ريادة عبدالله عبدالجبار الأدبية والنقدية هي حقيقة ماثلة اعترف بها مجايلوه قبل أن تسلّم بها الأجيال التي أتت بعده، وكتبه الشهيرة: «التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية» و«قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي، بمشاركة د. محمد خفاجة»، فضلاً عن مغامراته الإبداعية في القصة والمسرحية مثل: أمي، والعم سحتوت، والشياطين الخرس، كلها كانت الفوانيس التي أضاءت مسيرة الأدب في المملكة ووثقت لملامح الحراك الفكري والتنويري في حقبة مبكرة. «إنه على رأس النقَّاد بين أدباء البلاد الذين لا تعوزهم النزاهة والجرأة والصراحة»، كما كتب عنه علاَّمة الجزيرة الراحل، حمد الجاسر.
كاتب أحبّ أمـّـته فشغله همّها، وأديب واقعي حمل نسمات الحـِلم، لم تكن الكتابة عنده ترفاً أو حلية، ولم تكن وجاهة أو جاهاً، بل هي وسيلة مُلحـّة سعى بها نحو ترقية المجتمع، والدعوة إلى جادة الحق والخير والجمال، ولنيل الحرية والوحدة، فسخـّر لذلك كلّ طاقاته ومواهبه، بما ملك من مفاتيح التعبير الأدبي، التي لم توصَـد أمامها الأبواب المغلقة.
في هذه المقالة يجوب بنا د. حذيفة الخراط ضفاف حياة الرائد الكبير عبدالله عبدالجبار, ويتوقف عند المحطات المهمة في رحلته الحياتية ملقياً الضوء على أهم مؤلفاته النقدية والإبداعية.
بين مكة ومصـر
في حارة «سوق الليل» المجاورة للبيت الحرام بمكة، فتح عبدالله عبدالجبار عينيه على الوجود عام 1919م، تحت سقف بيت عائلته المكية، وفي شعب بني هاشم، كانت خطواته الأولى قد عبقتْ من أريج ذاكرة النبوة، حيث كان يـَجري الصغير هنا وهناك، مطلقاً بصره وبصيرته في آفاق مكة، صوب كلّ الاتجاهات، ومعها تساؤلات شتى حملتـْها جنبات الطفل الوديع، وقد تعطرتْ بقداسة المكان.
وفي كـُـتـّاب «الفقيهة جواهر بنت عبد الهادي الفقيه»، أبصرتْ نورَ العلم عينا الفتى- وهو بعدُ في الخامسة من عمره – ، وعلى نبرات صوتها الحنون تعلــّم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، وأتقن أصول الحساب بمرافقة زملائه وأقرانه.
وكان لدروس (ماما جواهر) أكبر الأثر في صقل شخصية التلميذ الموهوب، فقد حفرتْ تلك العلوم في ذاكرة عبدالله عبدالجبار أخاديد لمّا ينسـَها، لتصبح بعد أن شبّ عن الطوق صوتاً يصهل بداخله، ويراعاً يدافع بمداده عن المرأة وحقوقها، التي هُضم جانب كبير منها في مجتمعه آنذاك، تحت ذريعة العادات والتقاليد، ليدخل في معارك حامية مع مَن وقف ضدها وصادر حقوقها في التعليم، وكيف لا؟ وقد كانت المرأة أول من علـّمه كيف يفكر ويكتب.
آثرتْ عائلة عبدالله عبدالجبار أن يكمل تعليمه، فانضمّ إلى صفوف المدرسة الفخرية العثمانية، ومن ثمّ التحق بمدرسة الفلاح في مكة، لتـُحلـّـق به بعدها إلى القاهرة أحلامُـه المشغوفة بالعلم، حيث قبلة الطلبة آنذاك، وهناك انضمّ إلى طلاب البعثة السعودية الثانية في مصر عام 1936م، والتحق بركب العلم في كلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول، ليـَحصل فيها على شهادة الليسانس في اللغة العربية والدراسات الإسلامية عام 1940م، وكان بذلك أحد العشرة الأوائل الذين حمـَـلوا الشهادة الجامعية من الطلبة السعوديين.
