مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2024

الملف

البَقَر


فريق القافلة

ماذا لو لم يكن البَقر موجودًا في هذا العالم؟
الجواب هو: لكان العالم بتاريخه وحاضره غير العالم الذي نعرفه.
فمن يرى في البقر مجرّد مصدر كبير للغذاء في العالم، لا يكون قد أدرك من جبل الجليد غير رأسه. إذ قلما تجد حيوانًا تغلغل في النسيج العميق لتاريخ الإنسان وحاضره، كما كان حال البقر ولا يزال. حتى ليحار المرء من أي جانب يبدأ بتناوله: من التغذية أو الاقتصاد أو تاريخ الوثنيات القديمة أو تاريخ الفن الحديث…؟
ثمة شيء من البقر في كل مكان، من الثلاجة في بيوتنا والبقالات المجاورة، إلى أكبر المتاحف الموسوعية في عواصم العالم، ومن المزارع في شرق آسيا، إلى دور السينما في غرب أمريكا.
في هذا الملف، يجمع فريق القافلة، ضمن المجال المتاح، بعض أوجه حضور البقر بجوار البشر، المستمر من دون انقطاع منذ العصر الحجري حتى اليوم.

ما لنا وللتعريف القاموسي البسيط القائل: “البقرة حيوان ثديي مجتر، استأنسه الإنسان لكذا وكذا…”، فحقيقة البقر لا يعرفها غير مربّي البقر، وفي هذه الحقيقة من العمق ما يعجز اللسان عن وصفه. فقصة التلاحم بين البشر والبقر تبدو وكأن لا بداية لها ولا نهاية، وقد بدأت فصولها منذ ما قبل التاريخ المدوّن، وبات من المستحيل فك الارتباط ما بين الطرفين.

ففي زمن غابر، قبل نحو 10,500 سنة، اقترب الإنسان من البقر المتوحش محاولًا إخضاعه للاستفادة من قوته البدنية ولحمه وحليبه، بعد أن كان أجداده يكتفون بصيده للحومه منذ العصر الحجري القديم. وعندما نجح الإنسان في خطوته هذه، عرف أنه أمّن لنفسه الغذاء ومساعدًا في الأعمال التي تتطلب قوة بدنية. ولكن أتراه عرف أن خطوته هذه ستغير وجه العالم لآلاف السنين اللاحقة؟ أتراه عرف أن هذا الحيوان سيبقى مصدرًا رئيسًا لغذاء مليارات البشر من بعده، أم أنه سيدخل تاريخ الثقافات والأديان، ومنها إلى الفنون والآداب؟ أتراه عرف أن تلك البقرات الأولى التي أخضعها ستتكاثر لتصبح بمئات الملايين، وستتحدر منها ألف سلالة مختلفة قليلًا بعضها عن بعض؟ وأنها ستُغني الإنسان عن اللحاق بغيرها لاصطياده سدًّا للجوع؟

يقول العلماء إن استئناس البقر المتحدر من جدّه الثور المتوحش (الأُرْخُص) حصل على مرحلتين مستقلة إحداهما عن الأخرى، وكأن نسج علاقة دائمة ما بين البقر والإنسان يندرج في التطور الطبيعي لجنسنا، وليس اختيارًا عشوائيًا. فالاستئناس الأول حصل في بلاد ما بين النهرين، والثاني بعده بقليل في وادي السند. وما هي إلا ألف سنة حتى تحوّل البقر إلى سلعة ثمينة تُستخدم في المقايضة عندما كانت الثورة الزراعية في بداياتها.

ولكن، منذ آنذاك، وربما قبل ذلك، كان للإنسان نظرتان مختلفتان إلى أنثى البقر وذكره. فالبقرة بدت وديعة، سهلة الانصياع، تُدرّ حليبًا مغذيًا. أمَّا ذكرها الثور، فقد أبهر الإنسان بقوته، وبطباعه التي بقيت أقرب إلى التوحش، فهابه الإنسان، وفصل مكانته عن مكانة البقرة.

بقيت البقرة تلقى عناية الإنسان من باب “المصلحة” المادية بالدرجة الأولى. أمَّا الثور، فقد لقي معاملة مختلفة بفعل بنيته المهيبة وقوته، طغت على الاستفادة منه في الأعمال التي تتطلب قوة بدنية، وزجّت به في الأساطير والديانات الوثنية القديمة، التي رأت فيه شكلًا “إلهيًا” مثل “أبيس” في مصر الفرعونية. وهنا تجدُر الإشارة إلى أن مصر الفرعونية هي الحضارة الوحيدة التي رفعت البقرة (الأنثى) إلى مثل هذه المرتبة، من خلال إحدى “آلهتها”، وهي “حتحور” التي كانت تُصوّر تارة على شكل بقرة كاملة، وتارة على شكل امرأة يعلو رأسها قرنان.

وأضاف الأشوريون إلى الثور جناحين ورأس إنسان ليصنعوا منه “مخلوقًا” أسطوريًا جديدًا، أسمى من المخلوقات الحقيقية. وابتكرت مخيلة الإغريق “المينوطور”، المؤلف من جسم إنسان ورأس ثور. كما نسب هؤلاء إلى الثور اختطاف أوروبا من ساحل فينيقيا إلى بلادهم. والصينيون أطلقوا اسم الثور على أحد الأبراج الفلكية الاثني عشر. وفي متاحف العالم آلاف الأعمال الفنية والحرفية التي تُبيّن ما كانت عليه قيمة البقر في هذه الحضارة أو تلك الثقافة. وكان من الطبيعي أن يُجرّد التطور الحضاري، البقرَ من الماورائيات الوثنية وما شابهها، ولكن من دون أن يمسّ بشيء من القيمة الغالية للبقر عند الإنسان وصولًا إلى يومنا الحاضر.



البقر في عالمنا اليوم

استنادًا إلى مسح نُشرت خلاصته في فبراير من العام الحالي على موقع “ناشيونال بيف واير”، وعنوانه: “ترتيب البلدان الأغنى بالبقر”، كان يوجد في العالم عام 2023م، نحو 942.6 مليـون رأس بقر مستأنس. والبقر هو أكبر نوع حيواني من حيث مجموع وزنه على وجه الأرض؛ إذ يبلغ مجموع وزن البقر في العالم نحو 400 مليون طن، في حين أن وزن كل البشر 373 مليون طن. وتحتل الهند رأس قائمة الدول الأغنى بالبقر باستحواذها على 307.5 مليون رأس، تليها البرازيل بنحو 194.4 مليون، ثم الصين 101.5 مليون. واستنادًا إلى مصادر أخرى، يُذبح سنويًا نحو 300 مليون رأس بقر لإمداد الإنسان بأكثر من 72 مليون طن من اللحوم، وهو ربع ما يستهلكه البشر من اللحوم. في حين يستمر البقر الحلوب في تغذية الإنسان بالحليب ومشتقاته. فالاتحاد الأوروبي وحده يُنتج 143 مليون طن من الحليب ومشتقاته سنويًا، والولايات المتحدة الأمريكية نحو 104 ملايين طن. أمَّا الهند، فتنتج 99.4 مليون طن فقط رغم أنها الأغنى بالبقر، ولكنها تعوّض هذا الإنتاج المنخفض نسبيًا من اللحوم بإنتاج 94.5 مليون طن من حليب الجاموس، لتبقى في المرتبة الأولى عالميًا في صناعة الألبان، وأيضًا المصدر الأول لجلود البقر لصناعة الأحذية.

الجواميس المستأنسة من فصيل البقريات، وينطبق عليها كثير من الوارد في هذا الملف، ولكنها مستثناة منه لضيق المجال.

