تُعدُّ المعرفةَ اليومَ المدخلَ الرئيسَ لتحقيقِ التنميةِ المُستدامة. فقد وردَ في تقريرِ التنميةِ البشريةِ العربيةِ لسنة 2003م، أن المعرفةَ هي أداةٌ رئيسةٌ تؤدي إلى توسيع الخياراتِ البشرية، وتعملُ على تنمية القدرات الفردية. وكانت منظمةَ اليونيسكو قد وضعتْ في تقريرها لسنة 2005م، مفهوماً واضحاً للمعرفةِ على اعتبارِ أنها البنيةُ التحتيةُ، التي من شأنها أن تُمكِّن من رسم خارطةِ طريقِ لتوجهاتِنا الفكريةْ. ومن هُنا، نستطيعُ أن نصل إلى رؤيةٍ واضحةٍ، مفادُها أن مجتمعَ المعرفةِ هو المسارُ الرئيسْ، الذي نطمح من خلالِه إلى الوصولِ لنهضةٍ عربيةٍ حقيقيةٍ للأجيالِ الناشئةْ.
الباحث الدكتور أحمد أبو زايد، أضاء على دور المعرفة في التنمية، والإشكاليات المحيطة بها خلال ورقة قدَّمها في ندوة اليوم العالمي للكتاب التي نظَّمها، الشهر الماضي، مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي في الظهران بمناسبة اليوم العالمي للكتاب.
إشكاليات المعرفة
عندما نتعرَّضُ للمحتوى المعرفي بالدراسة، لا بدَّ من إضاءةِ عددٍ من الإشكالياتِ الأساسيةِ ذات الصلةِ المباشرةِ بعملياتِ النهضةِ العربيةِ المعقدةْ.
وعلى رأس تلك الإشكاليات تأتي إشكالية التنميةِ الثقافيةِ في المجتمعاتِ العربية، وكل ما يرتبطُ بها من مشكلاتٍ في الهوُّيّة والانتماءِ والعلاقةِ بالآخر، وسينصبُ الحديث هنا على عرضِ بعض إشكالياتِ المعرفة، ذات الصلاتِ المباشرةِ بمجتمعِ المعرفة، والمحتوى المعرِفي العربي.
الإشكاليةُ الأولى
•
التناقضُ الكامنُ بين مصطلح مجتمع المعرفة، وبين مصطلح اقتصاد المعرفة، ومدى انعكاسهِ على خططِ واستراتيجياتِ التنمية.
لقد تباينتْ المصطلحاتُ في وصفِ وتفسير التحولاتِ الهائلة التي طرأتْ على مجتمعاتِنا. وأكثرُ هذه المصطلحاتِ أهميةٌ هما، مصطلحُ «مجتمعِ المعرفة»، ومصطلحُ «اقتصادِ المعرفة»؛ وهما وجهان أساسيان من وجوهِ المعرفةِ المتعددة، يسيران معاً بالتوازي، ويكملُ كلٌ منهما الآخَر، فلا يجب فصلهُما عن بعضهِما، إلا أنه يتمُ استعمالُ المصطلحين استعمالاً ترادفياً على الرغم من أن كلَ مصطلح منهما على حدة، يهدفُ إلى التأكيدِ على أهميةِ بعض الجوانب دونَ سواَها في تفسيرِ ظواهرِ التحولات الهائلة، التي تحدثُ في هذا العصر.
إن التطورَ المتنامي والمتدفق للتكنولوجيا، كان سبباً في إدراكِ وبلورةِ دورِ المعرفةِ في النمو الاقتصادي، الذي أدّى إلى ظهورِ مصطلح «اقتصادِ المعرفة». فقد ذهب «بيتر دروكر» بعيداً، حين أكّد أن المعرفةَ هي الأساسَ في الاقتصادِ، مهمشاً بذلك دورَ كلٍ من العمالةِ، ورأسِ المال.
وقد عرّفتْ منظمةُ التعاونِ الاقتصادي والتنميةِ سنة (1996م) اقتصادَ المعرفة، على أنَه الاقتصادُ، الذي يقومُ على إنتاجِ ونشرِ استخدامِ المعرفةِ. وهنا، ربما تتعالى الأصواتُ القائلةُ، بأن الاقتصاد دائماً مَقوْدُ بالمعرفةِ. فجميعُ الأنشطةِ الاقتصاديةِ بالضرورةِ، ترتكزُ بشكل أو بآخَر على المعرفةِ. لذلك فإن اقتصادَ المعرفةِ ليس بالأمرِ الجديدْ!.
ويكمنُ الردُ على ذلك في كونِ دورِ المعرفةِ الآن قد أصبحَ ممنهجاً في الاقتصادِ. بالإضافةِ إلى أن تسارعُ وتراكمَ الإنتاجِ المعرفي، يعدُّ غيرَ مسبوق، وذلك نتيجة للتطورِ المذهلِ في الاتصالاتِ وتكنولوجيا المعلومات.
