‭ ‬يومًا‭.‬

طريق‭ ‬الحرير

ربما‭ ‬يكون‭ ‬طريق‭ ‬الحرير‭ ‬هو‭ ‬أشهر‭ ‬الطرق‭ ‬القديمة‭ ‬على‭ ‬الاطلاق،‭ ‬وكان‭ ‬يربط‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭ ‬وجنوب‭ ‬شرقها‭ ‬بغربها‭ ‬وببلاد‭ ‬فارس‭ ‬وشبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬وشرق‭ ‬إفريقيا‭ ‬وجنوب‭ ‬أوروبا. ‬أُنشئ‭ ‬هذا‭ ‬الطريق‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬حكم‭ ‬أسرة‭ ‬هان‭ ‬الصينية (202 قبل الميلاد – 220م)، حيث‭ ‬اجتاز‭ ‬السهوب‭ ‬الأوراسية‭ ‬برًا،‭ ‬وفي‭ ‬فترات‭ ‬لاحقة‭ ‬اشتمل‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬الطرق‭ ‬البحرية‭ ‬عبر‭ ‬المحيطات‭ ‬والبحار‭.‬

كما‭ ‬يوحي‭ ‬الاسم،‭ ‬كانت‭ ‬السلعة‭ ‬الرئيسة‭ ‬المتداولة‭ ‬هي‭ ‬الحرير‭ ‬الصيني،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يُقايض‭ ‬بالذهب‭ ‬والفضة‭ ‬والصوف‭ ‬من‭ ‬أوروبا. ‬لكن‭ ‬الحرير‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬السلعة‭ ‬الوحيدة،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬سلع‭ ‬أخرى‭ ‬مثل‭ ‬الفاكهة‭ ‬والخضراوات‭ ‬والمواشي‭ ‬والحبوب‭ ‬والشاي،‭ ‬والجلود‭ ‬والأواني‭ ‬الزجاجية‭ ‬والقطع‭ ‬الفنية،‭ ‬والعطور‭ ‬والأدوية،‭ ‬والأحجار‭ ‬الكريمة‭ ‬والمعادن. ‬وبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬تعزيز‭ ‬التجارة،‭ ‬وفّر‭ ‬طريق‭ ‬الحرير‭ ‬أيضًا‭ ‬وسائل‭ ‬لنشر‭ ‬المعرفة‭ ‬وتطوير‭ ‬تقنيات‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تداول‭ ‬الورق‭ ‬والبارود،‭ ‬وكلاهما‭ ‬كانا‭ ‬من‭ ‬اختراع‭ ‬الصينيين،‭ ‬فكان‭ ‬لتلك‭ ‬السلعتين‭ ‬تأثيرات‭ ‬واضحة‭ ‬ودائمة‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬والتاريخ‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

ولا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الحرير‭ ‬القديم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ذكر‭ ‬المبادرة‭ ‬الصينية‭ ‬الجديدة‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬عام ‭‬2015م‭ ‬لإطلاق‭ ‬مشروع “الحزام‭ ‬والطريق”‬،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬بات‭ ‬يُعرف‭ ‬باسم “طريق‭ ‬الحرير‭ ‬الجديد”. ‬وهي‭ ‬مبادرة‭ ‬صينية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تعزيز‭ ‬ربط‭ ‬الصين‭ ‬بالعالم،‭ ‬وتمثل‭ ‬أكبر‭ ‬مشروع‭ ‬بنية‭ ‬تحتية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية،‭ ‬تشارك‭ ‬فيه‭ ‬123‭ ‬دولة،‭ ‬وتريد‭ ‬الصين‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬تسريع‭ ‬وصول‭ ‬منتجاتها‭ ‬إلى‭ ‬معظم‭ ‬الأسواق‭ ‬العالمية‭.‬

وإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تقدم‭ ‬من‭ ‬طرق،‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬الجنوبية‭ ‬نظام‭ ‬طرق‭ ‬الإنكا،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬نظم‭ ‬النقل‭ ‬شمولًا‭ ‬وتقدمًا‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬الجنوبية‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬قبل‭ ‬الكولومبي. ‬وفي‭ ‬أستراليا‭ ‬كان‭ ‬السكان‭ ‬الأصليون‭ ‬قد‭ ‬شقوا‭ ‬شبكة‭ ‬طرق‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬محددة‭ ‬بشكل‭ ‬جيد،‭ ‬ولكنها‭ ‬كانت‭ ‬تخترق‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬القارة‭ ‬لتسهيل‭ ‬التجارة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬جزءًا‭ ‬أساسًا‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬قبل‭ ‬الاستيطان‭ ‬البريطاني‭.‬

وإلى‭ ‬الطرق‭ ‬الحديثة

كل‭ ‬الأقسام‭ ‬البرّية‭ ‬من‭ ‬طرقات‭ ‬العالم‭ ‬القديم‭ ‬المشار‭ ‬إليها‭ ‬سابقًا،‭ ‬كانت‭ ‬رغم‭ ‬أهميتها‭ ‬الكبرى‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬دروب‭ ‬ترابية‭ ‬ممهدة،‭ ‬ومسالك‭ ‬وعرة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأماكن،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬قامت‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية‭.‬

كان‭ ‬الرومان‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬أظهر‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬لشبكة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الطرق‭ ‬المتطورة‭ ‬أن‭ ‬تقدمه. ‬فإضافة‭ ‬إلى‭ ‬طريق “أبيا‭” ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬الأشهر‭ ‬والممتد‭ ‬خارج‭ ‬روما،‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬ثمانية‭ ‬عشر‭ ‬طريقًا‭ ‬آخر،‭ ‬وكانت‭ ‬كلها‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬شبكة‭ ‬أوسع‭ ‬وصل‭ ‬مجموع‭ ‬أطوالها‭ ‬في‭ ‬ذروة‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬80‭,‬000‭ ‬كيلومتر‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬30‭ ‬بلدًا،‭ ‬وامتدت‭ ‬من‭ ‬بريطانيا‭ ‬غربًا‭ ‬حتى‭ ‬ضفتي‭ ‬دجلة‭ ‬والفرات‭ ‬شرقًا‭ ‬وشمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬جنوبًا‭.‬

كانت‭ ‬تلك‭ ‬الطرق،‭ ‬التي‭ ‬شيدت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬800‭ ‬عام،‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬إنجازات‭ ‬العبقرية‭ ‬الهندسية‭ ‬للرومان. ‬ففي‭ ‬البداية‭ ‬كان‭ ‬المساحون‭ ‬يحددون‭ ‬مسار‭ ‬الطريق،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يعمل‭ ‬الجنود‭ ‬والعمال‭ ‬والعبيد‭ ‬على‭ ‬شقّها‭ ‬ورصفها. ‬كان‭ ‬سطح‭ ‬معظم‭ ‬هذه‭ ‬الطرق‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬حجارة‭ ‬مُسطحة‭ ‬كبيرة‭ ‬مستخرجة‭ ‬من‭ ‬الصخور‭ ‬المحلية. ‬وقد‭ ‬جعل‭ ‬الرومان‭ ‬هذه‭ ‬الطرق‭ ‬محدودبة‭ ‬قليلًا‭ ‬عند‭ ‬الوسط،‭ ‬لتسهيل‭ ‬تصريف‭ ‬مياه‭ ‬الأمطار‭ ‬عنها،‭ ‬فأسهم‭ ‬أسلوب‭ ‬البناء‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬دوام‭ ‬الطرق‭ ‬وبقاء‭ ‬بعضها‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا. ‬وبعد‭ ‬اضمحلال‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية‭ ‬تلاشى‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الطرق،‭ ‬واستغرق‭ ‬الأمر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬1500‭ ‬عام‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬الدول‭ ‬مجددًا‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الطرق‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النطاق‭ ‬الواسع،‭ ‬ولكن‭ ‬الشبكة‭ ‬الرومانية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬وفرت‭ ‬الأسس‭ ‬لمئات‭ ‬الطرق‭ ‬الحالية‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬والشرق‭ ‬الأوسط‭.‬

من‭ ‬الرصف‭ ‬بالحجارة‭ ‬إلى‭ ‬السفلتة‭ ‬وتوابعها

على‭ ‬مدى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرة‭ ‬قرون‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬وحتى‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬لم‭ ‬تشهد‭ ‬الطرق‭ ‬تطورات‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬تقنيات‭ ‬إنشائها،‭ ‬إذ‭ ‬بقيت‭ ‬تُرصف‭ ‬بالحجارة‭ ‬في‭ ‬المدن،‭ ‬كما‭ ‬بقيت‭ ‬مجرد‭ ‬سبل‭ ‬ترابية‭ ‬ومسالك‭ ‬في‭ ‬الأرياف‭ ‬والبراري‭ ‬غير‭ ‬الآهلة‭ ‬بكثافة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬السكان‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬شهده‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وما‭ ‬قبله‭ ‬وبعده‭ ‬بقليل‭ ‬من‭ ‬تطورات‭ ‬غيّر‭ ‬طرق‭ ‬العالم‭ ‬جذريًا. ‬ومن‭ ‬أهم‭ ‬هذه‭ ‬التطورات‭ ‬بدء‭ ‬استخراج‭ ‬البترول‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬واسع،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬وفّر‭ ‬كميات‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الأسفلت،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬المادة‭ ‬الأفضل‭ ‬لتعبيد‭ ‬الطرق‭ ‬بها‭ ‬بكلفة‭ ‬متدنية. ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬استعمال‭ ‬للأسفلت‭ ‬في‭ ‬تعبيد‭ ‬الطرقات‭ ‬عام ‭ ‬1876م‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الأمريكية‭ ‬واشنطن،‭ ‬حيث‭ ‬بدا‭ ‬أنه‭ ‬ملائم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الحجارة‭ ‬لحركة‭ ‬عربات‭ ‬الخيل. ‬وتعاظم‭ ‬دور‭ ‬هذه‭ ‬السمة‭ ‬عند‭ ‬ظهور‭ ‬السيارة‭ ‬بعجلات‭ ‬من‭ ‬المطاط‭ ‬الذي‭ ‬تزامن‭ ‬مع‭ ‬توفر‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الأسفلت‭ ‬في‭ ‬العالم. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬فاتحة‭ ‬تعبيد‭ ‬كل‭ ‬طرق‭ ‬المدن‭ ‬وما‭ ‬بين‭ ‬المدن‭ ‬بالأسفلت‭ ‬الممزوج‭ ‬بالحصى،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬بات‭ ‬ييسر‭ ‬حركة‭ ‬سير‭ ‬المركبات‭ ‬عليها‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭.‬