قيمته في الاقتصاد العالمي

بتدوير الأرقام، وإذا أخذنا بمتوسط ثمن البقرة الواحدة 550 دولارًا، تبلغ قيمة البقر الموجود اليوم في العالم نحو 500 مليار دولار. ومن أجل القياس، يمكن مقارنة هذا الرقم بقيمة كل ذهب العالم (نحو 140 ألف طن)، التي تبلغ نحو 10 تريليونات دولار. ولكن البقر ثروة مستدامة، تتجدد باستمرار، ومن دون احتساب قيمة منتجاته من الألبان واللحوم؛ فإن الإنسان يجني من تجدد البقر كل عشرين سنة ما يزيد على قيمة كل ذهب العالم. ولو أخذنا فرنسا مثلًا، لشهرتها في صناعة الأجبان (علمًا أنها الثانية في إنتاج الجبن بعد ألمانيا)؛ لوجدنا الدراسات تقول إن هذه الصناعة تُضيف إلى معدل دخل الفرنسي 170.2 دولار سنويًا، وإن صادراتها من الأجبان تزيد على ملياري دولار سنويًا، وهو الكمية الفائضة عمّا يستهلكه الفرنسيون، ومعدله 5.26 كيلوغرام للشخص الواحد.

وعلى صعيد فرص العمل، يعمل في الهند على سبيل المثال، نحو 2.5 مليون شخص في صناعة الذهب (بما في ذلك التعدين). أمَّا العاملون في صناعة الحليب، فيبلغ نحو 80 مليون شخص.

وعلى مستوى اقتصادي آخر، وبحسب ما جاء في دراسة نشرتها مجلة “إنفايرمانت” في عام 2001م، فإن نصف إنتاج العالم من الحبوب تقريبًا، يعتمد على الثيران لحراثة الأرض، وبخاصة ثور “الأوكسن” ذو القرنين المستقيمين، الذي يوجد منه 65 مليون رأس في الهند، و11 مليون رأس في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

ومع العلم أن البقر في العالم مسؤول عن ضخ كميات كبيرة من غاز الميثان في الجو، تشكّل حوالي %10 من الغازات الدفيئة، فإن قبضة البيئيين تتراخى نسبيًا أمام ذلك، وتقتصر عمومًا على الدعوة الخجولة إلى الامتناع عن أكل لحم البقر أو الإقلال منه، ولا تجرؤ على تجاوز الخطوط الحمر في مناهضة البقر.

تساءلنا في مقدمة هذا الملف: ماذا لو لم يكن البقر موجودًا في العالم؟ أليس فيما ذكرناه آنفًا، ما يؤكد أن العالم كان سيكون غير العالم الذي نعيش فيه؟

يحتاج البقر إلى العناية اللائقة به لكي يعطي الإنسان أفضل ما عنده. وبوجه عام، يلقى البقر هذه المعاملة اللائقة، أو على الأقل أفضل من تلك التي تلقاها حيوانات كثيرة أخرى. وإن كان ذلك لا يحصل في بعض الأماكن، فذلك يعود إلى أسباب تخرج غالبًا عن إرادة المربّي. فعلى سبيل المثال، يحتاج البقر إلى نوعين من الطعام: الحبوب المطبوخة والنبات الأخضر. ولكن بيئات كثيرة مثل شبه القارة الهندية وإفريقيا، لا تتيح مثل هذا التوازن على مدار العام، فيحصل البقر على نوع واحد من الاثنين. وهذا ما ينعكس على أحوال البقر وحليبه. فتغليب الرعي يعطي حليبًا خفيفًا، وتغليب الحبوب المطبوخة يعطي حليبًا أغنى بالدسم والبروتين. وفي حين تُعطي بعض السلالات مثل بقر “الهولشتاين” أكثر من 20 لترًا من الحليب يوميًا، فإن سلالات أخرى تعطي نحو 3 لترات فقط، وأقل من ذلك إذا كانت تغذيتها تقتصر على الرعي غير الكافي. وينعكس ذلك على القيمة الغذائية في اللحوم والحليب ومشتقاته التي يستهلكها البشر.

من المعروف أن البروتين البقري عالي الجودة، ويحتوي على كل الأحماض الأمينية المهمة لنمو الجسم والحفاظ عليه؛ إذ إن تركيب الأحماض الأمينية في اللحم الأحمر يكاد يطابق تركيبها عند الإنسان. والأحماض الأمينية لبنات أساسية لبناء البروتينات، وضرورية جدًا لصحة الإنسان.

أمَّا فيما يتعلق بالدهون الموجودة بكميات ملحوظة في اللحم البقري، وتتوقف نسبتها على عمر الحيوان والسلالة ونوعية الأعلاف، فهي تزيد النكهة، وأيضًا السعرات الحرارية بشكل كبير. ودهون اللحم البقري تنقسم إلى قسمين متساويين: دهون مشبعة، ودهون أحادية غير مشبعة. كما تحتوي لحوم الحيوانات المجترة على دهون متحولة تُسمَّى “دهون الحيوانات المجترة”، التي لا تعتبر مُضرة بالصحة، على عكس الدهون المصنّعة.

وإضافة إلى البروتينات والدهون، يحتوي اللحم البقري على مجموعة كبيرة من المعادن والفيتامينات، وأهمها: الزنك والسيلينيوم والحديد وفيتامين ب12 وب6، ومجموعة كبيرة من مضادات الأكسدة.

باختصار، إن تناول اللحم البقري مفيد لصحة الجسم بسبب غناه بالبروتين الذي يساعد في الحفاظ على كتلة العضلات، ويعزّز تنميتها عند الرياضيين، ويقي كبار السن من ضمور العضلات المرتبط بالتقدم في العمر. كما أن غناه بالحديد والمعادن الأخرى، يقي من فقر الدم الناجم عن نقص الحديد.

أمَّا عن سيئات اللحم البقري، فإن السلطات الصحية تنصح بالاعتدال في استهلاكه بسبب ربط بعض الدراسات بين الدهون المشبعة وأمراض القلب وانسداد الشرايين. علمًا أن دراسات أخرى ترى أن هذا الربط غير مؤكد علميًا. وفي كل الأحوال، يمكن للقلِق من هذه المسألة أن يتناول لحم البقر الأعجف (قليل الدهون).

وثمة ربط آخر يرجّحه بعض الباحثين بين اللحم البقري واللحوم بشكل عام من جهة، وأمراض سرطان القولون والثدي والبروستات من جهة أخرى. والواقع أن ما قد يسبب السرطان هو بشكل خاص الأمينات غير المتجانسة التي تنتج خلال الطبخ المفرط للحوم على حرارة عالية. ومع ذلك، لا يزال الجدل قائمًا حول ما إذا كانت الأمينات غير المتجانسة هي السبب وراء الإصابة بالسرطان، أو المواد التي تتكون أثناء طهي اللحوم مع مكونات أخرى، أو الإضافات المُستخدمة خلال عملية التصنيع. فبشكل عام، يُعتبر السلق بالماء والطهي على البخار، أفضل الطرق الصحية لطبخ اللحوم.

الأرقام السابقة هي تقريبية طبعًا؛ لأن نوعية الحليب ترتبط بشكل كبير بنوعية العلف وعمر البقرة وسلالتها، وأيضًا بتبدل أحوال الطقس والفصول. وتتبدل هذه النسب بشكل كبير في المزارع الصغيرة التي تتكل على الرعي في مواسم توفر العشب، فتنخفض نسبة الدهون وتزداد نسبة الماء. وفي مواسم الجفاف وعدم الرعي، يُصار إلى علف البقر بالحبوب المطحونة، فتزداد سماكة الحليب ونسبة الدهون والبروتينات.
وإضافة إلى ما تقدم، كثيرًا ما يُدعّم الحليب ومشتقاته بالفيتامين د، بحيث قد يحتوي كوب واحد على ما يزيد على %60 من الحصة المُوصي بها منه.

الأجبان

بلغ إنتاج العالم من الأجبان في عام 2022م، نحو 22.17 مليون طن؛ أكثر من 20 مليونًا منها من الحليب البقري، وكان الاتحاد الأوروبي المنتج الأكبر بنحو 10.55 مليون طن.

يوجد في العالم أكثر من ألف نوع من الأجبان، وتختلف القيمة الغذائية لكل منها، ليس فقط بسبب نوعية الحليب، بل أيضًا بسبب طريقة التحضير. وبشكل عام، يمكن القول إن البروتينات والمعادن توجد في الأجبان بكثافة أشد من اللحم والحليب.

فكل 100 غرام من جبنة الشيدر، على سبيل المثال، تحتوي على 22 غرامًا من البروتين و650 ملليغرامًا من الكالسيوم؛ أي ما يعادل البروتين الموجود في 700 غرام من الحليب، والكالسيوم الموجود في 500 غرام منه.