وإلى مكة عاد عبد الله شاباً ناشئاً، وقد اتقدتْ حماسته لعملية التحديث وفـِكر التنوير، وآمن بأنّ المعرفة هي مفتاح الرقيّ والحضارة، فأغرم بالعلم والتعليم، وأدرك بحرص وحكمة، ما يجب أن تكون عليه خطواته، فلم تـُـغـْره المناصب العليا في الدولة، رغم ما حمله من شهادة جامعية وإجادته اللغة الإنجليزية، في مجتمع عزّ فيه المتعلمون، بل آثر البقاء إلى جوار أبنائه من الطلبة، وبقي لهم ذاك المربي الحقيقي، الذي بذل لهم بكلّ صدق وإخلاص، رحيقَ علمه من المنطق والفلسفة والتاريخ والأدب. وفي المعهد العلمي السعودي، وقد عـُيـّن مديراً له، بزغ نجم الأستاذ عبد الله عبد الجبار، وكذلك كانت الحال في مدرسة تحضير البعثات بمكة التي عمل فيها، واستمر عطاء الجدول الذي لم يكن ماؤه الغداق لينضب، وتخرج على يديه جيل كبير من مسؤولي الدولة ورجالاتها.
إلى مصر ثانية
لكنّ عبد الله ما فتئ أن اشتاق إلى العلم من جديد، فعاوده حنين قديم أشعره بأنّ ما ناله من شهادات جامعية حينها ليس بكافٍ، فعزم على الرحيل، وعاد أدراجه إلى مصر مرة أخرى، لمتابعة حلمه بالدراسات العليا، إلا أنه حين وصلها، حمل إليه ساعي البريد، رسالة من وزارة بلاده تفيد بتخييره بين مواصلة الدراسة، أو تولـّي منصب مراقب عام البعثات السعودية في مصر، وكان ذلك في عام 1949م، فآثر حرصه على رعاية الأجيال القادمة، وغلــّـب مصلحتهم فوق مصلحته، فرضي بتقلــّد أعباء المنصب، ومن خلاله أخذ يحدب على أبنائه الطلبة، ورعى شؤون كثير منهم، وكان هؤلاء من النبتات الأولى للطلبة المبتعثين، وقد شهد جمع منهم بأنه لولا عطاء أستاذهم هذا وتشجيعه لهم لما أكملوا تعليمهم، ولقفلوا راجعين بخفـّي حـُنين.
وفي شقته بالجيزة على ضفاف النيل، ملأ حدثٌ سعيد قلبَ عبد الله بفرح غامر، فقد أبصرتْ وليدة أخته الوحيدة النورَ هناك واختار لها اسم (فاطمة)، وغدتْ الطفلة أثيرة لدى خالها، وآسرة قلبه، ومحط اهتمامه حتى بعد أن كبرتْ. تقول فاطمة عن ذلك: « دائماً ما أشعر بأبوّته لي ولأبنائي وكأنـّهم أحفاده، بل هو دائماً ما حرص على أن أكمل رسالتي في خدمة الأدب السعودي، حتى حصلتُ على الماجستير، ولا يزال يُحفِّزني لإكمال الدكتوراة في ذات المجال».
وثمة سؤال يظلّ حائراً، لا يكاد يجد له جواباً شافياً، حول عزوف عبد الله عبد الجبار عن الزواج، ليمضي تسعة عقود وحيداً، لا مؤنس له سوى كتبه، وصالونه الأدبي الأسبوعي، وأخته الوحيدة وأبنائها، تقول فاطمة: «لم يصرّح خالي بشيء عن ذلك، بل دائماً ما كانت والدتي تطلق نكاتها وتمازحه حتى بعدما كبر: هل أبحث لك عن عروسة يا عبدالله ؟»، ليجيبها ضاحكاً: «لقد تزوجتـُها منذ زمن، هي جميلة، ألا تعلمين أنـّي تزوجتُ العلم ؟»، وكثيراً ما كان يكرر ذلك لكلّ من يسأله عن سبب عزوفه عن الزواج، ورغم أنه لم ينجب لأنه لم يتزوج، إلا أنّ تلامذته شهدوا له بأبوّته الحانية، التي كثيراً ما نعموا بدفئها وحدبها.