ونظرًا‭ ‬لنمو‭ ‬المدن‭ ‬وتكاثر‭ ‬أعداد‭ ‬البشر‭ ‬والمركبات،‭ ‬تعاظم‭ ‬دور‭ ‬الطرق‭ ‬الحديثة،‭ ‬وباتت‭ ‬ذات‭ ‬احتياجات‭ ‬جديدة‭ ‬تتضمن‭ ‬مجموعة‭ ‬متممات،‭ ‬مثل‭ ‬اللوحات‭ ‬الإرشادية‭ ‬وإشارات‭ ‬المرور،‭ ‬والإنارة‭ ‬والأرصفة‭ ‬والتجميل‭ ‬بالأشجار‭ ‬والزهور،‭ ‬وتوسعة‭ ‬ما‭ ‬هو “سريع” ‬منها‭ ‬ويصل‭ ‬بين‭ ‬أماكن‭ ‬نائية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬سن‭ ‬القوانين‭ ‬الضابطة‭ ‬للحركة‭ ‬عليها‭.‬

طرق‭ ‬الحج‭ ‬القديمة

هناك‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الطرق‭ ‬المتلاشية‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬سار‭ ‬عليها‭ ‬عبر‭ ‬الزمن‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يقصدون‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة‭ ‬لأداء‭ ‬فريضة‭ ‬الحج. ‬وهذه‭ ‬المجموعة‭ ‬من‭ ‬الطرق‭ ‬هي‭ ‬طرق‭ ‬الحج‭ ‬القديمة،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬طريق‭ ‬البصرة‭ ‬وطريق‭ ‬الحج‭ ‬الشامي‭ ‬وطريق‭ ‬الحج‭ ‬المصري‭ ‬وطريق‭ ‬الحج‭ ‬العُماني‭ ‬وطريق‭ ‬حج‭ ‬البحرين‭ ‬وطرق‭ ‬الحج‭ ‬اليمنية‭ ‬المتعددة. ‬ولعل‭ ‬أبرزها‭ ‬طريق‭ ‬الكوفة‭-‬مكّة‭ ‬الذي‭ ‬يُعد‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬طرق‭ ‬الحج‭ ‬خلال‭ ‬العصر‭ ‬الإسلامي. ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الطريق‭ ‬قد‭ ‬اشتُهر‭ ‬باسم “درب‭ ‬زبيدة” ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬السيدة‭ ‬زبيدة‭ ‬زوجة‭ ‬الخليفة‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد،‭ ‬التي‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬عمارته‭ ‬فخلد‭ ‬ذكرها‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬الحجاج‭ ‬وحدهم‭ ‬من‭ ‬يعتمدون‭ ‬التنقل‭ ‬عبر‭ ‬هذه‭ ‬الطرق،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬التجار‭ ‬والرحالة‭ ‬ومختلف‭ ‬أنواع‭ ‬البشر‭ ‬يسلكونها‭ ‬لمقاصد‭ ‬مختلفة. ‬لذا،‭ ‬كانت‭ ‬بمثابة‭ ‬جسور‭ ‬حيوية‭ ‬ربطت‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬وشمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬والبحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭ ‬والشرق،‭ ‬فانتقلت‭ ‬عبرها‭ ‬المعارف‭ ‬والأفكار‭ ‬ومختلف‭ ‬أنواع‭ ‬البضائع‭ ‬وأسهمت‭ ‬في‭ ‬تفاعل‭ ‬الثقافات‭.‬

كانت‭ ‬قوافل‭ ‬الحجّاج‭ ‬تتجمع‭ ‬في‭ ‬مواعيد‭ ‬ونقاط‭ ‬انطلاق‭ ‬محددة‭ ‬في‭ ‬مواطنهم‭ ‬المختلفة،‭ ‬وكانت‭ ‬جموعهم‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬بحر‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬يتدفق‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬بطيئة‭ ‬وسط‭ ‬الطبيعة‭ ‬وغبار‭ ‬الصحراء‭ ‬وجبال‭ ‬الحجاز،‭ ‬مع‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬مجموعات‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬قطّاع‭ ‬الطرق. ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬الرحلات‭ ‬تستغرق‭ ‬خمسين‭ ‬يومًا‭ ‬من‭ ‬دمشق،‭ ‬وأربعة‭ ‬وعشرين‭ ‬يومًا‭ ‬من‭ ‬صنعاء‭ ‬وشهرين‭ ‬من‭ ‬القاهرة‭.‬

يصف‭ ‬المستكشف‭ ‬البريطاني‭ ‬تشارلز‭ ‬إم‭ ‬داوتي،‭ ‬الذي‭ ‬انضم‭ ‬إلى‭ ‬إحدى‭ ‬قوافل‭ ‬الحج‭ ‬في ‭‬1876م،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تضم‭ ‬6‭,‬000‭ ‬شخص‭ ‬و10‭,‬000‭ ‬ حيوان‭ ‬نقل،‭ ‬وذلك‭ ‬تحت‭ ‬اسم‭ ‬مستعار (‬خليل)‬،‭ ‬فيقول‭:

“كانت‭ ‬الساعة‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬العاشرة‭ ‬صباحًا‭ ‬عندما‭ ‬سمعنا‭ ‬إشارة‭ ‬الانطلاق. ‬وبعد‭ ‬ذلك،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬اضطراب،‭ ‬وُضعت‭ ‬السروج‭ ‬على‭ ‬حيوانات‭ ‬النقل،‭ ‬وصعد‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الركاب‭ ‬في‭ ‬صمت. ‬كان‭ ‬طول‭ ‬الجموع‭ ‬البطيئة‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬ميلين‭ ‬وعرضها‭ ‬يبلغ‭ ‬حوالي‭ ‬100‭ ‬ياردة‭ ‬في‭ ‬السهول‭ ‬المفتوحة. ‬سرنا‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬قاحلة،‭ ‬سهلٌ‭ ‬من‭ ‬الحصى،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬شيء‭ ‬ولم‭ ‬نر‭ ‬طريقًا‭ ‬أمامنا”.

ومن‭ ‬بين‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬سارت‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الطرق‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة،‭ ‬الذي‭ ‬ذهب‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬كان‭ ‬يفترض‭ ‬أنها‭ ‬ستستغرق‭ ‬16‭ ‬شهرًا،‭ ‬ولكنها‭ ‬دامت‭ ‬24‭ ‬عامًا‭ ‬بحيث‭ ‬كان‭ ‬غرضه‭ ‬كرحّالة‭ ‬قضاء‭ ‬مناسك‭ ‬الحج،‭ ‬والاستكشاف‭ ‬والرواية‭ ‬التاريخية. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬أيضًا‭ ‬إمبراطور‭ ‬مالي‭ ‬منسا‭ ‬موسى،‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬الشهيرة‭ ‬إلى‭ ‬الحج‭ ‬عام‭ ‬1324م،‭ ‬مصطحبًا‭ ‬معه‭ ‬حوالي‭ ‬60‭,‬000‭ ‬شخص‭ ‬من‭ ‬مملكته‭ ‬وجيشه‭ ‬وحاشيته،‭ ‬وكانوا‭ ‬يحملون‭ ‬معهم‭ ‬كميات‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬تدهور‭ ‬قيمته‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬العربية‭.‬

وقد‭ ‬نظم‭ ‬الشاعر‭ ‬اليمني‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬عيسى‭ ‬الرداعي‭ ‬قصيدة‭ ‬تصف‭ ‬بالتفصيل‭ ‬طريق‭ ‬الشمال‭ ‬إلى‭ ‬مكة‭ ‬من‭ ‬موطنه‭ ‬اليمن،‭ ‬عُرفت‭ ‬بـ “أرجوزة‭ ‬الحج” (‬موجودة‭ ‬على‭ ‬شبكة‭ ‬الإنترنت‭ ‬بهذا‭ ‬الاسم)‬،‭ ‬وكان‭ ‬سائقو‭ ‬الجمال‭ ‬يحفظون‭ ‬بعض‭ ‬مقاطعها‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلب،‭ ‬وكأنهم‭ ‬يحفظون‭ ‬خارطة‭ ‬الطريق‭ ‬في‭ ‬أبيات‭ ‬من‭ ‬الشعر‭.‬

أما‭ ‬اليوم،‭ ‬فتُعد‭ ‬هذه‭ ‬الشبكة‭ ‬من‭ ‬طرق‭ ‬الحج‭ ‬معالم‭ ‬أثرية‭ ‬حضارية‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬العالمي‭ ‬تستحق‭ ‬العناية‭ ‬والاهتمام‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتلاشى‭ ‬بالكامل. ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬آثار‭ ‬قليلة‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬خطوط‭ ‬من‭ ‬الرمل‭ ‬المضغوط‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬خطّتها‭ ‬حوافر‭ ‬الجمال‭ ‬وأقدام‭ ‬البشر. ‬وبقي‭ ‬البعض‭ ‬منها‭ ‬محددًا‭ ‬بخطين‭ ‬من‭ ‬الحجارة‭ ‬يرمزان‭ ‬إلى‭ ‬حواجز‭ ‬تحديد‭ ‬سير‭ ‬المشاة،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬مشاهدته‭ ‬على‭ ‬جانبيها‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬الآبار‭ ‬الجميلة‭ ‬من‭ ‬الحجر‭ ‬المنحوت‭ ‬باليد،‭ ‬وبقايا‭ ‬القلاع‭ ‬والعيون‭ ‬والسدود‭ ‬والخانات‭ ‬والمساجد،‭ ‬وربما‭ ‬آثار‭ ‬بعض‭ ‬المعالم‭ ‬الإرشادية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬توضح‭ ‬مسار‭ ‬تلك‭ ‬الطرق‭ ‬وتفرعاتها‭.‬

في‭ ‬الشعر.. آمال‭ ‬وتساؤلات‭ ‬وحيرة

في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬القديم،‭ ‬تطالعنا‭ ‬مفردة‭ ‬السبيل‭ ‬مرادفًا‭ ‬للطريق‭ ‬عند‭ ‬تساؤلات‭ ‬شتى‭ ‬طرحها‭ ‬شعراء‭ ‬عديدون‭ ‬على‭ ‬أنفسهم. ‬فهناك‭ ‬تساؤل‭ ‬ابن‭ ‬الهبارية‭ ‬في‭ ‬قصيدته “كيف‭ ‬السبيل‭ ‬إلى‭ ‬الغنى..”‬،‭ ‬وتساؤل‭ ‬الأعمى‭ ‬التطيلي: “كيف‭ ‬السبيل‭ ‬إلى‭ ‬صبري.. ‬وفي‭ ‬المعالم‭ ‬أشجانُ..”‬،‭ ‬وتساؤل‭ ‬أبي‭ ‬فراس‭ ‬الحمداني‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬الشهيرة‭:‬