ولكن، يتكثّف في الأجبان أيضًا الدهون المشبعة الموجودة في الحليب، التي تختلف نِسَبها من نوع إلى آخر. ولذا، يُنصح بتناول الأجبان باعتدال.

هناك أولًا سورة البقرة، وترتيبها هو الثاني في المصحف الشريف بعد سورة الفاتحة، وهي أيضًا أطول سورة في القرآن الكريم، وعدد آياتها 286 آية. وقد سُمِّيَت هذه السورة باسم البقرة لأنها تتناول قصة بقرة بني إسرائيل في عهد النبي موسى عليه السلام من الآية 67 إلى الآية 73.

وورد ذكر البقر بالاسم في آيتين من سورة الأنعام:

﴿وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ..﴾. (الأنعام: 144).

﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ۖ وَمِنَ الْبَقَرِ..﴾. (الأنعام: 146).

كما ورد ذكر البقر من دون تسميته، ضمن “الأنعام” التي تعني البقر والإبل والغنم، وأعطت اسمها للسورة:

﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَـٰذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَاجِنَا..﴾. (الأنعام: 139).

﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾. (الأنعام: 142).

وثلاث مرات في سورة الحج:

﴿لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾. (الحج: 28).

﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ﴾. (الحج: 30).

﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾. (الحج: 34).

وكذلك وردت الأنعام في سور: النساء والمائدة والنحل والزمر وغافر والشورى. وغالبًا ما كان ذلك في إطار تحليل الاستفادة من الأنعام التي هي هبة من الله للإنسان؛ ليأكل من لحمها، ويشرب من لبنها، ويستفيد من جلودها وشعرها…

﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾. (النساء: 119).

﴿.. أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ..﴾. (المائدة: 1).

﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ﴾. (النحل: 66).

﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ۙ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ﴾. (النحل: 80).

وأيضًا، ورد ذكر “البقرات” مرتين في سورة يوسف: السمان منها رمز لسنوات الخير والغلال الوفيرة، والعجاف رمز لسنوات القحط.

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ..﴾. (يوسف: 43).

﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ..﴾. (يوسف: 46).

أمَّا العجل، فقد ورد ذكره عدة مرّات في القرآن الكريم، وفي سياق قصص بني إسرائيل أيضًا، ولكن من باب النهي عن عبادته:

﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ﴾. (البقرة: 51).

﴿وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ﴾. (البقرة: 92).

﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾. (الأعراف: 152).


من لاسكو إلى بيكاسو
عشرون ألف سنة من الحضور في الفن التشكيلي

إذا كانت الرسوم على سقف كهف لاسكو وجدرانه، العائدة إلى ما قبل نحو 17,500 سنة، هي أقدم ما وصل إلينا من فن الرسم؛ فإن تصوير البقر يكون قد بدأ مع بداية تاريخ الفن، ولم ينتهِ مع بيكاسو في القرن العشرين.

يتضمن كهف لاسكو رسومًا لأنواع عديدة من الحيوانات، ولكن البقر هو الأكثر تمثيلًا، حتى إن القاعة الكبرى في هذا الكهف تحمل اسم “قاعة الثيران الكبيرة”. ولأن هذه الرسوم في هذه القاعة أُنجِزت خلال 22 مرحلة في فترة امتدت إلى نحو 1500 سنة، تمكّن الخبراء من رد الثيران الكبيرة التخطيطية باللون الأسود إلى المرحلة الرابعة، والبقرات الحمراء ذوات القرون المتناظرة إلى المرحلة السادسة.

جانب من رسوم الثيران الكثيرة في كهف لاسكو في فرنسا.

ثمة قراءات عديدة للهدف من وراء رسوم الثيران والبقرات في كهف لاسكو. فبينما رجّح بعض علماء الآثار أنها رُسِمت لغايات طقسية من باب “السحر” كي يتمكن رساموها من السيطرة على هذه الحيوانات واصطيادها، بدليل أن بعضها تخترقه سهام صيادين، يشكك البعض الآخر في ذلك؛ لأن غالبية هذه الحيوانات لا تخترقها أية سهام، لا بل يبدو بعضها يركض بحيوية. وأيًا يكن أمر هذه الرسوم، فالمؤكد أن الإنسان رسم الثور والبقرة قبل أن يرسم نفسه.

من الثور الفرعوني إلى الثور المجنّح الأشوري

بنشوء الحضارات، صارت معرفة الغاية من رسم الأبقار أو نحت تماثيل لها، أسهل على القراءة. فمن تاريخ مصر الفرعونية وصلنا مئات، وربما آلاف، التماثيل والرسوم للثور “أبيس”، الذي نشأت عبادته الوثنية منذ عهد الأسرة الأولى، واستمرت أكثر من ثلاثة آلاف سنة. الأمر نفسه ينطبق على تماثيل ورسوم آلهة وثنية أخرى، هي حتحور، التي صوّرها الفنانون على شكل بقرة حينًا، وامرأة يعلو رأسها قرنان أحيانًا.

الثور المجنّح الأشوري

وإلى الشرق من مصر، في بلاد ما بين النهرين، ظهرت الثيران المجنّحة السومرية والأشورية، على شكل تماثيل حجرية ضخمة خلال الألف الأول قبل الميلاد، وخاصة في نينوى. وكانت توضع عند بوابات القصور الملكية، وتجاوز ارتفاع بعضها أربعة أمتار ووزنها ثلاثين طنًا. وقد وصلنا منها نماذج عديدة، تتبعثر اليوم ما بين المتاحف الكبرى في العالم.

والثور المجنّح، هو عبارة عن كائن أسطوري له جسم ثور وجناحان ورأس إنسان. وبعدما اعتقد بعض العلماء أن الأشوريين والسومريين كانوا يعبدون هذا الصنم، أتى تحليل كتابات الملك سنحاريب ليدحض هذا الزعم؛ إذ جاء فيها: “جلبت رجالًا أسرى من المدن التي غزوتها وبنوا لي قصرًا يقف على بوابته اثنان من الآدلامو”. والآدلامو هو الاسم الأشوري للثور المجنّح. ومن ثَمَّ، دُحضت الفرضية القديمة؛ إذ ليس من الممكن أن يكون “الإله” حارسًا على بوابة عبده. فالقيمة المؤكدة لهذه التماثيل، هي في دلالتها الرمزية: الثور للقوة، والجناحان للمكانة العالية، ورأس الإنسان للحكمة. وقد اقتبست شعوب شرقية عديدة هذا الثور المجنّح، وصولًا إلى اليابان، مرورًا بالساحل الغربي للهند.

ومن الحضارتين اليونانية والرومانية، وصلنا ما لا يُحصى من الرسوم والمنحوتات التي تمثّل ثيرانًا وبقرات، مثل اللوحة الجدارية في قصر كنوسوس في جزيرة كريت من الألف الثاني قبل الميلاد، التي تصوّر بدقة مراحل لعبة القفز فوق الثور، أو المنحوتات الرومانية التي تُمثّل “ميثرا”، وهو معبود ديانة وثنية فارسية رومانية، يضحي بالثور.

رمز الرخـاء الاقتصـادي

بالقفز إلى قرون من الزمن أقرب إلينا، نرى أن البقر اتخذ في الفن أشكالًا ودلالات أكثر واقعية، من دون التخلي عن الأبعاد الرمزية. ففي هولندا، على سبيل المثال، التي عرفت رخاءً اقتصاديًا كبيرًا في القرن السابع عشر، ظهرت مئات اللوحات الزيتية التي تمثّل أبقارًا في مراعيها، بفعل النشاط الزراعي الكبير وأثره على الاقتصاد، حتى ليمكن القول إن البقرة الحلوب أصبحت رمزًا للبلاد. ومن أشهر الأعمال في هذا المجال، اللوحة الضخمة “الثور الصغير”، التي رسمها باولوس بوتر عام 1647م، والتي صنّفها بعض الفنانين مثل الفرنسي أوجين فورمانتان، على أنها إحدى أهم ثلاث لوحات في كل هولندا. في هذه اللوحة الضخمة يطغى حضور الثور على البقرة التي بجانبه والماعز والراعي. فالثور أصبح رمزًا لثروة البلاد، واختيار ثور فتي وليس ثورًا ضخمًا مهيبًا،

لوحة “العجل” أو “الثور الصغير” للفنان الهولندي باولوس بوتر.