لم يكن العلم ومسؤوليات المنصب الإداري الجديد شُـغلَ الفتى عبد الله الشاغل في القاهرة فحسب، بل زادته حياته هناك تطلعاً، ورهافة حس، وقدرة أدبية ونقدية، وكان ذاك نتاج شغفه بالقراءة والمطالعة بلغات مختلفة، واستهوته أجواء الصالونات الثقافية ومناخاتها الأدبية المفتوحة في مصر، واشترك في القاهرة في تأسيس (رابطة الأدب الحديث)، التي عُـيـّن وكيلاً لها، وكان له دور في حرث تراب أرض الأدب، واحتضان بعض الرموز الشعرية الشابة وتبنـّيها بعد اكتشاف بذور مواهبها.
وفي القاهرة، حيث عاش عقدين من عمره، استمر عطاء أديبنا في الحياة الثقافية وزاده ذلك شهرة بين مثقفي مصر وأدبائها، واتخذ له صالوناً أدبياً في شقته بالجيزة خصّصه لاجتماع ندماء الثقافة والفكر، فصار موئل علية القوم ووجهتهم، ومحط عرض منظوماتٍ من الأطروحات والتوجهات المختلفة لأصحاب الفكر والفن والأدب.
والتحق فارسنا بمعهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية، إذ أسهم هناك في إكمال رسالته التربوية والتعليمية، وعلى مدرجات ذاك المعهد ألقى مجموعة من المحاضرات التي ما انفك طلابه يغرفون خلالها من بحر علم أستاذهم الجليل.
مزيد من الحِــلّ والترحال
وهكذا كانت حماسة عبد الله عبد الجبار وعطاؤه، يتقدان يوماً بعد يوم، إلى أن حلـّتْ بالأمة نكسة 1967م، حين تلبدتْ سماء مصر بغيوم سوداء، واضطربتْ أجواؤها، وعصفتْ حينها رياح الشك والريبة في التجمعات الثقافية وغيرها من ألوان الحراك، فكان أن وقع عبدالله ضحية تلك الحقبة، إذ تمّ اعتقاله مع مجموعة من أصدقائه، بعد أن حامت الشكوك حول صالونه الثقافي، الذي كان موطئ قدم الأصدقاء ممن عشق معهم عبد الله حديث الحرية، وتباينتْ مواقفهم من الأحداث، فدفع ذلك به إلى المعتقل، الذي لبث فيه قرابة سنة، دون أن توجّه إليه تهمة واضحة.
وبعد أن ثبتتْ براءته أخرج من غيابة السجن، وتقدَّم له الرئيس عبدالناصر شخصياً بخطاب اعتذار، إلا أنّ ظروفاً كتلك التي عاشها في المعتقل، يبدو أنها لم تكن سهلة على إنسان ذي حسّ مرهف كعبدالله عبدالجبار، الذي شعر بكبريائه وقد خدش أول مرة، فتملــّـكه يأس وأصابته خيبة أمل دفعتـْه إلى تفضيل العزلة، ورغم رغبة المسؤولين في رجوعه إلى وطنه الأم والإفادة من خبراته، إلا أنه لملم جراحاته وآثر الرحيل، فاتجه إلى لندن حيث امتهن التدريس، واستقرّ هناك في بيت صغير حوّله إلى مدرسة خاصة لتعليم أبناء الجاليات العربية، وكانت تلك المدرسة نواة لمشروع أكاديمية الملك فهد وتمّ تعيين عبدالله مديراً مؤسساً لها، وكانت أول مدرسة عربية في أوروبا تتبع السفارة السعودية هناك.