كيف‭ ‬السبيل‭ ‬إلى‭ ‬طيفٍ‭ ‬يزاورُهُ
والنوم‭ ‬في‭ ‬جُملة‭ ‬الأحباب‭ ‬هاجرُهُ

وإضافة‭ ‬إلى‭ ‬السبيل،‭ ‬هناك‭ ‬الدرب‭ ‬الذي‭ ‬نجده‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬القديم‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬منه. ‬فمن‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬قصيدة‭ ‬للشاعر‭ ‬العباس‭ ‬بن‭ ‬الأحنف‭ ‬يتحدث‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬الدرب‭ ‬الذي‭ ‬سار‭ ‬عليه‭ ‬ليوصله‭ ‬إلى‭ ‬المحبوبة،‭ ‬وتبدأ‭ ‬بالبيت‭ ‬القائل‭:‬

إِنّا‭ ‬مِنَ‭ ‬الدَربِ‭ ‬أَقبَلنا‭ ‬نَؤُمُّكُمُ
أَنضاءَ‭ ‬شَوقٍ‭ ‬عَلى‭ ‬أَنضاءِ‭ ‬أَسفارِ

وفي‭ ‬الشعر‭ ‬الحديث‭ ‬هناك‭ ‬الدرب‭ ‬الذي‭ ‬ضاع‭ ‬من‭ ‬الشاعر‭ ‬فاروق‭ ‬جويدة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬رثاء‭ ‬الحياة‭ ‬نفسها‭:‬

يا‭ ‬رفيق‭ ‬الدرب‭ ‬

تاه‭ ‬الدرب‭ ‬منا‭ ‬في‭ ‬الضبابْ‭..‬

يا‭ ‬رفيق‭ ‬العمر
ضاع‭ ‬العمر‭ ‬وانتحر‭ ‬الشبابْ

وهناك‭ ‬الدرب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬يبحث‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬الشهيرة “وما‭ ‬زال‭ ‬في‭ ‬الدرب‭ ‬دربٌ”‬،‭ ‬وهي‭ ‬الدرب‭ ‬التي‭ ‬رآها‭ ‬بعيدة،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬يحلم‭ ‬بأنها‭ ‬ستعيده‭ ‬إلى‭ ‬موطنه‭ ‬فلسطين،‭ ‬وإلى‭ ‬الجليل‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬الشوق‭ ‬والحنين‭ ‬الذي‭ ‬عبر‭ ‬عنهما‭ ‬في‭ ‬الأبيات‭ ‬التالية‭:‬

وما‭ ‬زال‭ ‬في‭ ‬الدرب‭ ‬متّسعٌ‭ ‬للرحيلْ
سنرمي‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الورد‭ ‬في‭ ‬النهر
كي‭ ‬نقطع‭ ‬النهر‭..‬

وخلافًا‭ ‬للصورة‭ ‬النمطية‭ ‬للطريق‭ ‬كصلة‭ ‬وصل‭ ‬بين‭ ‬مكانين،‭ ‬تتخذ‭ ‬الطرق‭ ‬عند‭ ‬إبراهيم‭ ‬ناجي‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬المغناة‭ ‬وجهًا‭ ‬آخر،‭ ‬وجهَ‭ ‬أداة‭ ‬للبعثرة‭ ‬والتفرقة‭:‬

يقْظةٌ‭ ‬طاحت‭ ‬بأحلام‭ ‬الكرى
وتولّى‭ ‬الليل‭ ‬والليل‭ ‬صديقْ
‭...‬
وإذا‭ ‬الدنيا‭ ‬كما‭ ‬نعرفُها
وإذا‭ ‬الأحبابُ‭ ‬كلٌ‭ ‬في‭ ‬طريقْ

وإذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬اختيار‭ ‬لقصيدة‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الغربي‭ ‬تتناول‭ ‬مفهوم‭ ‬الطريق،‭ ‬فلا‭ ‬بُد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬القصيدة‭ ‬الشهيرة‭ “‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يُسلك‭” ‬للشاعر‭ ‬روبرت‭ ‬فروست،‭ ‬التي‭ ‬تُعدّ‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬البارزة‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬رحلة‭ ‬الحياة،‭ ‬والتي‭ ‬أصبح‭ ‬عنوانها‭ ‬مقولة‭ ‬بحد‭ ‬ذاتها‭.‬

هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬الغامضة‭ ‬تستكشف‭ ‬طبيعة‭ ‬الخيارات‭ ‬التي‭ ‬تفرض‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬البشر،‭ ‬بحيث‭ ‬يبدأ‭ ‬الغموض‭ ‬من‭ ‬سؤال‭ ‬استفهامي‭ ‬عن‭ ‬حرية‭ ‬الإرادة‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬حتمية‭ ‬القدر‭ ‬والنتائج‭ ‬المترتبة‭ ‬على‭ ‬اختيار‭ ‬الراوي‭ ‬للطريق‭ ‬غير‭ ‬المسلوك،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬غريزة‭ ‬إنسانية‭ ‬لخوض‭ ‬المغامرة‭ ‬واكتشاف‭ ‬المجهول. ‬تقول‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭:‬

طريقان‭ ‬تشعّبتا‭ ‬في‭ ‬غابةٍ‭ ‬صفراء،
وإنّي‭ ‬لآسَفُ‭ ‬لعجزي‭ ‬عن‭ ‬عبورهما‭ ‬معًا‭.‬
ولأنّني‭ ‬مسافرٌ‭ ‬وحيدٌ،‭ ‬فقد‭ ‬وقفتُ‭ ‬طويلًا،
ومددتُ‭ ‬ناظريَّ‭ ‬وسعَ‭ ‬طاقتي‭ ‬إلى‭ ‬إحداهما،
إلى‭ ‬حيث‭ ‬تنعطف‭ ‬عند‭ ‬الشجيْراتِ‭ ‬الدُّنْيا؛
ثم‭ ‬اخترتُ‭ ‬الطريقَ‭ ‬الأخرى‭ ‬ــــ‭ ‬وهذا‭ ‬خيارٌ‭ ‬لا‭ ‬يقلُّ‭ ‬إنصافًا،
بل‭ ‬لعلّه‭ ‬الخيارُ‭ ‬الأصحّ،
إذ‭ ‬كانت‭ ‬معشوشبةً‭ ‬وتحتاجُ‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تُوطأ؛
رغم‭ ‬أنّ‭ ‬العبورَ‭ ‬عليهما
قد‭ ‬أنهكهما‭ ‬بقَدْرٍ‭ ‬مماثلٍ‭ ‬تقريبًا،
وكلتاهما‭ ‬امتلأتْ‭ ‬ذلك‭ ‬الصباح
بأوراقٍ‭ ‬لم‭ ‬تُسوِّدْها‭ ‬الخُطى‭.‬
أوه،‭ ‬لقد‭ ‬تركتُ‭ ‬الطريقَ‭ ‬الأولى‭ ‬ليومٍ‭ ‬آخر‭!‬
لكن،‭ ‬إذ‭ ‬كنتُ‭ ‬أعلم‭ ‬كيف‭ ‬تفضي‭ ‬طريقٌ‭ ‬إلى‭ ‬طرقٍ‭ ‬أخرى،
فقد‭ ‬شككتُ‭ ‬في‭ ‬ضرورة‭ ‬الرجوع‭.‬
سأروي‭ ‬كلّ‭ ‬هذا‭ ‬بحسرة
في‭ ‬مكانٍ‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬أزمانٍ‭ ‬وأزمان‭:‬
طريقان‭ ‬تشعّبتا‭ ‬في‭ ‬غابةٍ،‭ ‬وأنا‭ ‬ــــ
اخترتُ‭ ‬الطريقَ‭ ‬التي‭ ‬سُلِكتْ‭ ‬أقلّ،
وهذا‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬شكَّلَ‭ ‬الفارقَ‭ ‬كلّه‭.‬

الطريق‭ ‬في‭ ‬الأدب

الطريق‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬هي‭ ‬فكرة‭ ‬ورمز‭ ‬ومبدأ‭ ‬منظم،‭ ‬ويمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬أدبي،‭ ‬مثل‭ ‬كل‭ ‬طريق،‭ ‬يتيح‭ ‬رحلة‭ ‬فريدة. ‬فمن‭ ‬خلال‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬نتحول‭ ‬إلى‭ ‬قراء‭ ‬ومسافرين‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬نقرأ‭ ‬الطريق‭ ‬ونسافر‭ ‬عبر‭ ‬الصفحات‭ ‬والكلمات. ‬ونظرًا‭ ‬لكثرة‭ ‬الصور‭ ‬التي‭ ‬ظهر‭ ‬بها‭ ‬الطريق‭ ‬في‭ ‬آداب‭ ‬العالم،‭ ‬نكتفي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬بذكر‭ ‬بعض‭ ‬أشهر‭ ‬النماذج‭ ‬المعبّرة‭ ‬عن‭ ‬تنوعها.

