نستطيع أن نقول بثقة إننا نملك ثقافة دينية وربما ثقافة لغوية أو اجتماعية وشيئاً من أحوال العقار والمال، ولكننا بالقطع لا نمتلك ثقافة علمية. نقول هذا بحسرة، ونحن نتسمّى بدين عظيم حثَّ على العلم وطلبه والاستزادة منه حتى ولو كان في الصين.
وليس هناك أقسى من مفارقة أن أسواقنا ومؤسساتنا ومنازلنا تفيض بشتى منتجات العلوم والتقنيات والأدوات والوسائط التي تحرِّك المعامل والمصانع وتلبِّي احتياجات المواطنين، لكننا في الوقت نفسه لا نمتلك ثقافة علمية نتداولها ونتخاطب من خلالها ونفسر ما يحيط بنا من ظواهر ومكتشفات ووسائل عبرها وبطريقتها ومنطقها.
حاول أن تدقّق في الأحاديث التي تتوالى في إحدى الديوانيات أو في المقاهي الشبابية، بل طارد النقاشات التي تجري في (تويتر) أو (الفيسبوك) وستجد أن الغلبة للشؤون السياسية، وما يحتدم في ظلالها من صراعات، ثم تأتي الاستدعاءات الدينية والاجتماعية والثقافية العامة وبعض الثرثرات الشخصية، لكن ستتقلص غالباً المسائل أو الظواهر العلمية أو الشجون التقنية أو فضاءات الاكتشاف والاختراع.
هذه ظاهرة عربية في المجمل، والفوارق إن وجدت بين دولة وأخرى فستكون طفيفة.
أزمة بناء ثقافة علمية تبدأ من الكيانين الأساسيين: الأسرة والمؤسسة التعليمية، فإذا لم تتوافر فيهما الركائز الأساسية لتنشئة جيل يؤمن بالعلم وقيمه وآفاقه والحلول التي يقدِّمها لأزمات الحاضر، فإن أجيالنا الجديدة ستسلك الطرق القديمة نفسها التي سلكناها. بالنسبة لجيلنا فإنني أعترف أن المواد العلمية كانت في الدرك الأسفل من اهتماماتنا، بل وفي ميزان مدرستنا، وأتذكر أن فتح باب مختبر العلوم أمامنا مرة في الأسبوع، في المرحلة الثانوية، كان أصعب من فتح أبواب عكا، وعلى الرغم من الزاد الفقير من الأجهزة والمواد فقد كانت دهشتنا بمزج المواد الكيميائية أو برؤية الجراثيم تحت المكبِّر أو باصطفاف السوائل الملوَّنة هي لحظات لا تُنسى، لكنها مع الأسف لم تقدنا بعد ذلك إلى أية وجهة علمية سديدة.
لم أكن أدرك آنذاك أنني ارتدّيت إلى ما قبل عهد الدولة العباسية، حين كان بلاط عصر المأمون يموج بجمهرة عظيمة من رجال العلم والأدب والشعر والطب والفلسفة، وكان ابن سينا والزهراوي والرازي مثلاً يضعون أسس علم الجراحة في العالم. لن نستفيض أكثر فاستدعاء التاريخ الذهبي للعلوم الآن لا يفيد أحداً، لكننا لو واصلنا كشوفاتهم العلمية تلك لكنا أول من صعد إلى الفضاء بدلاً من الارتياب في وجود كواكب أخرى في هذا الكون.
غياب الثقافة العلمية أو تغييبها هو سؤال قديم وجديد، وقد أثاره عبر السنوات عشرات الكُتَّاب والباحثين، لكنه اليوم يبدو سؤالاً ساخناً بالنظر إلى احتدام العلوم وانفجاراتها الآنية وتوابعها على الأجيال الماثلة أمامها، وربما لهذا السبب، عقدت مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، في منتصف مايو الفائت، مؤتمراً أولاً عن الثقافة العلمية عُرضت من خلاله أبحاث عن أهمية التفاعل بين العلوم الطبيعية والإنسانية والتجارب الريادية في التثقيف العلمي والتحديات التي تقف في طريق الإعلام العلمي ودور الجمعيات والهيئات في نشر الثقافة العلمية. وعلى الرغم من الولادة المتأخرة لمثل هذا المؤتمر الضروري فإن هناك حاجة ماسة ليصبح لقاء سنوياً يتم فيه تداول الشأن العلمي ومعطياته في مجتمعنا واستكمال تمظهراته في مؤسساتنا، والأهم أن يخرج عن سياق المؤتمرات التقليدية فيوجه رسالته إلى المؤسسات المعنية بتداول العلوم كوزارة التربية والتعليم والثقافة والإعلام والتعليم العالي والمعاهد والجامعات وغيرها، وأن يتم استقطاب مجموعات طلابية وشبابية ذكية ونشطة إلى رحاب مثل هذه المؤتمرات وتبسيط الحديث والتواصل معها بل وإشراكها في الإعداد لهذه المؤتمرات، أما الخبر السار الذي مرّ أمام قنواتنا الإعلامية والثقافية دون انتباه فهو صدور النسخة العربية من المجلة العلمية العريقة «نيتشر» بدعم ورعاية المدينة، ويبقى أن تصل فعلاً إلى جمهورها الحقيقي وخاصة أوساط الطلاب والطالبات.
أما السؤال الأخير فهو هل هناك بالفعل تعريف لـ«الثقافة العلمية» التي ننادي بها؟ ألا تكفي كل هذه «الحواسيب» و«الهواتف الذكية» و«الشبكات» التي تسيطر على معظم وقتنا لنكتسب سمة المجتمع العلمي؟. المتخصصون في المعرفة العلمية يؤكدون أننا نبصم بكل ذلك على أننا مستهلكون لا صانعون ولا مستثمرون، لأن ركائز الثقافة العلمية هي المعرفة وأبنيتها، والتقنيات المختلفة وتطبيقاتها، والبحوث والتطوير، والعلم كطريق تفكير وسلوك ونظام حياتي، ولعل الركيزة الأخيرة هي أكثرها صعوبة فليس سهلاً على المنظومات السلوكية والتربوية والقيمية في مجتمعنا أن تتبدل بين يوم وليلة.
يقف العلم اليوم رافداً لكل نشاط إنساني، وبفضل منجزاته تقدَّم النشاط البشري، وتيسرت أساليب التواصل مع العالم، وتراجعت الأمراض والأوبئة والمخاطر. لقد أثبتت الحروب التي وجهت ضد العلم والعلماء عبر التاريخ وحتى اليوم أنها خاسرة وأن منجزات العلم قد صنعت أو ساندت جميع الحضارات المتعاقبة، ولذا فليس من خلاص للعالم العربي من معضلاته الاقتصادية والاجتماعية المستغلقة سوى سلوك هذا الطريق الذي يمكن أن يحمل عالمنا إلى مستقبل مختلف.