هو للتعبير عن الأمل في النمو وازدياد هذه الثروة في المستقبل. كما أن وجود الماعز في طرف اللوحة له دلالته السياسية. فالماعز كان، آنذاك، يرمز إلى إيطاليا، ولربَّما رسمه الفنان صغيرًا بجانب الثور للدلالة على الهدنة التي عُقدت بين هولندا وإيطاليا، في ذلك الحين، بعد الحرب الدينية بين البروتستانت والكاثوليك، أو من باب مقارنة عظمة كل من البلدين.

وغير “بوتر”، رسم رامبراندت الموضوع الأسطوري اختطاف أوروبا من فينيقيا على ظهر الثور الأبيض الذي تقمصه زيوس. كما ظهر في هولندا، آنذاك، عشرات الفنانين الذين كانوا شبه متخصصين في رسم الأبقار. ومنهم من رسم “أبقارًا مربعة” بشكل شبه كاريكاتوري، للدلالة على عمليات التهجين التي كانت قائمة على قدم وساق في ذلك الوقت.

من غويا إلى بيكاسو
كما كان الحال قبل 17 ألف سنة

بتغلغل البقر في الثقافة إلى هذا الحد، ليس من المفاجئ في شيء أن يستمر حضوره في الفن بالزخم نفسه الذي كان عليه في كهف لاسكو قبل 17 ألف سنة. ولم يؤثر التركيز على البُعد الجمالي في فن الرسم على مكانة الثور، لا بل يمكن الجزم أنه عزّزها.

فمصارعة الثيران، بكل ما فيها من ديناميكية مثيرة للعواطف، استوقفت كثيرين من كبار أساتذة الفن الذين شاهدوها، فأنتجوا لوحات تكشف بوضوح سعي هؤلاء إلى التقاط الشكل الناجم عن حركة عنيفة في لحظة هاربة. ولأن هذه الديناميكية الصاخبة تكون في ذروتها في حال سقوط أحد المصارعين أمام الثور، نرى أن فنانين كبارًا سعوا إلى التقاط هذه الحركة، ومنهم الفرنسي إدوار مانيه في لوحته “مصارعة الثيران” (حاليًا في متحف أورساي) التي رسمها عام 1865م، بعد زيارة إلى إسبانيا، شاهد خلالها حدثًا نادرًا في هذا المجال، وهو تمكّن الثور من إسقاط حصان   أرضًا. وإذا كانت هذه ردة فعل فنان فرنسي، يمكننا أن نتخيل ما كان عليه الحال بالنسبة إلى الفنانين الإسبان. وهنا سنكتفي بذكر حفنة قليلة من الأسماء على سبيل المثال وليس الحصر.

“مصارعة الثيران” كما رسمها الفرنسي مونيه، وتتضمن مشهد سقوط حصان البيكادور.

رسم فرانشيسكو دي غويا عالم مصارعة الثيران في أكثر من لوحة، بما في ذلك الصور الشخصية للمصارعين. غير أن أبرز أعماله كانت في التقاط اللحظة الصاخبة التي قد تطرأ على الحلبة، والتي رسمها في عدة لوحات زيتية وأخرى طباعية، ومن أشهرها “موت البيكادور” التي أنجزها في عام 1798م، ونرى فيها كتلة من المنقذين حول ثور رفع البيكادور بقرنيه إلى ظهره.

ويحضر الثور عند السوريالي، سلفادور دالي، في أعمال ذات خطابات مختلفة بعيدة عن الواقعية، كما هو الحال دائمًا في السوريالية. ولكن أيضًا في أعمال كثيرة، خاصة الطباعية منها التي تمثل مصارعة الثيران. ومن أبرز ما أنجزه في هذا الإطار، مجموعة الرسوم الطباعية وعددها 25 لوحة لمختلف فصول أوبرا “كارمن”.

أمَّا بيكاسو، الذي رسم أيضًا حفلة مصارعة في لوحة لا تختلف في مزاجها اللوني والعنيف عن لوحتي مانيه وغويا، وإن كانت بالأسلوب التكعيبي الذي كان من كبار أساتذته؛ فلم يترك تقنية فنية إلا واستحضر بها الثور: مجسمات من البرونز أو الخشب، وأطباق من السيراميك، ومزهريات.. وفي كل هذه الأعمال، كان الثور، بما يمثله من خطوط جمالية في مقاييسه الجسمانية وقرنيه وكتلته العضلية، هو الموضوع الذي استوقف الفنان.

الثور في التقنيات المختلفة التي استخدمها بيكاسو: خشب، برونز، خزف.

غير أن من أهمها على مستوى تطوير الفن المعاصر، هي مجموعة من 11 لوحة طباعية بالأسود والأبيض أنجزها عام 1945م، لدراسة الثور وخطوطه، بدءًا برسمه بكتلته العضلية الواقعية، ومن ثم تبسيط الرسم على مراحل، وصولًا إلى التجريد شبه الكامل حيث لا يبقى من الثور غير تسعة خطوط مقوّسة. وشكّلت هذه المجموعة درسًا تأسيسيًا لماهية التجريد المستوحى من الطبيعة والواقع. وما بين الرسم الأول والأخير في هذه المجموعة، هناك رسوم تعيد إلى أذهاننا صور الثيران كما ظهرت في كهف لاسكو قبل 17 ألف سنة.

ثور وول ستريت
رمز التفاؤل والرخاء الرأسمالي

بالرغم من حداثة عهده، أصبح هذا التمثال البرونزي ثاني أشهر تمثال في نيويورك بعد تمثال الحرية، ومَعلمًا سياحيًا بارزًا في المدينة يقصده الملايين لالتقاط صورهم بجانبه.

نحت هذا التمثال، الذي يُعرف أيضًا باسم “الثور الهائج”، الفنان الإيطالي أرتورو دي موديكا، عام 1989م، في ردة فعل منه على أزمة سوق الأسهم التي وقعت في بورصة نيويورك قبل ذلك بسنتين، وكتعبير عن ثقته بتحسّن الأحوال لاحقًا. كلّف نحت التمثال نحو 350 ألف دولار دفعها موديكا من جيبه الخاص. وتبلغ مقاييس هذا الثور 3.4 متر ارتفاعًا، و4.5 متر طولًا، ويزن نحو 3,200 كيلوغرام.

يتخذ جسم الثور هنا شكلًا مقوّسًا، وقد أخفض رأسه استعدادًا لأن ينطح بقرنيه المسننين، وتنتفخ فتحتا أنفه، أمَّا ذيله فيتلوى فوقه أشبه بالسوط. إنه حيوان غاضب ومقدام، وممتلئ بالطاقة والحيوية.

بعدما وضعت بلدية نيويورك هذا التمثال في أكثر من مكان، ارتأت أن المكان الأفضل هو في الحي المالي “وول ستريت”، حيث أصبح أيقونة هذا الحي، غير أنه تعرّض أكثر من مرة للاعتداء خلال العقد المنصرم من قِبل “مناهضي الرأسمالية”، مثل حركة “احتلوا وول ستريت”. ونتيجة لذلك، بات التمثال تحت حراسة الشرطة بشكل دائم.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن كلمة ثور بالإنجليزية (Bull)، تُطلق في أسواق الأسهم الأمريكية على المستثمرين الذين يُقدمون بشجاعة على شراء أسهم شركات أو سلع يتوقعون لها ارتفاعات كبيرة في قيمتها. أمَّا الفعل (Bullying)، أي “التثوير”، فيعني تنمّر القوي على الضعيف، وهذه آفة تعانيها المدارس بشكل خاص، ليس في أمريكا فحسب، بل في مجتمعات عديدة أخرى.

البقر والترفيه الرياضي المثير للجدل.. أخلاقيًا

بسبب قوتها الجسمانية وطباعها التي يمكن أن تكون حادة، شكّلت الثيران منذ زمن قديم تحديًا للإنسان في قدرته على إخضاعها والسيطرة عليها. واتخذ قبول الإنسان لهذا التحدي أشكالًا مختلفة عبر التاريخ؛ ليتحول الأمر لاحقًا إلى “رياضة ترفيهية”.