هوميروس

الأدب‭ ‬الغربي‭ ‬وتحوّلات‭ ‬الطريق

يظهر‭ ‬أقدم‭ ‬مثال‭ ‬معروف‭ ‬لـ “الطريق” ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬أبرز‭ ‬الملاحم‭ ‬الشعرية‭ ‬اليونانية، “الأوديسة”، ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬هوميروس‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد. ‬تؤرخ‭ ‬هذه‭ ‬الملحمة‭ ‬لمغامرات‭ ‬البطل‭ ‬الإغريقي‭ ‬أوديسيوس‭ ‬ملك “إيثاكا”‬،‭ ‬وهو‭ ‬يشق‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬موطنه‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬طروادة. ‬ومن‭ ‬الشائع‭ ‬أن‭ ‬قصص‭ ‬هذا‭ ‬البطل‭ ‬الإغريقي‭ ‬وما‭ ‬حدث‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬طريق‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬جزيرة‭ ‬إيثاكا‭ ‬كانت‭ ‬أساسًا‭ ‬لمعايير‭ ‬السلوك‭ ‬المشرف‭ ‬لدى‭ ‬الإغريق‭ ‬القدماء،‭ ‬وكانت‭ ‬مصدر‭ ‬إلهام‭ ‬في‭ ‬مجتمعهم‭.‬

ولا‭ ‬يخلو‭ ‬كتاب‭ ‬الرحالة‭ ‬والمغامر‭ ‬الإيطالي‭ ‬الشهير‭ ‬ماركو‭ ‬بولو،‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬عنوان “كتاب‭ ‬العجائب”‬،‭ ‬من‭ ‬سرد‭ ‬مغامراته‭ ‬وانطباعاته‭ ‬خلال‭ ‬سنوات‭ ‬سفره‭ ‬الطويلة‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬فارس‭ ‬والصين‭ ‬وإندونيسيا‭ ‬بين‭ ‬عامي ‭‬1271م‭ ‬و1298م. ‬وجديرٌ‭ ‬بالذكر‭ ‬أن‭ ‬الطرق‭ ‬التي‭ ‬ذكرها‭ ‬ماركو‭ ‬بولو‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬كانت‭ ‬بمثابة‭ ‬خارطة‭ ‬طريق‭ ‬استعان‭ ‬بها‭ ‬كريستوف‭ ‬كولومبوس،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬نسخة‭ ‬مشروحة‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬أثناء‭ ‬محاولته‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬جزر‭ ‬الهند‭ ‬الشرقية‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬البحر‭ ‬بعد‭ ‬قرنين‭ ‬من‭ ‬الزمان‭.‬

أما‭ ‬في “حكايات‭ ‬كانتربري”‬،‭ ‬وهي‭ ‬مجموعة‭ ‬مؤلفة‭ ‬من‭ ‬24‭ ‬قصة‭ ‬كتبها‭ ‬جيفري‭ ‬تشوسر‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬اثنتان‭ ‬منها‭ ‬كانتا‭ ‬نثرًا‭ ‬والباقية‭ ‬كُتبت‭ ‬في‭ ‬أبيات‭ ‬شعرية،‭ ‬فنترافق‭ ‬مع‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الحجّاج‭ ‬في‭ ‬طريقهم‭ ‬إلى‭ ‬كاتدرائية‭ ‬كانتربري،‭ ‬إذ‭ ‬عمدوا‭ ‬إلى‭ ‬سرد‭ ‬القصص‭ ‬على‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض،‭ ‬لتسهيل‭ ‬مشقة‭ ‬الطريق‭ ‬الطويل‭ ‬عليهم. ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬القصص‭ ‬والحكايات‭ ‬التي‭ ‬روتها‭ ‬تلك‭ ‬الشخصيات،‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬مختلف‭ ‬الطبقات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬يكشف‭ ‬تشوسر‭ ‬بمهارة‭ ‬عيوب‭ ‬الإنسان‭ ‬ونقاط‭ ‬ضعفه‭.‬

ومع‭ ‬رواية “دون‭ ‬كيشوت‭ ‬دي‭ ‬لامانشا” ‬إحدى‭ ‬الروايات‭ ‬الإسبانية‭ ‬الشهيرة،‭ ‬وتحفة‭ ‬الأديب‭ ‬ميغيل‭ ‬دي‭ ‬سيرفانتس‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬نُشرت‭ ‬في‭ ‬جزئين‭ ‬بين‭ ‬عامي ‭‬1605م‭ ‬و1615م،‭ ‬ينطلق‭ ‬دون‭ ‬كيشوت،‭ ‬وهو‭ ‬رجل‭ ‬نبيل‭ ‬تأثر‭ ‬بالكتب‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يقرؤها‭ ‬عن‭ ‬الفروسية‭ ‬والشهامة،‭ ‬فتملكه‭ ‬الوهم‭ ‬بأنه‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬كان‭ ‬فارسًا‭ ‬شجاعًا،‭ ‬في‭ ‬مهمة‭ ‬لحماية‭ ‬الناس‭ ‬التعساء‭ ‬والمظلومين‭ ‬وتخليصهم‭ ‬من‭ ‬براثن‭ ‬الطغاة. ‬فتتحول‭ ‬معه‭ ‬الطريق‭ ‬المادية‭ ‬التي‭ ‬تنقل‭ ‬عبرها‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬معنوية‭ ‬استطاعت‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬أن‭ ‬تغير‭ ‬حياته‭.‬

قد‭ ‬يكون‭ ‬كتاب “الطريق‭ ‬إلى‭ ‬مكة” ‬لمؤلفه‭ ‬النمساوي‭ ‬ليوبولد‭ ‬فايس،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يهوديًا‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬اعتنق‭ ‬الإسلام ‬واختار‭ ‬لنفسه‭ ‬اسم “محمد‭ ‬أسد”‬،‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬يرمز‭ ‬عنوانها‭ ‬إلى‭ ‬الطريق‭ ‬بمعناه‭ ‬الحرفي‭ ‬الذي‭ ‬أوصل‭ ‬الكاتب‭ ‬فعليًا‭ ‬إلى‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬المعنى‭ ‬الرمزي‭ ‬لرجل‭ ‬سار‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬أوصله،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬محطات‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬كان‭ ‬يبحث‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬المعنى،‭ ‬إلى‭ ‬دين‭ ‬الإسلام،‭ ‬وإلى‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬قدسية. ‬فهذا‭ ‬الكتاب‭ ‬يسرد‭ ‬مغامرات‭ ‬محمد‭ ‬أسد‭ ‬في‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬وصحوته‭ ‬الداخلية،‭ ‬وعلاقاته‭ ‬مع‭ ‬البدو‭ ‬والحكّام‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى. ‬ويتحدث‭ ‬عن‭ ‬قصة‭ ‬رجل‭ ‬تحدى‭ ‬التقاليد،‭ ‬وصارع‭ ‬الضياع‭ ‬وقدم‭ ‬رؤية‭ ‬عميقة‭ ‬عن‭ ‬الإسلام،‭ ‬وحتى‭ ‬لرمزية‭ ‬الكعبة‭ ‬المشرفة‭ ‬ومعناها‭.‬

وثمة‭ ‬رواية‭ ‬أخرى‭ ‬حملت‭ ‬فيها‭ ‬كلمة‭ ‬الطريق‭ ‬معنى‭ ‬ذا‭ ‬وجهين‭ ‬اثنين،‭ ‬الحرفي‭ ‬والرمزي،‭ ‬وهي‭ ‬رواية “الطريق” ‬الصادرة‭ ‬عام ‭‬2005م،‭ ‬من‭ ‬تأليف‭ ‬كورماك‭ ‬مكارثي،‭ ‬والمستوحاة‭ ‬من‭ ‬زيارة‭ ‬إلى “إل‭ ‬باسو” ‬في‭ ‬تكساس‭ ‬كان‭ ‬الكاتب‭ ‬قد‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬مع‭ ‬ابنه. ‬فهي‭ ‬حكاية‭ ‬لرحلة‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬أبٌ‭ ‬وابنه‭ ‬الصغير‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عدة‭ ‬أشهر‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬نهاية‭ ‬العالم،‭ ‬عبر‭ ‬منظر‭ ‬طبيعي‭ ‬دمرته‭ ‬كارثة‭ ‬مجهولة‭ ‬قضت‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬الأرض. ‬الطريق‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬فكرة‭ ‬حاضرة‭ ‬بقوة‭ ‬ورمز‭ ‬للقصة‭ ‬بأكملها،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تُبقي‭ ‬الرجل‭ ‬والصبي‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬أثناء‭ ‬سفرهما‭ ‬وهما‭ ‬يبحثان‭ ‬عن‭ ‬الطعام‭ ‬وعن‭ ‬وجهات‭ ‬جديدة‭ ‬للبقاء. ‬حرفيًا،‭ ‬كان‭ ‬الطريق‭ ‬مفتاح‭ ‬بقائهم،‭ ‬ورمزيًا‭ ‬كان‭ ‬رحلة‭ ‬حياتهم. ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬الرواية،‭ ‬يقضي‭ ‬الصبي‭ ‬والرجل‭ ‬عدة‭ ‬أيام‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الطريق‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المخيمات،‭ ‬وذلك‭ ‬لتصوير‭ ‬رمزية‭ ‬انحراف‭ ‬الرجل‭ ‬عن‭ ‬رحلة‭ ‬حياته. ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يحيا،‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬الصبي‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬الطريق‭ ‬ليواصل‭ ‬رحلته‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬والده‭.‬

زمكان‭ ‬الطريق‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬العربية

من أول ما يتبادر إلى ذهننا من أعمال‭ ‬أدبية‭ ‬عربية‭ ‬تتناول‭ ‬فكرة‭ ‬الطريق،‭ ‬هي‭ ‬رواية “الطريق” ‬لنجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬الصادرة‭ ‬عام ‭‬1964م،‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬رحلة‭ ‬شاب‭ ‬مصري‭ ‬يُدعى‭ ‬صابر،‭ ‬وهو‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يحيد‭ ‬عن‭ ‬الدرب‭ ‬الذي‭ ‬رسمته‭ ‬له‭ ‬والدته‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬خلفية‭ ‬قذرة‭ ‬وفقر‭ ‬مدقع،‭ ‬إذ‭ ‬راح‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬الأب‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يعرفه‭ ‬أبدًا. ‬لكن‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬سعيه‭ ‬هذا‭ ‬يتعرف‭ ‬صابر‭ ‬على‭ ‬امرأتين‭ ‬ويتورط‭ ‬مع‭ ‬إحداهن‭ ‬في‭ ‬جريمة‭ ‬قتل‭.‬

تكمن‭ ‬أهمية‭ ‬الرواية‭ ‬بشكل‭ ‬رئيس‭ ‬في‭ ‬طبيعتها‭ ‬الرمزية،‭ ‬وفي‭ ‬قراءاتها‭ ‬المحتملة؛‭ ‬فهل‭ ‬كان‭ ‬صابر‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬جذوره‭ ‬العائلية‭ ‬أم‭ ‬عن‭ ‬قيم‭ ‬صحيحة‭ ‬تدله‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬القويم‭ ‬أم‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬سياسية‭ ‬تحدد‭ ‬مساره‭ ‬الوطني‭ ‬والاجتماعي؟