وبعد أن سلخ الأديب المكيّ من عمره عشر سنين عجاف في لندن غلبه الحنين إلى أول منزل، فعاد إلى المملكة عام 1978م، ليتمّ تعيينه مستشاراً لشركة تهامة، ومستشاراً لجامعة الملك عبد العزيز بجدة، وكانت بعد وليدة ولم تتوافر فيها حتى مكتبة للطلاب، فتبرع عبد الله بمكتبته الخاصة بكلّ محتوياتها النفيسة لأبنائه من طلبة الجامعة، وكانت حجر أساس لمكتبة الجامعة الكبرى.
وبعد مضيّ عام على عمله في الجامعة، ارتأى عبد الله أن يتفرغ لهواياته الثقافية والفكرية والكتابة في الصحف، وتحوّل منزله إلى وجهة يقصدها المحبّـون من تلامذته وأصدقائه، وأسس صالونه الثقافي الذي عـُرف بالثلوثية، ليتحول بعد ذلك إلى السبتية، وكان يوماً حافلاً ينشده الجميع، ولم يوصد فيه باب أمام أحد، ممن قصد مجلس الأستاذ ذي الروح المتوثبة والنفس المتقدة. وفي منزله بجدة، طالما عاش الأديب الكبير وحيداً يبث أنــْسه لكتبه، تقول عن ذلك فاطمة: «بيته كلـّه كتب، وكلّ الحجر مليئة بها، حتى الطابق الثاني، وحجرة الطعام، وحجرة نومه»، وتتابع السيدة قائلة: «أحياناً أسأله: ألا تحنّ لأن تكون أباً ؟» فيقول: «يا فاطمة، كيف تقولين ذلك ؟، ألستُ أباً لسبعة كتب، هي أبنائي، وأمارس أبوّتي معها ؟».
مع كتاباته
عبدالله عبدالجبار قامة شامخة من رواد الفكر التنويري في تلك الحقبة، وقد أدلى بدلوه في نشاطات الحركة الأدبية والثقافية، وأثــّر مداد قلمه، وما خطـّه به من نتاجات عديدة تأثيراً بيناً في المجتمع، وتوزعتْ بين الدراسات النقدية والتأليف القصصي والمسرحي والنشاط المنبري الذي ألقى خلاله عصارة فكره الثقافي والأدبي، وامتاز بقوة أسلوب علاجه للمشكلات الأدبية والنفسية والاجتماعية، وملامسته بحس رفيع موضوعات أيقظتْ الشعور بما يعوز الناس من أدوات الإصلاح، ونـَسج بحروفه لغة جديدة ورؤى وأفكاراً نضحتْ بعشق متجذر للوطن، وغدا بذلك أنموذجاً فذاً تخطتْ دائرته المحيط المحلي، وانتشر عبقه في فضاءات أدب العالم العربي.
تقول أحلام مستغانمي معلــّـقة على مذهب عبدالله عبدالجبار الأدبي: «نحن لا نحب عبدالله عبدالجبار بسبب بداعته الأدبية، ولا بسبب أبحاثه ومنهجه الفكري، نحن نحبه لأنه رفع الأدب إلى مستوى المسؤولية، وأعاد إلى هذه الكلمة هيبتها وسطوتها، ولأنه جعل من منهجه الفكري نهجاً في الحياة بزهده وترفـّعه، وبذلك الكبرياء الذي يفتقده اليوم رجال العلم المبدعون، نحبه لأنه يملك صراحة الحق وتواضع العالم، ولأنه في زمن الضجيج والرياء، اختار أن يكون من أهل الصمت، وعاش واثقاً في تأمله».
ويضيف محمد خفاجة قائلاً: «والأستاذ عبدالله من كتـّـابنا المؤمنين بالتطور وبوجوب مسايرة المجتمع والناس لأفكار الحضارة، وبالواقعية الحلوة في الأدب، وهو يبشـّر بمثالية جديدة في مسرحياته الجميلة».
وقد عدّ عبدالله عبدالجبار القصة إحدى الوسائل الفعالة لتربية النفوس، وشحذ الهمم، وإيقاظ الوعي، وأداة لبعث روح العزة والكرامة، وإشعال نار الإيمان التي يجب أن تظلّ جذوتها متقدة دائماً، مشتعلة أبداً. وقد أراد أديبنا من خلال قصته (العم سحتوت) أن يطرق باباً من أبواب الإصلاح، ويعالج أحد أدواء المجتمع، فوفـّق لما أراد، في أسلوب حوارٍ دلّ على فهم عميق للشخصيات والخلجات النفسية، وقد شنّ في قصته هذه حملة شعواء على صفات بغيضة، كالبخل واللؤم والأثرة والأنانية، وعالج خلالها بقلم مبدع وصاغ بأسلوب رشيق، عبارات دقيقة متقنة الصنع. و«سحتوت» هذا شخص بخيل مرابٍ انطوتْ نفسه على لؤم خبيث، وذهبتْ ضحية معاملته بالربا نفوس طاهرة وهو يكنز المال، دون أن يفاد منه، ورغم يساره يرفض ركوب السيارة، ويصرّ على استخدام حمار هزيل ضاوٍ في تنقلاته، وحينما يمرض يحرص على العلاج المجاني، ويحاول دوماً صرف الدواء من أرخص (أجزخانة). وينصح هاني الشابُ الطيب سحتوتَ بعلاج مرضه بالصدقة، ويحثه على الإسهام بالمال في مشروعات خيرية، فيرفض ذلك ويتعلل برفضه للرياء والسمعة ! وتتوالى الأحداث إلى أن ينهك المرض سحتوت، فتسوء حالته النفسية ويصيبه الذهول والهذيان والوهم، ويحاول الهرب من الأشباح التي تحاصره، فيقذف بنفسه من النافذة، ليموت بعدها شخصه وخلقه الوبيل.
أما قصة عبدالله عبدالجبار الأخرى، فقد أبدع حين جذب الأنظار بعنوانها الذي يهز وجدان كلّ إنسان بما يطويه من ذكريات الواجب والتضحية والبذل، وهي قصة (أمي) التي قال عنها محمد الحوماني: «لم يبكني فيما قرأتُ من قصص بالعربية سوى ثلاث روايات: مجدولين ترجمة المنفلوطي، وآلام فورتر ترجمة الزيات، وأمي تأليف عبد الله عبد الجبار»، وهي أقصوصة تربوية تناسب ثقافة الناشئة، وتدور أحداثها باختصار حول (صالح) الفتى العصاميّ الذي قضى والده شهيداً في حرب فلسطين، فحدبتْ عليه أمه وبذلتْ لأجله كلّ جهدها في سبيل تنشئته وتربيته، وكانت تنفق عليه من عمل يدها في أشغال الإبرة. وتختفي أم صالح في ظروف غامضة، فتؤويه أسرة الشيخ سالم، ويشعر بديون المعروف تثقل كاهله، فيفضل الهرب ويعمل عند بائع المقادم، ويكمل الدراسة وينال الشهادة ويتخرج في كلية الحقوق، ويعود إلى مكة، فيبحث عن أسرة الشيخ سالم، ويردّ المعروف على أهله، وفي حفل زواجه بفاطمة ابنة العم سالم، تظهر أمه من جديد، وفي خاتمة القصة تهيج به ذكرى والده فيقرر قائلاً لزوجه: «هيئي لي يا فاطمة حقائب السفر لأني راحل غداً إلى فلسطين، سأؤلف قصة جديدة، لكني سأكتبها هذه المرة بدماء اليهود».
ومن كتابات عبد الله عبد الجبار تـُذكر مسرحيته (الشياطين الخرس) التي هاجم فيها بجرأة فريدة صفات سيئة كالتعصب والرياء والضعف، وأظهر بها غيرة واضحة على وطنه. وقد جاءت المسرحية في فصل واحد، وتوالت مشاهدها في قوة وروعة وبشـّرتْ بأفكار جديدة، وظهرتْ فيها جلياً نزعة كاتبها وإيمانه بالتطور وبوجوب مسايرة نهج الحضارة ودعوته إلى بعث روح من المثالية الجديدة.
وقد حافظ أديبنا على ألوان شخصيات المسرحية التي تلون بها أبطالها من بدء مسرحيته إلى نهايتها، وجعل لكلّ منهم شخصيته المتميزة وفكره الخاص الذي يعرف به، وتدور الأحداث ضمن مجلس حافل شهده مجتمعون حملوا أفكاراً متصارعة بين الجمود والتعصب والمادية الطاغية من جهة، ومبادئ الإيمان والتقدم والعزة والكرامة من جهة مقابلة في أحداث مثيرة ومؤثرة. ويحاول أديبنا البارع في كتابه القيم (التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية) بقسمـَيه الشعر والنثر استعادة ما اعتلى صدره من الحماسة، وتصدّر بكتابه هذا نظراءه ممـّن سعوا إلى تطوير الوطن، رغم ما ساد آنذاك من عادات وتقاليد أوصدتْ أبواب حركة التحديث، وعمد في كتابه إلى ربط الحالة الأدبية بسياقاتها التاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسية.
ويرى قارئ (التيارات) ما امتاز به كاتبه من امتلاكه مادة ثرية في فلسفتها النظرية وفي وقائعها ونتائجها، وأُفقاً رحباً من الفكر والثقافة والاهتمام بالمجتمع والتاريخ، ومحاربته لظواهر الانغلاق والاستسلام إلى العقل الآلي الذي يفكر في قوالب جامدة عفا عليها الزمن وفرضتـْها ظروف الحياة القاسية في الجزيرة العربية، فحاول بأدبه وجرأته المنهجية تلمـّس سبل النهوض بالثقافة والانطلاق نحو أُفق جديد ورحاب أكثر انفتاحاً وتفاعلاً مع ما يستجد في الساحة، وكان ذلك شرارة التنوير التي أراد بها الأديب إضاءة عتمة منبر الثقافة السائدة، وتحريك أوتار عشق المعرفة بين أفراد المجتمع.
ومن إبداعات عبدالله عبدالجبار نقرأ (قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي) بالاشتراك مع صديقه محمد عبدالمنعم خفاجة، وهو دراسة غنية عن الحجاز، تنمّ عن علم راسخ ومعارف شتى ببيئة الحجاز الطبيعية وأدبها وما أثر فيه من عوامل، وما يخصّ المنطقة من جغرافيا وآثار وثروات وقبائل، والتاريخ السياسي والحياة الاجتماعية والدينية, ثم الشخصيات وفنون النثر والحكم والأمثال والشعر بأنواعه. وأتحف عبدالله المكتبة العربية بكتاب آخر صغير في حجمه كبير في معناه بعنوان: (الغزو الفكري في العالم العربي)، عرض خلاله وسائل المستعمر في تذويب الروح الوطنية والعزة في النفوس، وهجرة العقول نحو بلاد المدنية الحديثة، وختـَم فقـدّم مقترحات للحفاظ على هذه الثروة الإنسانية. ومما يـُظهر منهج عبدالله عبدالجبار التربوي التنويري أيضاً ما نقرؤه من مقدماته التي قدّم بها للعديد من كتب الأدب، ومن ذلك تقديمه لمصطفى السحرتي في كتابه (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث)، وحسين الهراوي في كتابه (المستشرقون والإسلام)، ولإبراهيم فلالي ديوانه (طيور الأبابيل)، ولحامد دمنهوري قصته (ثمن التضحية)، وكان عبد الله يسهب في المقدمة حتى أنّ القارئ يخالها كتاباً أضيف إلى كتاب.
وللأستاذ عبد الله كذلك مقالات عديدة تناولتْ التراجم والنقد والتربية، كما نشر مقالات مترجمة، وخصّ بنتاجه ذلك مجلة الرسالة، وعدداً من المجلات الأخرى في الحجاز ومصر، فضلاً عن مشاركته في مؤتمر الأدباء العرب الذي عقد في بغداد في العام 1965م. ولعبد الجبار أيضاً حضور قوي في فن الرسائل، ومن رسائله التي أظهرتْ حصاد سنين طويلة من التحصيل والخبرة رسالته التي توجّه بها ناصحاً أبناءه الطلبة، ومما جاء فيها: «ولدي، ولستَ على المدى ولدي إذا لم تـُكرم، ولتكن هذه تحية الأب الجامعي القديم لابنه الجامعي الجديد، تحية يمليها الحُب ويزجيها الإخلاص من أبيك وقد رُبـّي على الإباء، ألا يفهم من الجامعة والجامعية إلا أنها الكرامة بأوسع معانيها، كرامة العقل وكرامة النفس، وكرامة الضمير والوجدان»، وأضاف: «وإذا كنتَ ضيق الأفق في الجدل والنقاش، متعصباً لرأيك غير متنازل عنه إذا أبطلتـْه الحجج الدامغة، فاعلم أنك بعيد عن الجامعة».
واستمر نبع عبد الله عبد الجبار نميراً لا ينقطع، حتى مرّتْ سنوات حياته ملأى بالأحداث والفكر وخدمة الوطن، وأمضى ربيع عمره وخريفه بين السطور والمداد، ومع علوّ مكانته الأدبية وغزارة إبداعه المتنوع، إلا أنه جافى الأضواء ولم ينشغل بحبّ الشهرة والظهور، وأبى إلا أن يقدّم عصارة فكره عن طيب خاطر وبصدر رحب، ولم يكن ليسأل عن ذلك أحداً جزاء ولا شكوراً.
وفي عام 1427هـ، استحق أديبنا بجدارة القرار الذي جاء بتكريمه ليكون شخصية العام الثقافية في مهرجان الجنادرية الحادي والعشرين، بعد أن تجاوزتْ سنـّه التسعين عاماً، وحصل على وسام الدرجة الأولى ووسام الملك عبدالعزيز.
إلى الرفيق الأعلى
وفي رابع أيام شهر جمادى الآخرة من سنة 1432هـ، فجعتْ الأوساط الأدبية بغياب أديبنا الجليل، إذ غيـّبه الموت عن عمر ناهز الأربع والتسعين، فانتقل بإذن الله إلى مَـلأ خير من هذا المَلأ ومقام خير من هذا المقام، ووري الثرى في مقبرة المعلاة بعد أن صُـلـّي عليه في المسجد الحرام.
وترك الراحل بغيابه في جدار الأدب العربي فجوة أنـّى لغيره أن يملأها، وغادر دنيانا أديب كالغيث رخاء والشمس عطاء، ورحل واحد من جيل الرواد العظام الذين أسسوا حركة الفكر التنويري والثقافة في الجزيرة العربية، وبرحيله طويتْ صفحة مضيئة من صفحات ثقافة العربية.
وقد رثاه الشريف محمد العربي بأبيات جاء فيها:
ربـــــاه مــــاذا يكتــــــب القــلــم؟ والنفـــس بــالأشجان تـضـطرم
هي عبـرة حرة تفيـض أسىً وبـشكــــرها تتعـــاظم الــنِعـــم
ورحلتَ (عبد الله) في دعــة وضممتَ في حضن الثرى قـِيم
فــــــــبكـــــتْ أفئـــــدة حلــــلتَ بها وعرا المحبة فيها ليس تنفصم