بعض هذه “الألعاب” أو “الرياضات” (يمكن تسميتها وفق تقييم المرء لها)، هي غير دموية، وإن كانت عنيفة وخطرة على الإنسان وليس على الثور، مثل: القفز فوق الثور الذي كان شائعًا في اليونان القديمة، ومارسه الرجال والنساء على حد سواء في الألف الثاني قبل الميلاد؛ والروديو الأمريكي المعاصر الذي نشأ من عالم رعاة البقر، ويتضمن عدة ألعاب منها تقييد ثور هائج والسيطرة عليه وتوجيه قطيع من البقر. ولكن أشهر أنواع هذه “الرياضات” على الإطلاق، هي مصارعة الثيران الدموية والقديمة جدًا ولا تزال حاضرة في عصرنا.

مصارعة الثيران الحديثة

يعود ذكر أول مواجهة بين الإنسان والثور إلى بلاد ما بين النهرين، وتحديدًا ملحمة جلجامش، التي تروي أن جلجامش وأنكيدو تعاونا على قتل ثور العالم السفلي الذي كان يبدو عصيًا على القهر. وارتبط الصراع مع الثور وقتله كأضحية بعدة ديانات وثنية قديمة، كما كان الحال في الديانة الفارسية المعروفة بالمثرائية.

لا نعرف، على وجه التحديد، متى تحولت مصارعة الثيران إلى “رياضة ترفيهية”، ولكن المؤكد أن الرومان عرفوها، وصدّروها إلى أصقاع عديدة في أوروبا. إذ بقيت، خاصة في إسبانيا، رياضة النبلاء طوال القرون الوسطى. وظلت مصارعة الثيران تتطور ببطء حتى القرن الثامن عشر، عندما أدخل عليها الإسباني فرانشيسكو روميرو، استخدام القماش الأحمر والسيف في المرحلة الأخيرة التي تُفضي إلى قتل الثور. واليوم، توجد عدة أشكال من مصارعة الثيران، وتنقسم إلى مجموعتين: الدموي الذي يهدف إلى قتل الثور كما هو الحال في الطريقة الإسبانية المعمول بها حاليًا في البرتغال وجنوب فرنسا والمكسيك وفنزويلا وكولومبيا والإكوادور، وغير الدموي أو العراك معه بالأيدي حتى رميه أرضًا، أو التقاط شيء معلّق بأحد قرنيه، كما هو الحال في بوليفيا والصين وبعض الولايات الأمريكية.

ممارسات أخرى مثيرة للجدل أخلاقيًا

غير مصارعة الثيران، ثمة ممارسات ينتقدها المدافعون عن حقوق الحيوان، منها وسم البقر بالنار، وهو عمل مؤلم جدًا لا يرى كثيرون أن له ما يبرره في العصر الحديث. وأيضًا ثقب الأنف لتعجيز البقر عن الحركة كثيرًا خلال ربطه بالمعلف. وأيضًا خصي الثيران لتعزيز قوتها العضلية وقدراتها على الجر والحراثة.

وثمة ممارسة تقضي بجز قرني العِجلة الصغيرة بعد أسابيع معدودة على ولادتها، وهي عملية مؤلمة جدًا، يبررها المربّون بأنها لحمايتهم لاحقًا من النطح. كما أنه يصعب بيع بقرة حلوب إذا كانت بقرنيها، لما يمكن أن تشكله من متاعب في حال تعكّر مزاجها. وهذه العملية صارت تُجرى على أيدي بيطريين مختصين، يستخدمون العقاقير اللازمة لضمان عدم نمو القرون وتسكين الألم والتعقيم. ومع ذلك، تبقى العِجلة مكتئبة لبعض الوقت مما حصل لها.

الموت على مراحل

تتضمن كل حفلة لمصارعة الثيران على الطريقة الإسبانية، وتُسمَّى “كوريدا”، قتل ثلاثة ثيران تباعًا على أيدي ثلاثة مصارعين. ووفق هذه الطريقة، يكون المصارع (الميتادور) المسلح بسيف، في مواجهة مع الثور مع قطعة قماش حمراء يستفزه بها حتى قتله بسيف يغرزه في صدره. ويعاون المصارع ستة أشخاص: اثنان يُسميان “البيكادور” ومهمتهما طعن الثور برمح في عضلة رقبته لإثارته وجعله يركز على المصارع بدل تشتُتِ ذهنه بصياح الناس، والأربعة الآخرون يُسَمون “الباندارياروس” ومهمتهم غرس عصي مسننة في كتفي الثور لإثارة ما تبقى فيه من قوة، قبل أن يُجهز عليه المصارع. وعادة، يكون عمر الثور ما بين سنتين وأربع سنوات، ولا يقل وزنه عن 450 كيلوغرامًا. ويكون قد نشأ في فضاء حر، شبه برّي، حيث لا يحتك كثيرًا بالإنسان لتنمية غرائزه العدوانية والقتالية.

بدءًا من أواسط القرن الماضي أثارت الطريقة الإسبانية جدلًا واسعًا، ولا تزال، حول أخلاقيتها. وفيما يعتبرها أنصار الرفق بالحيوان ممارسة مقززة، فإن بعض البلدان مثل إسبانيا تعتبرها شكلًا من الفن وتراثًا ثقافيًا.

والواقع أن قتل الثور بهذا الشكل البطيء، هو مشهد يثير الحزن عند كثيرين. وبالرغم من أن المعركة ما بين الثور وستة أشخاص يتعاونون عليه هي معركة غير متكافئة، فثمة خطر كبير يحدق ليس فقط بالمصارع الرئيس، بل أيضًا بالبيكادور الذي يدخل الحلبة على حصانه فقط ليوجه طعنة غير قاتلة للثور. فليس من النادر أن يتعرض أي من هؤلاء الستة للنطح من الثور أو السقوط تحت حوافره، وأن يؤدي ذلك إلى الوفاة.

كل هذا حفّز جمعيات الرفق بالحيوان (والإنسان) على المطالبة بإلغاء هذه الممارسة. ونجح هؤلاء في مسـاعيهم في بلدان عديدة باتت تحظُر مصارعة الثيران. ولكن استمرارها في إسبانيا وغيرها من الدول المذكورة آنفًا، يعود إلى وجود جماهير يصل شغفها بمصارعة الثيران إلى حدود تجعل الحكومات تحذر من إغضاب هؤلاء الناخبين وغيرهم. ومن بين هؤلاء، ويا للمفاجأة، الأديب الأمريكي الحائز جائزة نوبل، أرنست همنغواي، الذي لم يكن الأديب الكبير الوحيد في تناول مصارعة الثيران، وإن كان أشهرهم وأشدهم حماسة لها.

مصارعة الثيران في الآداب الغربية

الأعمال الأدبية الإسبانية التي تتناول مصارعة الثيران، أكثر من أن تُحصى. ولكننا نذكر من أشهرها رواية “دم ورمال” (1908م)، للأديب الإسباني فيسنتي إيبانياز، التي صوّرتها السينما عدة مرّات. كما أن أشهر قصيدة للشاعر فيديريكو غارثيا لوركا، هي “رثاء إينياسيو سانشيز ميخياس” (وهو مصارع ثيران قُتِل على الحلبة في عام 1934م)، التي ينتهي كل بيت شعر فيها بعبارة “عند الخامسة من بعد الظهر”.

أمَّا أضخم عمل إسباني شبه وثائقي، فهو العمل الموسوعي المؤلف من عدة أجزاء بعنوان “الثيران”. سعى فيه مؤلفه إلى استكشاف كل أوجه مصارعة الثيران وتحليل أداء كل مصارع وثور وحلبة كان معروفًا حتى زمنه (1943م).