لقد ألمحَ كلٌ من «كوك» و«ليدسدورف» سنة (1996م) إلى أن المعرفةَ كأساسٍ للاقتصادِ ليست بجديدةِ؛ ففي عام 1911م كان «شومبيتر» أولَ من تعرفَ إلى أهميةِ المعرفةِ في الاقتصادِ، فأشار إلى تركيباتٍ جديدةٍ للمعرفةِ في كل من الابتكاراتِ والريادةِ في الأعمالْ «innovation and entrepreneurship».
ولا بد من الإشارةِ هُنا، إلى تطورِ توصيفِ اقتصادِ المعرفة بواسطةِ عدد من الباحثين على أنه الاقتصاد، الذي تلعبُ فيه عملياتُ توليدِ واستغلالِ المعرفة، دوراً رئيساً في تكوينِ الثرواتِ وتنميتِها.
مجتمعَ المعرفةِ
على الجانب الآخرِ، فقد عَرّفَ تقريرُ التنميةِ البشريةِ العربيةْ لسنة 2003م، مجتمعَ المعرفةِ، بأنهُ المجتمعُ الذي يقوم أساساً على نشرِ المعرفة وإنتاجها، وتوظيفُها بكفاءة في جميعِ مجالاتِ النشاط المجتمعي، بما فيها الاقتصاد وصولاً لتنميةٍ إنسانيةٍ شاملة.
أما منظمةُ اليونيسكو في تقريرها «نحوَ مجتمعاتِ المعرفةِ» لسنة 2005م، فقد أكدت أن مفهومَ مجتمعِ المعرفة يشمَلُ أبعاداً اجتماعيةٍ وأخلاقيةٍ وسياسية، بالإضافةِ إلى الأبعادِ الاقتصادية، لذا يجبُ الحرصُ على عدمِ خلطِ مفهوم مجتمعِ المعرفةِ باقتصادِ المعرفةِ.
والجدير بالذكر، أن تقرير المعرفة العربي الأول لسنة 2009م، قد وسّع مفهوم مجتمع المعرفة، ليشمل الأبعاد الثقافية والحضارية، بحيث لا يكون المفهوم مقصوراً على البعدين العلمي والتكنولوجي، كما هو الحال في مؤشرات اقتصاد المعرفة في أدبيات منظمات دولية، كالبنك الدولي.
أما منظمة اليونيسكو، فقد شددت في تقريرها السابق ذكره أن مجتمع المعرفة لا يمكن إحلاله أو استبداله باقتصاد المعرفة. وذلك لأن اقتصاد المعرفة لا يمكن أن يغطي كل أبعاد المعرفة، والتي تحمل قيماً، لا تقبل التحوّل إلى سلعة. وانطلاقاً من هنا، فقد أضاءت المنظمة أهمية مفهوم المشاركة بالمعرفة «knowledge-sharing»، الذي من شأنه الحدّ من تهميش الدول الأقل نمواً، والعمل على تطوير دورهم من مستهلكين فقط للمعرفة، إلى مستهلكين ومنتجين في آن واحد، وكل ذلك في ظل اقتصاد معرفي عالمي.
ومما لا شكّ فيه أن التناقض الكامن بين مفهوم مجتمع المعرفة، ومفهوم اقتصاد المعرفة، يتباين من دولة إلى أخرى، لكنه يظهر جلياً في الدول الأقل نمواً، ويؤثر بصورة دراماتيكية على التنمية بتلك الدول. فقيام اقتصاد المعرفة متفرداً، يتطلب عملية تكثيف للمعرفة في شريحة من العمالة، على عكس الاقتصاد الصناعي التقليدي، الذي يتطلب تكثيفاً للعمالة. فبالتالي يعمل اقتصاد المعرفة على جذب شريحة صغيرة من المجتمع ممن يمتلكون سبل المعرفة ومهاراتها، وبذلك يرتفع دخل تلك الشريحة المجتمعية لتقترب من المستوى العالمي للأجور دون بقية المجتمع. وعلى المؤسسات المحلية أن تحرص على المحافظة على هذا المستوى من الأجور، لتجنب ما يسمى بهجرة العقول والكفاءات العربية.
أما بالنسبة إلى الجانب الاجتماعي، فإن تفاوت الدخل بين تلك الشريحة التي تمتلك المعرفة والمهارات، وبين بقية شرائح المجتمع قد يؤدي إلى اتساع الفجوة بين طبقات المجتمع، على صورة قد تصل إلى حد تقويض الانسجام الاجتماعي، والاستقرار السياسي، فضلاً عن تشجيع الفساد والمحاباة، وهما من العوامل الرئيسة في كبح التنمية وتكبيلها.
وأخيراً فإن إمكانية تحقيق تنمية مستدامة، يتطلب توازناً في رسم مخططات التنمية، ووضع استراتيجياتها؛ في عملية مزاوجة ومزج بين حاجة المجتمع إلى النمو والتطور، وبين تحقيق العدالة، وكل هذا في إطار مجتمع المعرفة، وحاجة المجتمع الملحّة، للقضاء على البطالة والفقر في إطار اقتصاد المعرفة.
المحتوي المعرفي العربي
الإشكالية الثانية
•
إشكالية المحتوى المعرفي العربي، وتأرجحه ما بين المطبوع، والرقمي.