على‭ ‬صعيد‭ ‬آخر،‭ ‬يتحدث‭ ‬ميخائيل‭ ‬باختين‭ ‬الناقد‭ ‬الأدبي‭ ‬الروسي‭ ‬عن‭ ‬مفهوم “زمكان‭ ‬الطريق” ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬فحسب‭ ‬تعبيره: “تتقاطع‭ ‬في‭ ‬نقطة‭ ‬زمانية‭ ‬ومكانية‭ ‬واحدة‭ ‬الدروب‭ ‬الزمانية‭ ‬والمكانية‭ ‬لمختلف‭ ‬ألوان‭ ‬الناس”. ‬ولزمكان‭ ‬الطريق،‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر‭ ‬موضوعًا‭ ‬مهمًا‭ ‬من‭ ‬الموضوعات‭ ‬الأدبية،‭ ‬أبعاد‭ ‬متنوعة. ‬فأولًا،‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬معينة‭ ‬بُعد‭ ‬عياني‭ ‬كأن‭ ‬يكون‭ ‬التناول‭ ‬مرتبطًا‭ ‬بطريق‭ ‬مكاني‭ ‬فعلي،‭ ‬يتم‭ ‬خلاله‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬مادي‭ ‬إلى‭ ‬آخر. ‬وثانيًا،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬الموضوع‭ ‬متصلًا‭ ‬بطريق‭ ‬حياة،‭ ‬إذ‭ ‬يلوح‭ ‬في‭ ‬انتقال‭ ‬الإنسان‭ ‬عبر‭ ‬المكان‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬ارتباط‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬بمعنى‭ ‬حياتي‭ ‬فعلي،‭ ‬وباكتساب‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬علاقة‭ ‬جوهرية‭ ‬بالبطل‭ ‬ومصيره‭.‬

ونجد‭ ‬مثالًا‭ ‬جيدًا‭ ‬لزمكان‭ ‬الطريق‭ ‬في‭ ‬رواية “رجال‭ ‬في‭ ‬الشمس” ‬لغسان‭ ‬كنفاني،‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬ثلاث‭ ‬شخصيات: ‬أبو‭ ‬قيس‭ ‬وأسعد‭ ‬ومروان،‭ ‬قاموا‭ ‬برحلة‭ ‬لينتقلوا‭ ‬من‭ ‬موطنهم “الأليف”‬،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬أليفًا،‭ ‬إلى‭ ‬بلد‭ ‬آخر،‭ ‬وهم‭ ‬يحلمون‭ ‬ببعض‭ ‬الدنانير. ‬وفي‭ ‬رحلة‭ ‬انتقالهم‭ ‬تلك‭ ‬اختبؤوا‭ ‬في‭ ‬خزان،‭ ‬وفيه‭ ‬لفظوا‭ ‬أنفاسهم‭ ‬الأخيرة‭ ‬ولم‭ ‬يبلغوا‭ ‬نهاية‭ ‬الطريق‭ ‬أبدًا‭.‬

فكانت‭ ‬هناك،‭ ‬داخل‭ ‬جدران‭ ‬ذلك‭ ‬الخزان،‭ ‬نقطة‭ ‬الالتقاء‭ ‬الزمانية‭ ‬والمكانية‭ ‬التي‭ ‬تليها‭ ‬نقطة‭ ‬زمانية‭ ‬ومكانية‭ ‬أخرى،‭ ‬عندما‭ ‬تصبح‭ ‬تلك‭ ‬الشخصيات‭ ‬جُثثًا‭ ‬يلقى‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬القمامة. ‬هكذا‭ ‬كان‭ ‬طريق‭ ‬أبو‭ ‬قيس‭ ‬وأسعد‭ ‬ومروان‭ ‬الأخير (‬والطريق‭ ‬عنوان‭ ‬لفصل‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬الرواية) ‬الذي‭ ‬كانوا‭ ‬يستعيدون‭ ‬فيه،‭ ‬ونستعيد‭ ‬معهم،‭ ‬طرقًا‭ ‬فرعية‭ ‬كثيرة‭ ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬قطعوها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬فكانت‭ ‬كلها‭ ‬توصلهم‭ ‬إلى‭ ‬طريقهم‭ ‬الأخير‭.‬

استعارات‭ ‬لا‭ ‬تُحصى.. ‬وأبرزها‭ ‬طريق‭ ‬الحياة

تزخر‭ ‬لغتنا‭ ‬ومفرداتنا‭ ‬اليومية‭ ‬بالاستعارات‭ ‬المستمدة‭ ‬من‭ ‬الطريق،‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬متنوعة‭ ‬ومتعددة‭ ‬المستويات،‭ ‬فمن‭ ‬منا‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬بطريق‭ ‬النجاح،‭ ‬طريق‭ ‬الفشل،‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الفلسفة،‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع،‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الحكمة،‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬السعادة،‭ ‬الطريق‭ ‬المستقيم،‭ ‬طريق‭ ‬الضلال،‭ ‬طريق‭ ‬العدالة،‭ ‬طريق‭ ‬الإيمان،‭ ‬طريق‭ ‬الضياع،‭ ‬الطريق‭ ‬المسدود.. ‬والقائمة‭ ‬تطول‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يسعه‭ ‬الحصر،‭ ‬ويبقى‭ ‬الرابط‭ ‬المشترك‭ ‬بينها‭ ‬كلها‭ ‬هو‭ ‬جريان‭ ‬الزمن‭ ‬والسير‭ ‬إلى‭ ‬وجهة‭ ‬معيّنة‭.‬

وقد‭ ‬تكون‭ ‬الاستعارة‭ ‬الأبرز‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬هي “طريق‭ ‬الحياة”‬،‭ ‬إذ‭ ‬لطالما‭ ‬شُبّهت‭ ‬الحياة‭ ‬بالطريق‭ ‬بلقاءاتها‭ ‬ومحطاتها‭ ‬ومطباتها‭ ‬وصعابها‭ ‬وتعرجاتها‭ ‬والتواءاتها،‭ ‬فمعها‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نواجه‭ ‬الطريق‭ ‬المسدود،‭ ‬أو‭ ‬نتخذ‭ ‬طريقًا‭ ‬غير‭ ‬مسلوك،‭ ‬أو‭ ‬نسير‭ ‬ببطء‭ ‬أو‭ ‬بسرعة‭ ‬وقد‭ ‬نعتمد‭ ‬طريق‭ ‬الصعود،‭ ‬أو‭ ‬قد‭ ‬ننحدر‭ ‬نزولًا،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬الطريق،‭ ‬ونواجه‭ ‬فناءنا‭ ‬المحتوم‭.‬

ما‭ ‬بين‭ ‬الطريق‭ ‬والدرب.. ‬حكم‭ ‬وأقوال‭ ‬مأثورة

يقولون‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬إن “كل‭ ‬الطرق‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬روما”‬،‭ ‬ونقول‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬إن “كلّ‭ ‬الدروب‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الطاحون”‬،‭ ‬والمثلان‭ ‬تعبيران‭ ‬اصطلاحيان‭ ‬يحملان‭ ‬المعنى‭ ‬ذاته،‭ ‬ويشيران‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الطرق‭ ‬المختلفة‭ ‬لتحقيق‭ ‬النتيجة‭ ‬ذاتها‭.‬

ولنعرف‭ ‬أصل‭ ‬المقولة‭ ‬الأولى‭ ‬فعلينا‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬روما‭ ‬القديمة،‭ ‬وإلى‭ ‬شبكتها‭ ‬الواسعة‭ ‬من‭ ‬الطرق؛‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬نصًا‭ ‬يُسمى “مسار‭ ‬الرحلة‭ ‬الأنطونية”‬،‭ ‬ويعود‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬القرنين‭ ‬الأول‭ ‬والثالث‭ ‬الميلاديين،‭ ‬يتضمن‭ ‬وصفًا‭ ‬لطرق‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية،‭ ‬ويفخر‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬منطقة‭ ‬في‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬غير‭ ‬موصولة‭ ‬بطريق‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬روما. ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يعرف‭ ‬متى‭ ‬أصبحت‭ ‬هذه‭ ‬المقولة‭ ‬مترسخة‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬اليومي‭ ‬للشعوب‭ ‬الغربية،‭ ‬لكن‭ ‬ورودها‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الشعبية‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬وقت‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

أما‭ ‬المقولة‭ ‬الثانية،‭ ‬فتنبع‭ ‬من‭ ‬نمط‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الماضية،‭ ‬ومن‭ ‬ثقافتهم‭ ‬الشعبية‭ ‬السائدة‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الطاحون‭ ‬هو‭ ‬النقطة‭ ‬التي‭ ‬تنتهي‭ ‬إليها‭ ‬جميع‭ ‬الدروب‭ ‬وفيها‭ ‬تلتقي. ‬وذلك‭ ‬لأن‭ ‬الطاحون‭ ‬هو‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬فيه‭ ‬يُطحن‭ ‬فيه‭ ‬القمح‭ ‬لصنع‭ ‬الخبز. ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬الخبز‭ ‬هو‭ ‬عصب‭ ‬الحياة،‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لكل‭ ‬بيت‭ ‬في‭ ‬القرية‭ ‬أو‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬درب‭ ‬تصله‭ ‬بالطاحون‭ ‬لتأمين‭ ‬القوت‭ ‬اليومي‭.‬

ومن‭ ‬أبرز‭ ‬الأقوال‭ ‬المأثورة‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬قول‭ ‬الإمام‭ ‬الشافعي: “الطريق‭ ‬ليس‭ ‬لمن‭ ‬سبق،‭ ‬إنما‭ ‬الطريق‭ ‬لمن‭ ‬صدق”‬،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الاستقامة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تضمن‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المبتغى‭ ‬وليس‭ ‬التسرع‭.‬

ويُقال‭ ‬أيضًا‭ ‬إن “كل‭ ‬من‭ ‬سار‭ ‬على‭ ‬الدرب‭ ‬وصل”‬،‭ ‬وهي‭ ‬عبارة‭ ‬تقول‭ ‬بضرورة‭ ‬السعي‭ ‬وبذل‭ ‬الجهد‭ ‬لتحقيق‭ ‬الأهداف،‭ ‬وأن‭ ‬من‭ ‬يجتهد‭ ‬سوف‭ ‬يجد‭ ‬نتيجة‭ ‬اجتهاده‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يعترضه‭ ‬من‭ ‬صعوبات. ‬وهذه‭ ‬المقولة‭ ‬هي‭ ‬الشطر‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬الشعر‭ ‬الآتي‭:‬

لا‭ ‬تقل‭ ‬قد‭ ‬ذهبت‭ ‬أربابُهُ
كل‭ ‬من‭ ‬سار‭ ‬على‭ ‬الدرب‭ ‬وصلْ

وقد‭ ‬أصبحت‭ ‬العبارة‭ ‬مثلًا‭ ‬تستخدم‭ ‬بحد‭ ‬ذاتها‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬طويلة‭ ‬للشاعر‭ ‬ابن‭ ‬الوردي‭ ‬نظمها‭ ‬وهو‭ ‬يقدم‭ ‬نصائح‭ ‬لولده‭.‬