وفي فرنسا حيث كانت مصارعة الثيران، ولا تزال، حاضرة في مناطقها الجنوبية، ركّز هنري دي مونتيرلان، في روايته “مصارعو الثيران” (1926م)، على عيش المصارع مع التهديد الدائم بالموت. وقبل ذلك، وفي فرنسا أيضًا، نشر الروائي بروسبير ميريميه في عام 1845م، روايته القصيرة “كارمن”، التي تتحدث عن قصة حب بين فتاة من إشبيلية ومصارع ثيران، التي سرعان ما اقتبسها الموسيقار جورج بيزيه لتأليف أوبرا “كارمن” التي تُعتبر أهم أعماله وأكثرها شعبية. ولكن كل ما تقدم، يبقى نقطة في بحر أرنست همنغواي وحضور مصارعة الثيران في أدبه.

“الكابوس الرائع” عند همنغواي

اكتشف همنغواي مصارعة الثيران في إسبانيا عندما كان في بداية العشرينيات من عمره، واستمر شغفه بها حتى وفاته عام 1961م؛ إذ عُثر في بيته عند موته على بطاقات لحضور حفلات مصارعة ثيران كانت مرتقبة في ذلك الوقت. ويرى الخبراء أن همنغواي هو أكبر المؤثرين في تعريف العالم على مصارعة الثيران، وأن روايته الأولى “ثم تُشرق الشمس”، التي نشرها عام 1926م، هي المسؤولة عن تحويل مهرجان سان فيرمين، حيث يركض الناس هربًا من الثيران الهائجة، من زاوية مجهولة في إسبانيا إلى وجهة سياحية عالمية. وفي مرحلة ما من حياته، زعم همنغواي أنه شاهد مقتل 1500 ثور في حلبات المصارعة، وأنه قرأ 2000 كتاب عنها. ومن باب الاعتراف بجميله هذا، أُطلق اسم هذا الأديب على شوارع كثيرة في عدة مدن إسبانية.

في روايته الأولى “ثم تشرق الشمس”، يستخدم همنغواي مصارعة الثيران بوصفها رمزًا للذكورة والعاطفة الجياشة والدمار المصاحب للحب. فأبطال الرواية الشبان، هم مبهورون بشجاعة المصارعين ومهارتهم وتكريمهم، وهذه كلها ركائز المصارعة الجيدة، ولكنهم يشككون في صحة كل هذه القيم عندما يكونون في العالم الحقيقي بعيدًا عن الحلبة.

وتحضر مصارعة الثيران في روايته “لمن تُقرع الأجراس”، وحتى في آخر أعماله الأدبية الكبيرة “الصيف الخطير” (1960م)، الذي يروي تنافس اثنين من كبار مصارعي الثيران.
أمَّا العمل الأكبر لهمنغواي في هذا المجال، فهو بلا شك “الموت بعد الظهر”، وهو عمل غير خيالي، ينطوي على مضمون فلسفي، تمكّن فيه الأديب من استعراض أدق تفاصيل مصارعة الثيران، سعيًا منه إلى شرح ماهية هذه الممارسة للجمهور الأمريكي. كما أظهر فيه سبب قلة عدد الأمريكيين والإنجليز الذين يُقدِمون على ممارسة هذه الرياضة: “في الألعاب، نحن لا يبهرنا الموت ولا الدنو منه وتلافيه. نحن يبهرنا النصر، ونُحِلّ تلافي الهزيمة محل تلافي الموت”.

ولخّص الأديب الأمريكي نظرته إلى مصارعة الثيران ذات مرة بقوله: إنها “الفن الوحيد الذي يكون فيه الفنان أمام خطر الموت، ودرجة البراعة في الأداء تبقى فيه رهنًا بشرف المصارع”. وفي مكان آخر، يقول: “هناك ثلاث رياضات فقط: مصارعة الثيران وسباقات السيارات وتسلق الجبال. والباقي كله مجرد ألعاب”. ومن هذا القول يتضح مدى تقديره لعامل الخطورة في الرياضة.

مهرجان سان فيرمين

وفي وصفه لحفلة مصارعة من هذا النوع بعد نهايتها، نسمعه يقول: “إنها أشبه بكابوس رائع”. أمَّا في الردّ على دعاة حظر هذه الرياضة الدموية، فيقول: “كل ما يثير شغفًا عظيمًا تأييدًا له، سيثير حكمًا شغفًا مضادًا له”.

مصارع الثيران في قراءة مناقضة

بشكل عام، المرأة التي كانت تظهر على الملصقات الترويجية لمصارعة الثيران، بوصفها “مشاهدة متحمّسة” فقط، نراها في الروايات الأدبية أرملة حزينة، أو أمًا قلقة، أو جميلة تكون هي من يدفع المصارع عن غير عمد إلى حتفه. والواقع أن قصص الحب التي نسجها همنغواي وغيره حول فتاة ومصارع الثيران بوصفه مثالًا للرجولة والشجاعة، تستحق قراءة أدق.

إن صورة المرأة التي تفتنها رجولة المصارع تتضمن مفارقة ساخرة، ولربَّما جاز لنا القول إنها تستحق السخرية منها. فعندما يكون المصارع على الحلبة، نراه يؤدي دورًا شبه أنثوي. فلباسه الموشّى بتطريز ذهبي وفضي ولآلئ برّاقة (يمكن لتكلفة لباس المصارع أن تصل إلى 20 ألف دولار)، هو أقرب إلى جمالية الملابس النسائية. ويتلخص دوره باستفزاز الثور وإغضابه بالتراقص أمامه مع قطعة قماش حمراء أو وردية اللون (وكأن هذا المشلح الأحمر ثوب نسائي أو جزء من منه). وعندما يتلافى المصارع “بمهارة” قرون الثور الغاضب، يبدو أقرب إلى المرأة المغناج منه إلى الرجل الشجاع الذي يواجه مخلوقًا أكبر وأقوى منه.

أمَّا الثور، بكتلته العضلية الضخمة والغاضب بسبب تعرّضه للطعن من الخلف وعدائيته وكرّه باستمرار على المصارع الذي يتلافاه، فهو أقرب إلى الذكر الغاضب الذي لا يعرف التراجع إلى الوراء منه إلى الضحية حتى لو كان ذلك سيؤدي إلى هلاكه. وعليه، تختلط الأمور عند التدقيق بحقيقة الأدوار، وتلتبس علينا معرفة الأنثى من الذكر. إذ إن مصارعة الثيران تنطلق أساسًا من الاعتراف بقوة الثور ومهابته وعدائيته، كما كانت النظرة إليه منذ قديم الزمان؛ ولهذا اتخذ الأدب الذي تناوله طابعًا مثيرًا للجدل بجديته، على عكس أنثاه البقرة الحلوب التي غالبًا ما تحضر بوداعتها في أدب الأطفال بشكل خاص.

البقرة في ثقافة الهندوس

نظرًا لحساسية الموضوع وكثرة الأفكار المتضاربة حول مكانة البقرة عند الهندوس في جنوب شرق آسيا، حملنا السؤال إلى “الذكاء الاصطناعي”، الذي أطنب في تفصيل جواب طويل، ولكنه اختزل الشرح في النهاية بالقول: “إن البقرة في الديانة الهندوسية مُعظّمة كرمز للسخاء والنقاء واللاعنف، ويُنظر إليها على أنها أم بسبب إنتاجها للحليب، ولكنها غير معبودة كإله”.

فماذا عن عدم ذبح البقرة وأكل لحمها؟

منذ نهاية الألف الثاني قبل الميلاد، كانت البقرة تُعتَبر رمزًا للثروة. وعلى الأرجح، من باب الحفاظ على الثروة وتنميتها، كان يُصار إلى شيء من الامتناع عن ذبح البقر، وذلك من دون أن يكون هذا الامتناع شاملًا حتى القرن الرابع قبل الميلاد؛ إذ حتى آنذاك، كان البعض يذبح البقر ويأكل لحمه. ولكن في القرن الأول بعد الميلاد، صارت البقرة رمزًا لطبقة البراهمة، وهي أعلى طبقة هندوسية، وأصبح قتل بقرة يعادل قتل أحد أفراد هذه الطبقة.