إن المحتوى المعرفي العربي، يعاني ومنذ مدّة طويلة من الزمن، من فجوات كبيرة، ليس فقط من حيث الكيف، بل من حيث الكم أيضاً، فنجد أنفسنا من خلالهما في حالة من العجز عن الدفع بالأجيال الناشئة إلى السير في طريق المعرفة، والتعرّف إلى عالمها، ويستوي في ذلك المحتوى المطبوع والمحتوى الرقمي. أما السؤال الذي يطرح نفسه هنا، فهو: كيف نُعد البرامج التي تشجِّع على القراءة، وتحفِّز على اكتساب المعرفة في ظل محتوى معرفي عربي غير كافٍ على أحسن تقدير؟!
هناك جدل عالمي، يتعلق بمستقبل نشر الكتاب المطبوع في مواجهة النشر الرقمي. لكن هذا الجدل يتعلَّق أكثر بالتنافس الاقتصادي، وبالمجتمعات التي توطنت فيها المعرفة، وتعدُّ القراءة لديها حاجة جوهرية كالماء والهواء. وهذه الإشكالية بين المطبوع والرقمي غير مؤثرة على مجتمع المعرفة في الدول الأقل نمواً. فصناعة النشر في مجتمعاتنا متواضعة بطبيعة الحال، فعدد ما ينشر في العالم العربي مجتمعاً لا يزيد على %1.1 من الإنتاج العالمي (وفقاً لتقرير التنمية البشرية العربية لسنة 2003م). ناهيك عن أن توزيع الكتب، أو مدى انتشارها بالنسبة إلى 250 مليون عربي، قد لا يتجاوز – لنشر رواية – على سبيل المثال لا الحصر ما بين 1500 و3000 نسخة.
وعلى الجانب الآخر يقاوم عدد من الناشرين التقليديين، إمكانية تطوير نموذج الأعمال لديهم «business model»، وذلك ربما لنقص في معرفتهم، أو مدى اطّلاعهم على تكنولوجيا النشر الحديثة، أو عدم مقدرتهم على متابعة أو تقبّل التغيرات المتسارعة المتوجهة بشكل لافت إلى النشر الرقمي، الذي فرضه التطور التكنولوجي المتنامي. بعبارة موجزة لا يوجد ما نخشى عليه من حيث الاستمرار في صناعة النشر المطبوع.
وعلى الرغم من تواضع الإقبال على قراءة الكتاب الورقي، نجد أن هناك شهية كبيرة في العالم العربي بشكل عام، لاكتساب وتداول المعرفة عبر المحتوى الرقمي. فقد تجاوزت نسبة مستخدمي الإنترنت %40 من السكان (حوالي 100 مليون نسمة) وهي بذلك تفوق المتوسط العالمي (%34).
ووفقاً لتقرير الإعلام الاجتماعي العربي لسنة 2012م (Arab Social Media report)، فإن اللغة العربية هي أكثر اللغات نمواً في تاريخ «تويتر». كما أن عدد المشتركين على الفيس بوك وصل في 2012م إلى أكثر من 40 مليون مشترك من العالم العربي فقط.
والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا هنا هو: كيف يمكننا استثمار هذه الشهية المفتوحة وتسخيرها في دعم المحتوى المعرفي العربي لاكتساب وإنتاج معرفة بشكل ممنهج؟.
فالمحتوى الرقمي، الذي يتم تداوله باللغة العربية على الإنترنت، لا يتجاوز في غالبيته، كونه محتوى رقمياً بجهود فردية (user-created content)، يفتقد إلى وجود صناعة تقوده وتدعمه، من خلال إعداد مناهج محددة، من شأنها أن تساعد على تطوير وتوجيه المحتوى المعرفي العربي.
النقطة الأخيرة هي، أنه وعلى الرغم من أن اللغة العربية تعدُّ خامس أكبر لغة مستخدمة في العالم، بالإضافة إلى وجود أكثر من 100 مليون مستخدم للإنترنت في العالم العربي، إلا أن المحتوى الرقمي باللغة العربية ضئيل في الطرح والإمكانات.
إن العالم العربي اليوم أمام فرصة تاريخية حقيقية، وهي الدعم والدفع باتجاه المحتوى المعرفي العربي الرقمي. إن نجح في استثمارها، فقد تؤمِّن له إمكانية التواصل مع العالم والتأثير فيه. وذلك لأن مجتمعاتنا غنية بالثقافة والمعرفة والتراث، وقادرة على استغلال إمكاناتها والإفادة منها، كي يعم خيرها الجميع؛ فقد تساوت الفرص الآن أمام الجميع بفضل التطور التكنولوجي، ولم يعد المحتوى الرقمي حكراً على الدول المتقدمة.
لكنني أختم بمقولة إدوارد سعيد: «لا نريد المعرفة كمنتج أو سلعة، ولا نريدها كعملية إصلاح تعني مكتبات أكبر أو عدداً أكبر من الحواسيب فقط. المعرفة التي نريد تختلف نوعياً، وتقوم على الفهم عوضاً عن السلطة والتكرار غير الناقد أو الإنتاج الآلي».