ومن‭ ‬منا‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬بالمثل‭ ‬الذي‭ ‬يقول “كَرمٌ‭ ‬على‭ ‬درب‭”‬؟‭ ‬فهذا‭ ‬المثل‭ ‬اعتمده‭ ‬ميخائيل‭ ‬نعيمة‭ ‬ليكون‭ ‬عنوانًا‭ ‬لكتابه‭ ‬الصادر‭ ‬عام ‬1948م،‭ ‬الذي‭ ‬أورد‭ ‬فيه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأقوال‭ ‬والأمثال‭ ‬السائدة،‭ ‬وهو‭ ‬يشير‭ ‬إلى “الكرم” ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬البستان‭ ‬الفسيح‭ ‬المستوي‭ ‬الأرض‭ ‬مثل‭ ‬كرم‭ ‬العنب،‭ ‬والدرب‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الطريق،‭ ‬بحيث‭ ‬تُستعمل‭ ‬العبارة‭ ‬للدلالة‭ ‬على‭ ‬الرجل‭ ‬الكريم‭ ‬المعطاء‭ ‬الذي‭ ‬يعطي‭ ‬الخيرات‭ ‬ويقدم‭ ‬الطعام‭ ‬لكل‭ ‬عابر‭ ‬سبيل‭.‬

وأخيرًا،‭ ‬نذكر‭ ‬المثل‭ ‬الشعبي‭ ‬القائل: “عليك‭ ‬بالدرب‭ ‬لو‭ ‬طال‭ ‬والصديق‭ ‬لو‭ ‬عال”. ‬والمراد‭ ‬هو‭ ‬تقديم‭ ‬نصيحة‭ ‬بعدم‭ ‬التراجع‭ ‬عن‭ ‬الدرب‭ ‬الذي‭ ‬سلكته‭ ‬وإن‭ ‬طال‭ ‬بك،‭ ‬حتى‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬أهدافك. ‬أما‭ ‬الصديق‭ ‬لو‭ ‬عال،‭ ‬ففيها‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬صاحبك‭ ‬وإن‭ ‬أخطأ‭ ‬أحيانًا‭.‬

في‭ ‬السينما.. ‬مسرحٌ‭ ‬للتفاعل‭ ‬والتحولات

في‭ ‬عالم‭ ‬السينما‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬بـ “فلم‭ ‬الطريق” ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬فضفاضًا؛‭ ‬لأن‭ ‬أي‭ ‬فلم‭ ‬تقريبًا،‭ ‬سواء‭ ‬أكان‭ ‬روائيًا‭ ‬أم‭ ‬غير‭ ‬ذلك،‭ ‬يمكن‭ ‬تفسيره‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬رحلة‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬معين. ‬فالعديد‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬السردية‭ ‬تتبع‭ ‬الشخصيات‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬ولكن‭ ‬مصطلح “فلم‭ ‬الطريق” ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬سينمائيّ‭ ‬تجري‭ ‬فيه‭ ‬الأحداث‭ ‬الرئيسة‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬مكان‭ ‬العقدة‭.‬

يربط‭ ‬الطريق‭ ‬كل‭ ‬أحداث‭ ‬الفلم‭ ‬بعضها‭ ‬ببعض،‭ ‬فيصبح‭ ‬هو‭ ‬المحور‭ ‬وعليه‭ ‬تدور‭ ‬أحداث‭ ‬الرحلة،‭ ‬وعبره‭ ‬يلتقي‭ ‬البطل‭ ‬بالشخصيات‭ ‬العرضية‭ ‬أو‭ ‬المحطات‭ ‬المختلفة،‭ ‬فيحصل‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬الشخصيات،‭ ‬سواء‭ ‬باعتبارها‭ ‬شخصية‭ ‬مساعدة‭ ‬أم‭ ‬معرقلة،‭ ‬أم‭ ‬شخصية‭ ‬تندمج‭ ‬في‭ ‬الرحلة‭ ‬على‭ ‬الطريق. ‬وانطلاقًا‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬تُعتبر‭ ‬أفلام‭ ‬الطريق‭ ‬نوعًا‭ ‬فنيًا‭ ‬مستقلًا‭ ‬وفقًا‭ ‬لمعايير‭ ‬خاصة‭ ‬تنطبق‭ ‬عليها‭ ‬بصورة‭ ‬عامة،‭ ‬مثلها‭ ‬مثل‭ ‬أفلام‭ ‬الرعب،‭ ‬وأفلام‭ ‬الغرب‭ ‬الأمريكي،‭ ‬وأفلام‭ ‬الخيال‭ ‬العلمي‭.‬

ظهرت‭ ‬عناصر “فلم‭ ‬الطريق” ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬من‭ ‬العصر‭ ‬الكلاسيكي. ‬فقبل‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬كانت‭ ‬عناوين‭ ‬الأفلام‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬بـ “الطريق‭ ‬إلى…”‬‭ ‬تشكل‭ ‬أكبر‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬العناوين،‭ ‬وتشمل‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭:‬ الطريق‭ ‬إلى‭ ‬هونغ‭ ‬كونغ،‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة،‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬سنغافورة،‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬زنجبار.. ‬ولكن‭ ‬مصطلح “فلم‭ ‬الطريق” ‬انتشر‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬لوصف‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬الأمريكية‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬الستينيات‭ ‬وأوائل‭ ‬السبعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وكانت‭ ‬تدور‭ ‬حول “السير‭ ‬على‭ ‬الطريق‭”.‬

يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬قد‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬السينما‭ ‬المستقلة‭ ‬في‭ ‬أمريكا،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬باكورتها‭ ‬فلم
“الراكب‭ ‬البسيط” ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬عام ‭‬1969م‭ ‬للمخرج‭ ‬دينيس‭ ‬هوبر،‭ ‬الذي‭ ‬يحكي‭ ‬قصة‭ ‬سائقي‭ ‬دراجة‭ ‬نارية‭ ‬ورحلتهما‭ ‬من‭ ‬لوس‭ ‬أنجلوس‭ ‬عبر‭ ‬الجنوب‭ ‬الغربي‭ ‬باتجاه‭ ‬لويزيانا،‭ ‬ويطرح‭ ‬التغيرات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬خلال‭ ‬الستينيات،‭ ‬مثل‭ ‬ظهور‭ ‬حركة‭ ‬الهيبيين‭ ‬وانتشار‭ ‬المخدرات‭ ‬وظاهرة‭ ‬الجماعات‭ ‬المنعزلة. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬فلم “الفزاعة‭”‬،‏‭ ‬وهو‭ ‬فلم‭ ‬مغامرات‭ ‬تراجيدي‭ ‬أمريكي‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬عام ‭‬1973م‭ ‬ومن‭ ‬إخراج‭ ‬جيري‭ ‬سكاتزبيرغ،‭ ‬ويتمحور‭ ‬حول‭ ‬علاقة‭ ‬غريبة‭ ‬بين‭ ‬متشردَين‭ ‬اثنين‭ ‬يجتمعان‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬كاليفورنيا،‭ ‬فيتفقان‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يتشاركا‭ ‬في‭ ‬افتتاح‭ ‬ورشة‭ ‬لغسيل‭ ‬السيارات‭ ‬حال‭ ‬وصولهما‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬بيتسبرغ،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬أحداث‭ ‬عدة‭ ‬نرى‭ ‬كيف‭ ‬تتطور‭ ‬صداقتهما‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الطريق‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬أشهر‭ ‬الأفلام‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬أحداثها‭ ‬بشكل‭ ‬كامل‭ ‬على‭ ‬الطريق،‭ ‬وتطلبت‭ ‬شق‭ ‬عشرات‭ ‬الكيلومترات‭ ‬وسفلتتها‭ ‬خصيصًا‭ ‬لتصويرها،‭ ‬هي‭ ‬سلسلة‭ ‬الأفلام‭ ‬الأربعة‭ ‬التي‭ ‬أخرجها‭ ‬جورج‭ ‬ميلر،‭ ‬بدءًا‭ ‬بـ “ماد‭ ‬ماكس” ‬عام‭ ‬1979م،‭ ‬ووصولًا‭ ‬إلى “ماد‭ ‬ماكس،‭ ‬جنون‭ ‬الطريق” ‬عام 2015م‭.‬

وماذا‭ ‬عن‭ ‬السينما‭ ‬العربية؟

هناك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬أفلام‭ ‬الطريق‭ ‬العربية،‭ ‬ومن‭ ‬أبرزها‭ ‬فلم “ليل‭ ‬خارجي” ‬للمخرج‭ ‬المصري‭ ‬أحمد‭ ‬عبدالله‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬عام ‭‬2018م،‭ ‬ويدور‭ ‬حول‭ ‬مخرج‭ ‬وسائق‭ ‬تاكسي‭ ‬ومعهما‭ ‬فتاة،‭ ‬يحاولون‭ ‬الابتعاد‭ ‬بالسيارة‭ ‬من‭ ‬طريق‭ ‬مكتظ،‭ ‬فتبدأ‭ ‬المغامرة‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬القاهرة،‭ ‬ليكونوا‭ ‬شاهدين‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬خفي‭ ‬وغير‭ ‬معلوم‭ ‬من‭ ‬المدينة. ‬وفي‭ ‬فلمَي “ذيب” ‬للمخرج‭ ‬الأردني‭ ‬ناجي‭ ‬أبو‭ ‬نوار (‬إنتاج‭ ‬عام ‬2014م)‬،‭ ‬و “بابا‭ ‬عزيز” ‬للمخرج‭ ‬التونسي‭ ‬الناصر‭ ‬خمير (‬إنتاج‭ ‬عام 2005م)‬،‭ ‬الطريق‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬ولكن‭ ‬الوسيلة‭ ‬تختلف. ‬ففي‭ ‬الفلم‭ ‬الأول،‭ ‬يحاول‭ ‬فتى‭ ‬من‭ ‬البدو‭ ‬يُدعى “ذيب” ‬أن‭ ‬ينجو‭ ‬في‭ ‬صحراء‭ ‬وادي‭ ‬رم‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬الجمل. ‬أما‭ ‬في‭ ‬الفلم‭ ‬الثاني،‭ ‬فيسافر‭ ‬عزيز،‭ ‬وهو‭ ‬جد‭ ‬ضرير،‭ ‬مع‭ ‬حفيدته‭ ‬عشتار‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬عبر‭ ‬الصحراء‭ ‬سيرًا‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬نحو‭ ‬تجمع‭ ‬صوفي‭ ‬ضخم. ‬وعلى‭ ‬طول‭ ‬الطريق‭ ‬يلتقيان‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الغرباء‭ ‬الذين‭ ‬يروون‭ ‬لهما‭ ‬قصصًا‭ ‬عن‭ ‬مهامهم‭ ‬الروحية‭ ‬الغامضة‭.‬