واستمر التصاعد في تبجيل البقرة، إلى أن أصبحت رمزًا وطنيًا وليس دينيًا فقط، بدليل الفرمان الذي أصدره الإمبراطور جلال الدين أكبر بتحريم ذبح البقر في عموم الهند. وبلغ هذا البُعد الوطني ذروة وضوحه في القرن التاسع عشر، بتأسيس حركة “آريا ساماج” التي دعت إلى إنشاء جمعيات حماية الأبقار في عام 1882م، وأنشأت ملاجئ للأبقار المتجولة.

وأسهمت هذه الحركة في تحويل البقرة إلى رمز قومي، تعزيزًا للفرق بين شعب الهند الأصلي والغزاة البريطانيين الذين استوطنوا الهند، بالتمييز بين من يأكل لحم البقر ومن لا يأكله.

غير أن حركات متطرفة نشأت في العقد الثالث من القرن العشرين، حوّلت الأمر إلى مصدر شقاق مع المسلمين. وتحوّل ذبح البقر إلى سبب في اضطرابات طائفية تطالعنا أخبارها في وسائل الإعلام من حين إلى آخر.

واليوم، لا يُسمح بذبح البقر بأي شكل في معظم ولايات الهند، باستثناء ولايتي البنغال الغربية وكيرلا، وضمن حدود معينة وضيقة في ولايات أخرى. ولكن، استنادًا إلى تقرير لمجلة “آسيا ويك” يعود إلى مارس عام 2012م، يوجد في الهند نحو 3,600 مسلخ شرعي. أمَّا المسالخ غير الشرعية، فتزيد على 30,000.

في السينما
راعي البقر أيقونة عصر

منذ عشرينيات القرن الماضي حتى اليوم، لا تزال السينما الأمريكية تغدق على مشاهديها بفيض من أفلام “الوسترن”، التي يعرّفها “معهد الفِلم الأمريكي” بأنها أفلام تجري أحداثها في الغرب الأمريكي عند توسّع الحدود، وتجسّد ما كانت عليه الأحوال والصراع في تلك المناطق”. وهذا النوع من الأفلام هو عادة “دراما أخلاقية”، يكون أبطالها في معظم الأحيان من رعاة البقر. وحتى عندما يكون الرعاة غائبين، كثيرًا ما تحضر الأبقار كجزء في مشاهد لبيئة الفِلم، حتى صار هذا اللون السينمائي يُعرف شعبيًا باسم “أفلام الكاوبوي” (رعاة البقر).

على الرغم من أن تربية الأبقار ورعيها يعود إلى بدايات الاستيطان الإسباني في القارة الجديدة، لم يظهر تعبير “الكاوبوي” إلا في عام 1849م، بفعل تطورات عديدة، أهمها الاندفاع إلى استيطان كاليفورنيا غداة اكتشاف الذهب فيها، ونمو صناعة الأبقار، وما تطلبته من مراعٍ في الأراضي الجديدة، إضافة إلى بداية ترحيل قطعان كبيرة برًا إلى الساحل الشرقي تلبية للاحتياجات الغذائية فيه.

حفل نمط عيش رعاة البقر في المناطق الجديدة بكثير من المغامرات، خاصة الاشتباكات مع قطّاع الطرق في هذه المناطق الشاسعة شبه الخالية من السكان، وأحيانًا مع السكان الأصليين من الهنود الحمر. فظهر في عام 1870م، نوع من العروض المسرحية عُرف باسم “عُروض الغرب المتوحش”، سُرعان ما تراجع وانقرض أمام ظهور السينما التي شكّلت أفلام “الوسترن” حيّزًا رئيسًا من إنتاجاتها منذ المرحلة الصامتة (1894م – 1929م)، واستمرت في تقديم المزيد حتى يومنا هذا، فأصبحت أفلام رعاة البقر جزءًا من التراث الثقافي الأمريكي والأساطير الوطنية.

يجتمع في هذه الأفلام رعاة البقر مع قطعانهم أو من دونها، إلى رجال القانون وقطّاع الطرق وصائدي الجوائز، وأحيانًا بعض الهنود الحمر، في مغامرات متخيلة، وغالبًا ما يكون راعي البقر فيها مسلّحًا بمسدس أو اثنين أو بندقية؛ ليدافع عن قطيعه أو مزرعته.

ومع أن راعي البقر في غالبية هذه الأفلام يمثّل جانب الخير في مواجهة الشر؛ لأنه يدافع عن حق مشروع ضد من يحاول التسلط عليه، فإن سمعة رعاة البقر الأمريكيين لم تكن في الواقع عطرة على الدوام وأينما كان. وذلك يعود إلى ما كان يمارسه بعضهم في “كنساس”، التي كانت منذ أواخر ستينيات القرن التاسع عشر، محطة تجميع القطعان من الولايات الجنوبية والغربية لشحنها إلى ولايات أخرى. إذ كان قادة القطعان المرهقون في السفر الطويل وقد قبضوا بدل أتعابهم أموالًا طائلة، ينصرفون إلى أعمال غير أخلاقية ويتسببون في اضطرابات ومشكلات كبيرة. واليوم، لا تزال مفردة “كاوبوي” تعني مجازيًا “المتهور”، على الرغم من أن السينما لم ترَ فيه إلا بطلًا.


لغويًا

بقر
بقر بقَرَ يَبقُر، بَقْرًا، فهو باقِر، والمفعول مَبْقور.
بقَر البطْنَ: فَتَحَه وشَقَّه ووسَّعه، “بقَر الغزاةُ بطونَ الخَيْل”. بَقْرٌ [مفرد]: مصدر بقَرَ. بَقَرة [مفرد]: ج بَقَرات وبَقَر، جج أبْقار وأبْقُر: (حن) واحدة البقر، وهو جنس حيوانات من ذوات الظِّلف، من فصيلة البقريّات، ويشمل البقر والجاموس، ويُطلق على الذكر والأنثى، منه المُستأنَس الذي يُتَّخذ للّبن واللّحم ويُستخدم للحرث، ومنه الوحشي، أنثى الثور.
 
– بَقَرةٌ حلوبٌ: شيء أو شخص يستغلّه الجميع – جوع البقر: الجوع الشديد.
البقر الأبيض: الظِّباء.
 
البقر الأحمر: حيوان وحشيّ له قرون طويلة، وهو متوسِّط ما بين الثَّور والوعل.
بَقَر الوحش/ البقر الوحشيّ: المها والإبل والوعل.
 بَقَر الماء: حيوان بحريّ يشبه البقرة، فرس النهر.
 
ثَوْر [مفرد]: ج ثِيران وثِيَرَة، مؤ بقرة وثورة: ذكر البقر الصالح للتلقيح؛ أي غير المخصيّ. أمسك الثَّور من قرنيه: جابه موقفًا صعبًا بكلّ شجاعة. الثَّوْر: (فك) أحد أبراج السَّماء، ترتيبه الثَّاني بين الحَمَل والجوزاء، وزمنه من 20 من أبريل إلى 20 من مايو. جبل ثور: جبلٌ بمكّة فيه الغار الذي آوى إليه الرَّسول، صلّى الله عليه وسلّم، يوم الهجرة. مُصارَعة الثِّيران: (رض) رياضة يواجه فيها المصارع ثورًا هائجًا في ميدانٍ مكشوف.
 
عِجل [مفرد]: مؤ عِجْلة ج عَجاجِيل وعُجُول وعِجال: ولد البقرة، ولد البقرة في السنة الأولى من عمره ضحينا بعجل سمين – قدم العلف للعجول – {فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين}. عجل البحر: (حن) حيوان مائي لبون.


البقر في الشعر العربي
عينا الحسناء وعاطفة الأمومة

الشاعر العربي القديم مولع بالطبيعة التي يعيش فيها؛ تناجيه بسِحرِها فيناجيها بأشعاره. لذلك، ليس عجيبًا أن تجد كل تجليَّات تلك الطبيعة بصور مختلفة ضمن المعلقات، من امرئ القيس الذي وصف فرسه والصيد والمطر والسيل، إلى طرفة بن العبد الذي تغزَّل بالناقة بما يصبو إليه فؤاد أي حسناء.

عين ذلك الشاعر العربي كانت تجد الجمال في كل ما حوله، فتطوف به مخيلته وتحلق إلى مجازات رحبة واسعة. وفي البقر الوحشي، وجد الشعراء جمالًا طرزوا به أشعارهم. أما الصورة الواضحة والمتكررة لذلك التعبير هو وصف جمال أعينها، في اتساعها وتكوُّرها وصفائها وطول رمشها واكتحالها، ما دعاهم إلى تشبيه أحداق جميلات النساء بها.

ومن أقدم الشعر الذي نجد فيه هذه الصورة، ما يُنسب إلى الشاعر الجاهلي عامر بن الطفيل:

عرَفتَ بِجوّ عارمةَ المقامَا
لسلمى أو عرفتَ لها عَلامَا
لياليَ تستبيكَ بذي غُروبٍ
ومُقلةِ “جُؤذرٍ” يرعى بَشامَا

فالجُؤذر هو ولد البقرة الوحشية، وقال بعض اللغويين إنها كلمة فارسية معرَّبة.

هذه الصورة الغزلية نجدها عند الفرزدق أيضًا في أكثر من موضع، فمرة يقول:

إن التي نظرَت إليك بفادرٍ
نظرت إليكَ بمثل عينيَ جُؤذرِ

وفي أخرى:

إذ أنتِ مُقبلةٌ بعينيَ جُؤذرٍ
وبجيدِ أُمِّ أغنَّ ليس بتوأمِ

وأم أغن: هو غزال الظبي، يُقال لصوته أغن؛ وهو مصنف علميًا ضمن البقريات.

أمَّا المتنبي فيأخذ تلك الصورة إلى بعد آخر، فيستعير للحسناء لفظ الجؤذر حين يقول:

من الجآذرِ في زيِّ الأعاريبِ
حُمرَ الحُلى والمطايَا والجلابيبِ

وهكذا تجد أن هذه الصورة الغزلية تتكرَّر إلى حد الاستهلاك، فلا تكاد تجد شاعرًا يخلو شعره منها، فتجدها عند الأخطل وعمر ابن أبي ربيعة والراعي النميري وجميل بثينة، وبشار بن برد وأبي تمام وابن الرومي وأبي فراس الحمداني والبحتري، وبعدهم الأبيوردي وصفي الدين الحلي، ثم أحمد شوقي وبدوي الجبل، والقائمة تطول!

هل هي البقرة التي نعرفها؟

ليس من الأكيد بالنسبة إلينا هل كان شكل ذلك الجُؤذر الذي سحر بعينيه الشعراء القدماء هو أقرب إلى بعض أصناف البقر المستأنس الذي نعرفه، أم هو خصوصًا ما نعرفه اليوم باسم “المها”، التي تُصنف ضمن فصيلة البقريات وكان انتشارها كبيرًا في البيئة الصحراوية القديمة؟

الاحتمال الثاني هو الأقرب إلى ذائقتنا الجمالية العصرية، ويمكن عضد ذلك بما ورد في بعض التعابير الشعرية “جؤذر رملة”، فهذا التخصيص الذي قد يُشير إلى اللون يقرِّب إلى مخيلتنا صورة صغار المها. وهنالك شاهد أصرح على ذلك حينما قابل عمر ابن أبي ربيعة بين “المهاة” الأم وصغيرها “الجؤذر” في قوله:

وإذ هي مثلُ مَهاة ِ الكثيبِ
تحنُو على جُؤذرٍ في خمرْ

وكذلك قد يُستشهد بورود تشبيه عيون النساء بـ”المها” صراحة عند شعراء آخرين، كما في شعرِ ابن الجهم:

عيونُ المها بين الرُصافةِ والجسرِ
جَلبنَ الهوى من حيثُ ندرِي ولا ندرِي

ورغم ذلك، لا يمكن استبعاد الاحتمال الأول تمامًا دون تحقيق أدق، فمن المعروف أن الذائقة الفنية تتغيَّر حسب البيئة والظروف الزمانية، وكثيرًا ما يُستشهد على ذلك بشعر ابن الجهم نفسه قبل أن يعرف المدنيِّة، فإليه يُنسب المدح المعروف للخليفة المتوكِّل:

أنتَ كالكلبِ في حفاظِكَ للوُدِّ ـ
وكالتيسِ في قراعِ الخطُوبِ

على أن الشاعر السعودي فهد عافت يشكِّك في هذه الحكاية عن ابن الجهم وأصلها في مقال له في صحيفة “الرياضية”، مرجحًا أنها مجرد نكتة ساذجة أو إساءة مقصودة، فلا ينبغي الاستشهاد بها على كل حال؛ دليله في ذلك أن من البعيد أن يحلم خليفةٌ هذا الحِلم، ولا سيما المتوكِّل! أيًّا يكن، تخيَّل أن شاعرًا يتغزَّل بحبيبته اليوم قائلًا: عيناكِ عينا بَقَرة؟! ولكن من يستطيع تكبيل خيال الشعراء!

بعيدًا عن جمال العيون

باستثناء إطلالة “الجؤذر” لجمال عينيه في الشعر، نجد له صورة نادرة عند الشريف الرضي:

والدهرُ في أبياتِنا جُؤذرٌ
فالآن أضحى وهو ليثٌ شَتيمْ

فالشاعر يتحسَّر على أيامه السوالف حين كان الدهر مقبلًا عليه، فكان كـ “الجُؤذر” في وداعته ولطفه وصفائه وجماله، لكن تقلب الأحوال جعله بعد ذلك كالليث الثائر الذي يسعى إلى الانتقام منه.

لكننا نجد للبقر صورة وصفية مطوَّلة مختلفة عما كلِّ سبق عند زهير بن أبي سلمى. ففي قصيدة دالية غير المعلقة، استهلها بذكرى الطلل، يصف الشاعر ناقته، ثم يصل إلى بيت يُشبهها فيه بالبقرة:

كخنساءَ سفعاءِ الملاطِمِ حُرةٍ
مسافرةٍ مزؤودةٍ أُم فرقدِ

فالخنساء: اسم يُطلق على البقرة الوحشية لوصف أنفها. والشاعر يُجمل وصفه لشكلها (خنساء سفعاء الملاطم)، وحالها (حرة مسافرة)، ومشاعرها إذ يعتريها الذعر على ولدها (الفرقد: اسم يُطلق على ولد البقرة). ثم يفصِّل في وصف شكل هذه البقرة، ويحكي قصة انصرافها إلى الرعي، ما يجعلها تغفل عن صغيرها، لتستغل الوحوش الفرصة وتُجهز عليه. وبينما هي في حيرتها ولوعتها وجيشان عاطفة أمومتها، تجد نفسها هي في خطر آخر يتمثل في كلاب الصيد، لكنها تلوذ بالفرار وبقرنيها لتتمكن أخيرًا من النجاة من الموت.

كل ما سبق يرتبط بقديم الشعر. أما في الشعر الحديث، فتبدو الأبقار أقرب إلى ما هي عليه في أذهاننا بصورتها الوادعة التي ترتبط بحياتنا اليومية. يقول محمود درويش واصفًا الحياة الهانئة التي كان يعيشها في قريته:

“كنا نهيِّئ وجبةَ أبقارِنا في حظائرها
ونرتِّب أيامَنا في خزائنَ من شُغلنا اليدويّ
ونخطب وُد الحصانْ
ونُومئ للنجمة الشاردة”.


مقالات ذات صلة

ولماذا اللون الأخضر؟
ألأنه جميل؟
نعم، إنه جميل، ولكنه أكثر من ذلك بكثير.

في هذا الملف، نذهب إلى جولة في رحاب الكون، لاستطلاع بعض ما نعرفه عن هذه الأجرام السماوية الجميلة، وعن حضورها الآسر في الثقافة والعلوم، ودورها في تطوير الحضارة الإنسانية.

إنه الجواب عن أي سؤال يبدأ بـ “كم؟”. هو كالهواء الحاضر دائمًا من حولنا حتى الالتصاق بنا، ننساه أو نتناساه، أو نتجاهله، رغم أنه وراء تشكيل كل ما أنتجه وسينتجه الإنسان، من الملابس التي على أجسامنا، إلى أبعد الأقمار الاصطناعية عن كوكبنا. إنه القياس، هذا الفعل الذي لا بدَّ منه، ليس فقط لضمان سلامة إنتاج […]


0 تعليقات على “البَقَر”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *