مهندسة معمارية سعودية، متخصصة في تاريخ العمارة الإسلامية. اختارت التدريس الجامعي “لتعليم الجيل الجديد كيف يعي قضاياه”. إنها الدكتورة هويدا نواف الحارثي، الأستاذة في الجامعة الأمريكية في بيروت، التي تعرض لنا الزميلة ناجية الحصري جانباً من صورتها الشخصية وآرائها في قضايا التراث المعماري وأطر تحديثه.
لم تتمكن سنوات الغربة عن بلادها من النيل من قناعاتها. فالدكتورة هويدا نواف الحارثي تبدو متصالحة مع نفسها ومع المجتمع من حولها. لم تنتقص الغربة شيئاً من القيم الروحية والثقافية التي شبّت عليها، وعرفت في الوقت نفسه كيف توازن هذه القيم مع التدريس في قاعات الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث يستمع الطلاب يومياً إلى محاضراتها حول التصميم المعماري وتاريخ فن العمارة.
ولا تنفي الدكتورة الحارثي الثمن الذي دفعته لإيجاد هذا التوازن الداخلي في حياتها، التي عاشت بداياتها في مدينة الطائف، حيث تلقت تعليمها حتى الثانوية العامة.
كانت في السابعة عشرة من عمرها حين غادرت المملكة العربية السعودية للدراسة في كلية أوريغون للهندسة المعمارية، حيث نالت شهادة البكالوريوس. ولم تجب هذه الشهادة عن كل أسئلتها، خاصة ذاك السؤال الذي ظلّت تطرحه على نفسها: إذا كانت الهندسة المعمارية نتاجاً حضارياً للشعوب والأمم، فكيف يتفاعل مجتمعنا العربي والإسلامي مع حضارته في هذا المجال؟ وهل أن العمارة فيه تعبر فعلاً عن هذه الحضارة؟
دفعها هذا السؤال إلى الانتقال إلى معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا لدراسة التصميم المعماري في المجتمعات الإسلامية، ونالت من المعهد شهادة الماجستير، ومن ثم إلى جامعة هارفرد المرموقة، حيث حازت درجة الدكتوراه بعد تخصصها في دراسة تاريخ العمارة الإسلامية وتحديداً عصر المماليك في مصر وسورية.
الاستقرار أكاديمياً
بين سنوات الماجستير والدكتوراه، كانت الأستاذة الحارثي قد عادت إلى المملكة لفترة وجيزة، حيث عملت لبعض الوقت في الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، وكانت المرأة الوحيدة في هذا المجال. وبعد حصولها على الدكتوراه ارتأت توظيف علمها وطاقتها في المجال الأكاديمي، وسنحت لها الفرصة في عام 1994م.
كانت الجامعة الأمريكية في بيروت تعيد بناء قدراتها التعليمية بعد الحرب، وتخطط لبناء كلية للفنون الجميلة. ولكن تنفيذ المشروع تأخر، فتحولت الدكتورة الحارثي إلى التعليم في كلية الهندسة المعمارية ولا تزال منذ عام 1997م.
وتأسف الدكتورة الحارثي لعدم وجود اهتمام كاف في الجامعات العربية باختصاص تاريخ العمارة العربية والإسلامية، في حين أنه يوجد في الولايات المتحدة نحو سبعة أقسام جامعية متخصصة في العمارة الإسلامية، غير العدد الكبير من الجامعات التي تضم أقساماً متخصصة في الدراسات الإسلامية والشرقية.
بين الدقة والمرونة
ونتيجة لسنوات الدراسة الطويلة، تكونت لدى الدكتورة الحارثي جملة آراء حول العمارة الإسلامية في البلاد العربية ماضياً وحاضراً. ولعل العنوان العريض لهذه الآراء يكمن في رفض التحجر والانحباس في الماضي، كما ترفض فكرة الانسلاخ عنه.
فما يسمّى بـ “العمارة الإسلامية” هو في نظرها تعبير شامل يضم تاريخاً يمتد من أفريقيا إلى حدود الصين، ويجب أن يُفهم على أنه نتاج حضارات متعددة تعاقبت على المجتمعات وطبعتها بطابعها الخاص، كما تأثرت بأسلوب عيش الشعوب المختلفة في هذه المجتمعات.
تضيف: “العمارة في أي مكان هي جزء من تاريخه وتراثه. لكن هذا لا يعني أن التراث كتلة جامدة، بل متحركة تتغير يومياً. وهي تتحرك إما صعوداً نحو التطور، أو نزولاً نحو الانحطاط. المطلوب منّا تحديث تراثنا، وعلينا أن نعي أن استيراد المفاهيم والمقاييس الغربية من دون الانطلاق من جذورنا يدفعنا إلى إنتاج فني وعمراني مصطنع. فعلينا، كعرب، أن نحرر أنفسنا من نقطة ضعفنا تجاه تراثنا حين نبحث في تطويره لكي يصبح مشابهاً لنا، لا مشابهاً لما هو قائم في أمريكا وأوروبا”.
لكن تحديث التراث يتطلب هوية محددة. والسؤال الذي تعتقد الدكتورة الحارثي أنه مطروح بقوة هو: “من نحن؟ فهناك صراع على الهوية. لقد شهدنا فترة في تاريخنا الحديث حصل فيها تطور سريع، لكنه كان تطوراً غريباً ومتغرباً. علماً أن التطور لا يعني التغريب. والآن هناك العولمة لزيادة الارتباك. فهل العولمة هي مظلة اقتصادية أم ثقافية؟ وأين موقعنا منها؟ إن هذا السؤال ليس مطروحاً عند العرب وحدهم، بل أيضاً في مجتعات مختلفة خارج أوروبا الغربية وأمريكا، كاليابان مثلاً”.
وتستدرك الدكتورة الحارثي بالإشارة إلى أن الأمر ليس سلبياً إلى الحد الذي يعتقده البعض. “إنه جزء من التغيير الذي تمر به المجتمعات، ومرّت به في عصور سابقة مختلفة، متأثرة بالحروب والنزوح وتشكيل الامبراطوريات عبر التاريخ. وتضرب مثالاً على ذلك العمارة العثمانية التي لم تنشأ بمعزل عمّا هو حولها. فحين احتلّ العثمانيون اسطنبول كان للمدينة تراث بيزنطي قديم. وحين أرادوا للمدينة أن تمثل ثقافتهم استعانوا بفنانين من مصر وإيطاليا وآسيا. فحصل مزيج من الفنون تكرّس في السنوات الأولى لنشأة الامبراطورية العثمانية، ثم تميّز بشخصية مستقلة استمرّت لأربعة قرون، وصار يعرف بفن العمارة العثماني. وصار الآخرون من بعدهم يتأثرون بهذا الفن ويضيفون إليه من منظوم حضارتهم. وهكذا فإن فن العمارة هو عبارة عن تداخل ثقافي.
وتبدي الدكتورة الحارثي ثقتها بديمومة تراثنا العربي والإسلامي قائلة: “أنا لا أخاف على جذورنا العربية من الاندثار، طالما أن للإنسان العربي عقيدته وشخصيته. فالإنسان مرتبط بماضيه. قد يبتعد عنه، ولكن لا يمكنه الانفصال عنه نهائياً”. ولذا، فهي تعتقد “أن ما نعيشه اليوم من ابتعاد عن تراثنا هو حال مؤقتة لا يمكنها أن تستمر. فالعولمة أوجدت رد فعل عكسياً، وجعلت الكثيرين أينما كانوا في العالم يتمسكون بتراثهم أكثر فأكثر، وهذا ما أوجد بدوره مشكلة جديدة. فليس المطلوب أن نتحجر في القرون الماضية، ولا أن نقلد غيرنا من باب ادعاء التطور والحداثة، بل أن ننظر إلى داخلنا ونحدد من نحن وما هو موقعنا من التحديات المطروحة. فالهروب من السؤال يقودنا إما إلى غيرنا، وإما إلى السجن ضمن “كليشيهات”، وفي الحالتين لن نصل إلى أي مكان.!
أخيراً، حول ما تقوم به الدكتورة الحارثي من خلال التعليم وما تتوخاه منه، تقول: “إنه تدريب الجيل الجديد على أن يعي قضاياه، وأن ينظر إلى الأمور نظرة نافذة، فنحن لا نملك الأجوبة، إنما نضع الطلاب على المسار ليحترموا أنفسهم، وإلا طغت فكرة الآخر عنّا، الفكرة البارزة في الطريقة التي يعاملنا بها، ويجعلنا من خلالها نفقد احترامنا لأنفسنا”.