وهناك‭ ‬أيضًا‭ ‬فلم “الرحلة‭ ‬الكبرى” ‬للمخرج‭ ‬المغربي‭ ‬إسماعيل‭ ‬فروخي،‭ ‬إنتاج‭ ‬عام ‬2004م،‭ ‬الذي‭ ‬تدور‭ ‬أحداثه‭ ‬حول‭ ‬أب‭ ‬مهاجر‭ ‬يقرر‭ ‬السفر‭ ‬عبر‭ ‬البر‭ ‬برفقة‭ ‬ابنه‭ ‬الأصغر،‭ ‬فيقود‭ ‬السيارة‭ ‬من‭ ‬جنوب‭ ‬فرنسا‭ ‬إلى‭ ‬الديار‭ ‬المقدسة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أداء‭ ‬فريضة‭ ‬الحج،‭ ‬ويمر‭ ‬طريقه‭ ‬بعدة‭ ‬دول‭ ‬أوروبية‭ ‬وعربية‭ ‬قبل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المملكة،‭ ‬فيكون‭ ‬هذا‭ ‬الطريق‭ ‬الطويل‭ ‬هو‭ ‬الفضاء‭ ‬الذي‭ ‬يعكس‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الأجيال،‭ ‬وما‭ ‬انتاب‭ ‬الابن‭ ‬من‭ ‬تغيرات‭ ‬نفسية‭ ‬وثقافية‭ ‬ومعرفة‭ ‬لأصوله‭.‬

وأخيرًا،‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬فلم “مشوار‭ ‬عمر” ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬عام ‬1986م،‭ ‬وفيه‭ ‬يسرد‭ ‬المخرج‭ ‬المصري‭ ‬محمد‭ ‬خان‭ ‬رحلة‭ ‬عُمَر‭ ‬في‬48‭ ‬ ساعة‭ ‬في‭ ‬سيارته‭ ‬الفاخرة،‭ ‬أثناء‭ ‬رحلته‭ ‬من‭ ‬القاهرة‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬طنطا (‬دلتا‭ ‬النيل) ‬من‭ ‬أجل‭ ‬توصيل‭ ‬حقيبة‭ ‬مجوهرات‭ ‬لأحد‭ ‬عملاء‭ ‬أبيه‭ ‬تاجر‭ ‬الذهب‭.‬

من‭ ‬الطريق‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬إلى‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬الشوارع

قبل‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬لم‭ ‬يتناول‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬الطرق‭ ‬والدروب‭ ‬الترابية‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬كونها‭ ‬جزءًا‭ ‬مكملًا‭ ‬للمحيط‭ ‬الطبيعي‭ ‬المشغول‭ ‬بحدث‭ ‬ديني‭ ‬أو‭ ‬أسطوري. ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬الانطباعية‭ ‬ومزاعم‭ ‬الواقعية،‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬الربع‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬شيءٌ‭ ‬واضح‭ ‬من‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالطريق‭ ‬بحد‭ ‬ذاتها‭ ‬عند‭ ‬مونيه‭ ‬ورينوار‭ ‬اللذين‭ ‬رسما “الجسر‭ ‬الجديد” ‬في‭ ‬باريس‭ ‬وحركة‭ ‬المشاة‭ ‬عليه،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬كامي‭ ‬بيسارو‭ ‬الذي‭ ‬رسم‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الدروب‭ ‬الترابية‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬اهتمامه‭ ‬بدراسة‭ ‬البعد‭ ‬الثالث‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬أشهر‭ ‬الفنانين‭ ‬الذين‭ ‬تخصصوا‭ ‬تقريبًا‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬الطرق‭ ‬هو‭ ‬الأمريكي‭ ‬ريتشارد‭ ‬إيستيس،‭ ‬المولود‭ ‬عام ‬1932م،‭ ‬والذي‭ ‬نال‭ ‬شهرته‭ ‬العالمية‭ ‬برسم‭ ‬شوارع‭ ‬مدينتي‭ ‬نيويورك‭ ‬وشيكاغو‭ ‬بأسلوب‭ ‬فائق‭ ‬الواقعية‭ ‬حدَّ‭ ‬المطابقة‭ ‬مع‭ ‬الصور‭ ‬الفوتوغرافية. ‬واللافت‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭ ‬أن‭ ‬عشرات‭ ‬الشوارع‭ ‬التي‭ ‬رسمها‭ ‬فائقة‭ ‬النظافة‭ ‬وخالية‭ ‬تمامًا‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬والمارّة،‭ ‬وكأنه‭ ‬أراد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ذلك‭ ‬إبراز‭ ‬جمال‭ ‬هذه‭ ‬الطرق‭ ‬والشوارع‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬حضور‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يشوهها‭ ‬ويُلقي‭ ‬بنفاياته‭ ‬فيها‭.‬

وإن‭ ‬كان‭ ‬للشارع‭ ‬أو‭ ‬الطريق‭ ‬حضور‭ ‬محدود‭ ‬في‭ ‬الفن،‭ ‬فإن‭ ‬نزول‭ ‬الفن‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬أوجد‭ ‬عالمًا‭ ‬أرحب‭ ‬بكثير‭.‬

فن‭ ‬قديم‭ ‬يتجدد‭ ‬ليعكس‭ ‬روح‭ ‬المدن

للطرق‭ ‬العامة‭ ‬لغة‭ ‬تعكسها‭ ‬لوحات‭ ‬الإعلانات‭ ‬واللافتات‭ ‬وأسماء‭ ‬الشوارع‭ ‬والأماكن‭ ‬وعلامات‭ ‬المحلات‭ ‬التجارية‭ ‬واللافتات‭ ‬العامة‭ ‬على‭ ‬المباني‭ ‬الحكومية‭ ‬وغيرها. ‬ولكن‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬ما‭ ‬يتحدث‭ ‬لغة‭ ‬الشوارع،‭ ‬ويعكس‭ ‬رؤى‭ ‬وأفكار‭ ‬وآراء‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬يسكنون‭ ‬في‭ ‬محيطها‭ ‬هو “فن‭ ‬الشوارع”.‬

يشمل‭ ‬فن‭ ‬الشوارع‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬الجدران،‭ ‬ولكنه‭ ‬يشمل‭ ‬أيضًا‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬التقنيات‭ ‬والوسائل‭ ‬الأخرى‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬فن‭ ‬الضوء،‭ ‬والفسيفساء،‭ ‬والرسم‭ ‬الجداري،‭ ‬والرسم‭ ‬بقوالب “الاستنسل”‬،‭ ‬والملصقات‭ ‬الفنية،‭ ‬والمجسمات‭ ‬والطباعة‭ ‬الخشبية‭.‬

ولفن‭ ‬الشوارع‭ ‬تاريخ‭ ‬طويل،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬فن‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬الجدران‭ ‬أو‭ ‬الغرافيتي،‭ ‬إذ‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬فرنسا‭ ‬رسومات‭ ‬منقوشة‭ ‬على‭ ‬جدران‭ ‬كهف “شوفيه” ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬30‭ ‬ألف‭ ‬سنة،‭ ‬وتصوّر‭ ‬حيوان‭ ‬الماموث‭ ‬وبصمات‭ ‬لليد‭ ‬البشرية. ‬وفي‭ ‬منطقة‭ ‬وانامورا‭ ‬غورج‭ ‬في‭ ‬أستراليا‭ ‬وُجدت‭ ‬روائع‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬الصخري‭ ‬مع‭ ‬رسومات‭ ‬لمخلوقات‭ ‬غريبة. ‬وعُثر‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الكتابات‭ ‬على‭ ‬الجدران‭ ‬التي‭ ‬يزيد‭ ‬عمرها‭ ‬عن‭ ‬2000‭ ‬عام‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬مدينة‭ ‬بومبي‭ ‬الرومانية‭ ‬البائدة. ‬وفي‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬وعلى‭ ‬مقربة‭ ‬من‭ ‬التجمعات‭ ‬السكانية‭ ‬والدروب‭ ‬القديمة،‭ ‬يوجد‭ ‬عدد‭ ‬لا‭ ‬يُحصى‭ ‬من‭ ‬الكتابات‭ ‬والنقوش‭ ‬الصخرية‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬الطلق،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬العلا،‭ ‬وهي‭ ‬بالخط‭ ‬اللحياني‭ ‬واللغات‭ ‬الآرامية‭ ‬واليونانية‭ ‬واللاتينية‭ ‬والعربية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬رسوم‭ ‬لحيوانات‭ ‬كثيرة‭ ‬مثل‭ ‬الإبل‭ ‬والغزلان‭ ‬والثيران‭.‬

وفي‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬الجدران‭ ‬متأصلة‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الثقافات‭ ‬البشرية‭ ‬وعبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬فإن‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬الجدران‭ ‬كما‭ ‬نعرفها‭ ‬اليوم‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬نيويورك‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬الستينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي. ‬وفي‭ ‬مجتمعات‭ ‬عديدة،‭ ‬كان‭ ‬فن‭ ‬الغرافيتي‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬يعتبر‭ ‬غير‭ ‬قانوني،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬فنانو‭ ‬الغرافيتي‭ ‬الكبار‭ ‬خارج‭ ‬الأضواء‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬صيت‭ ‬بعضهم‭ ‬قد‭ ‬ذاع‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬بانكسي،‭ ‬المعروف‭ ‬عالميًا‭ ‬بهذا‭ ‬الاسم،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬هوية‭ ‬معروفة‭ ‬أو‭ ‬صورة‭ ‬له‭.‬

وفي‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬أصبحت‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬الجدران‭ ‬شكلًا‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الفن‭ ‬المقبول،‭ ‬كما‭ ‬نلمس‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬إطلاق‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬السعودية‭ ‬لمبادرات‭ ‬وبرامج‭ ‬لدعم “فناني‭ ‬الشوارع” ‬مع‭ ‬اختيار‭ ‬مواقع‭ ‬محددة‭ ‬لهم،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة،‭ ‬حتى‭ ‬يتمكنوا‭ ‬من‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬أنفسهم‭ ‬باستخدام‭ ‬رذاذ‭ ‬الطلاء،‭ ‬والطلاء‭ ‬بالفرشاة،‭ ‬وأقلام‭ ‬التحديد،‭ ‬والطباعة‭ ‬بالاستنسل،‭ ‬وغيرها‭.‬

بدأ‭ ‬الشكل‭ ‬الفني‭ ‬للغرافيتي‭ ‬في‭ ‬التطور‭ ‬في‭ ‬عام ‭‬2009م،‭ ‬عندما‭ ‬سعت‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬والشابات‭ ‬في‭ ‬جدة ‬تُسمى “عائلة‭ ‬ضاد” ‬إلى‭ ‬إضفاء‭ ‬لمسة‭ ‬عربية‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يُنظر‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬فن‭ ‬غربي،‭ ‬لذلك‭ ‬كانت‭ ‬أعمالهم‭ ‬مستوحاة‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬العربية‭ ‬والزخارف‭ ‬الإسلامية. ‬وقد‭ ‬انتشرت‭ ‬أعمال‭ ‬فنية‭ ‬عديدة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬أنحاء‭ ‬المملكة،‭ ‬وفي‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬وبرزت‭ ‬أعمال‭ ‬لافتة‭ ‬لفنانين‭ ‬عدّة،‭ ‬مثل‭ ‬اللبناني‭ ‬يزن‭ ‬الحلواني‭ ‬الذي‭ ‬نثر‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬شوارع‭ ‬بيروت‭ ‬رسومًا‭ ‬لشخصيات‭ ‬ووجوه‭ ‬فنية،‭ ‬وأخرى‭ ‬لأبناء‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬المهمّشين،‭ ‬والأردني‭ ‬صهيب‭ ‬عطار‭ ‬الذي‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬الجدران‭ ‬الكبيرة‭ ‬من‭ ‬الخرسانات‭ ‬الباهتة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬شوارع‭ ‬العاصمة‭ ‬عمّان‭ ‬إلى‭ ‬لوحات‭ ‬معبرة‭ ‬مليئة‭ ‬بالحياة،‭ ‬والسورية‭ ‬دينا‭ ‬السعدي‭ ‬التي‭ ‬تتميز‭ ‬لوحاتها‭ ‬بالألوان‭ ‬الزاهية‭ ‬الخاصة‭ ‬بها‭ ‬والرموز‭ ‬الأنثوية‭ ‬المتكررة،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬أعمالها‭ ‬قابلة‭ ‬للتحديد‭.‬

وما‭ ‬يميّز‭ ‬فن‭ ‬الشوارع‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬أنه‭ ‬يعكس‭ ‬روح‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬يزين‭ ‬شوارعها‭ ‬بلجوئه‭ ‬إلى‭ ‬الخط‭ ‬العربي،‭ ‬الذي‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬متداخلًا‭ ‬مع‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية. ‬وقد‭ ‬عُرف‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬بـ “الكاليغرافيتي”. ‬ويُذكر‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭ ‬الخطاط‭ ‬الألماني‭ ‬المعاصر‭ ‬نيلز‭ ‬شوو‭ ‬مولمان‭ ‬في‭ ‬عام ‬2007م. ‬أما‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬فكان‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬اشتهر‭ ‬به‭ ‬الفنان‭ ‬التونسي‭ ‬إل‭ ‬سيد،‭ ‬الذي‭ ‬رسم‭ ‬لوحات‭ ‬جدارية‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬متعددة‭ ‬حول‭ ‬العالم،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬بعد ‭‬2011م،‭ ‬ليرسم‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬وأكبر‭ ‬أعماله‭ ‬على‭ ‬جدران‭ ‬مئذنة‭ ‬مسجد‭ ‬جارا‭ ‬في‭ ‬قابس،‭ ‬مدينته‭ ‬الأم‭.‬

من قطاع الطرق إلى حوادث السير

منذ‭ ‬شقِّ‭ ‬أول‭ ‬طريق‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وحتى‭ ‬الأمس‭ ‬القريب،‭ ‬أحاط‭ ‬بسلوك‭ ‬الطرق‭ ‬خطر‭ ‬رئيس‭ ‬واحد: ‬قطّاع‭ ‬الطرق‭ ‬الذين‭ ‬عرفتهم‭ ‬كل‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬استثناء‭.‬ وهم‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬أفراد‭ ‬أو‭ ‬عصابات‭ ‬صغيرة‭ ‬العدد‭ ‬تستمد‭ ‬قوتها‭ ‬من‭ ‬ضعف‭ ‬المسافرين‭ ‬خلال‭ ‬مرورهم‭ ‬بأماكن‭ ‬موحشة‭ ‬لا‭ ‬نجدة‭ ‬سريعة‭ ‬فيها. وإذا‭ ‬كانت‭ ‬غاية‭ ‬قطّاع‭ ‬الطرق‭ ‬هي‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬سلب‭ ‬ما‭ ‬بحوزة‭ ‬هؤلاء‭ ‬من‭ ‬مال‭ ‬وممتلكات،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المألوف‭ ‬جدًا‭ ‬أن‭ ‬يصحب‭ ‬ذلك‭ ‬القتل،‭ ‬أو‭ ‬المواجهة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬المسافرون‭ ‬قد‭ ‬أحاطوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬بشكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الحماية‭ ‬المسلحة‭.‬

وكان‭ ‬من‭ ‬المنطقي‭ ‬أن‭ ‬ينشط‭ ‬قطّاع‭ ‬الطرق‭ ‬ويزداد‭ ‬عددهم‭ ‬خلال‭ ‬الحروب‭ ‬أو‭ ‬انفلات‭ ‬حبل‭ ‬الأمن‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬ما،‭ ‬كما‭ ‬حصل‭ ‬خلال‭ ‬الغزو‭ ‬المغولي‭ ‬للعراق‭ ‬والشام،‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬قطع‭ ‬كل‭ ‬طرق‭ ‬الحج‭ ‬البرية‭ ‬التقليدية،‭ ‬فصار‭ ‬الحجّاج‭ ‬يتوجهون‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬ومنها‭ ‬بالسفن‭ ‬عبر‭ ‬البحر‭ ‬إلى‭ ‬ميناء‭ ‬جدة‭. ‬ومن‭ ‬آخر‭ ‬موجات‭ ‬قطع‭ ‬الطرق‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬سائدًا‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬وغربها‭ ‬البعيد‭ ‬حتى‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭.‬

تضاءلت‭ ‬أخطار‭ ‬قطع‭ ‬الطرق‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تختف‭ ‬تمامًا،‭ ‬بفعل‭ ‬تطور‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية‭ ‬وأدواتها. ‬ولكن‭ ‬خطرًا‭ ‬أعظم‭ ‬ظهر‭ ‬على‭ ‬الطرق: حوادث‭ ‬السير‭.‬

فقد‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬أصدرته‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬25‭ ‬مايو ‭‬2022م،‭ ‬أن‭ ‬حوادث‭ ‬السير‭ ‬تقتل‭ ‬نحو‭ ‬1‭.‬3‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬أي‭ ‬بمعدل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬حالتي‭ ‬وفاة‭ ‬كل‭ ‬دقيقة،‭ ‬وأن‭ ‬تسعًا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عشر‭ ‬وفيات‭ ‬تحصل‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬منخفضة‭ ‬أو‭ ‬متوسطة‭ ‬الدخل. وتُقدّر‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬أن‭ ‬حوادث‭ ‬الطرق‭ ‬ستتسبب‭ ‬في‭ ‬13‭ ‬مليون‭ ‬حالة‭ ‬وفاة‭ ‬و500‭‬ مليون‭ ‬إصابة‭ ‬بحلول‭ ‬نهاية‭ ‬العقد‭ ‬الحالي،‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تُتخذ‭ ‬إجراءات‭ ‬عاجلة،‭ ‬مشيرة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حوادث‭ ‬الطرق‭ ‬هي‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬لوفيات‭ ‬الأطفال‭ ‬والشباب‭ ‬الذين‭ ‬تتراوح‭ ‬أعمارهم‭ ‬بين‭ ‬5‭ ‬سنوات‭ ‬و29‭‬ سنة‭.‬

هذه‭ ‬الخسائر‭ ‬المهولة‭ ‬تدفع‭ ‬الحكومات‭ ‬إلى‭ ‬اتخاذ‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬التدابير‭ ‬للحد‭ ‬من‭ ‬حوادث‭ ‬السير،‭ ‬إذ‭ ‬بدأت‭ ‬الجهود‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قرن‭ ‬بابتكار‭ ‬إشارات‭ ‬المرور‭ ‬واللوحات‭ ‬الإرشادية،‭ ‬ووصلت‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬كاميرات‭ ‬المراقبة‭ ‬على‭ ‬الطرق‭ ‬السريعة،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬تشديد‭ ‬الغرامات‭ ‬باستمرار‭ ‬على‭ ‬مخالفي‭ ‬قانون‭ ‬السير. ‬وهذه‭ ‬التدابير‭ ‬مجدية‭ ‬طبعًا،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬غير‭ ‬كافية‭ ‬لضمان‭ ‬سلامة‭ ‬الطرق‭ ‬بالكامل،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نلاحظه‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬في‭ ‬المملكة،‭ ‬حيث‭ ‬أدت‭ ‬التدابير‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬كاميرات‭ ‬وغرامات‭ ‬مشددة‭ ‬إلى‭ ‬إنقاذ‭ ‬آلاف‭ ‬الأرواح‭.‬

فقد‭ ‬أفاد‭ ‬تقرير‭ ‬أعدته‭ ‬الأمانة‭ ‬العامة‭ ‬للجنة‭ ‬الوزارية‭ ‬للسلامة‭ ‬المرورية‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬أن‭ ‬عدد‭ ‬الوفيات‭ ‬في‭ ‬حوادث‭ ‬السير‭ ‬انخفض‭ ‬من‭ ‬5‭.‬754‭ ‬وفاة‭ ‬في‭ ‬عام ‭‬2019م،‭ ‬إلى‭ ‬4‭.‬555‭ ‬وفاة‭ ‬في‭ ‬عام ‭‬2022م،‭ ‬كما‭ ‬انخفضت‭ ‬الإصابات‭ ‬من‭ ‬32‭.‬910‭ ‬إصابة‭ ‬إلى‭ ‬24‭.‬446‭ ‬إصابة،‭ ‬وذلك‭ ‬رغم‭ ‬ازدياد‭ ‬عدد‭ ‬المركبات‭ ‬من‭ ‬13‭.‬7‭ ‬مليون‭ ‬إلى‭ ‬15‭.‬7‭ ‬مليون‭ ‬مركبة‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬نفسها‭.‬

‭ ‬


مقالات ذات صلة

ماذا لو لم يكن البَقر موجودًا في هذا العالم؟
الجواب هو: لكان العالم بتاريخه وحاضره غير العالم الذي نعرفه.

ولماذا اللون الأخضر؟
ألأنه جميل؟
نعم، إنه جميل، ولكنه أكثر من ذلك بكثير.

في هذا الملف، نذهب إلى جولة في رحاب الكون، لاستطلاع بعض ما نعرفه عن هذه الأجرام السماوية الجميلة، وعن حضورها الآسر في الثقافة والعلوم، ودورها في تطوير الحضارة الإنسانية.


0 تعليقات على “الطريق”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *