على الرغم من كل الانتقادات الموجهة إليه، لم يفقد التلفزيون شيئاً من قدرته على جذب المشاهدين، حتى أن بعضهم لا يستطيع أن يفلت من القيد الذي يشده إلى الشاشة الصغيرة.
الزميل كميل حوّا يحدثنا هنا عن الظاهرة التي باتت تجد من يصنفها على أنها نوع من أنواع الإدمان، بينما يحدثنا الزميل خالد الطويلي عن نوعية جديدة من البرامج تزيد من جذب التلفزيون للمشاهدين.
1
…على حساب الثقافة والحياة الشخصية
كميل حوّا
يحتل التلفزيون مساحة تفوق بكثير ما يجوز له أن يحتل من ساعات يوم واحد من حياتنا، لا بل إنه يحتل كل ساعات البعض منّا خارج العمل والنوم. إنه الجليس الذي لا يصمت في قاعة الجلوس. ويعيق تبادل الأحاديث بين الأهل والأصدقاء، أو قراءة الكتاب أو الجريدة أو سماع الراديو، زميله المضطهد، فيملأ جو الغرفة بضوضاء تحول حتى بين الإنسان وأبسط حاجاته كالتأمل والتفكير.
الإدمان التلفزيوني
تزداد الحملات ضد التلفزيون هذه الأيام، ويعود بعضها في الأساس إلى شكاوى الناس المعروفة من أثره السلبي في الحياة العائلية ككل، لكن كثيراً منها يعود إلى دراسات علمية مختلفة تُوجه إلى هذا الجهاز شتى أنواع التهم، التي ليس أقلها اتهامه بالتسبب في نوع من الإدمان وتحميله مسؤولية ارتفاع نسبة السمنة لدى الأولاد.!
بدأت في الولايات المتحدة منذ سنين عديدة حملة عنوانها “أسبوع بلا تلفزيون” تحت شعار “أطفئوا التلفزيون وأشعلوا الحياة”. وانطوت الدعوة على حملة لتحرير الناس من روتين المشاهدة التلفزيونية المستمرة، التي لا تخلو من انعكاسات سلبية عديدة على حياة العائلات وحياة كل فرد على حدة. وتقوم فكرة هذه الحملة على أن التوقف أسبوعاً واحداً عن المشاهدة التلفزيونية يفسح المجال للناس ليتذكروا وسائل التسلية والفائدة الأخرى أو يعيدوا اكتشافها بشكل أدق. كما نشرت مجلة “مايند” العلمية الأميريكية مقالة حول الإدمان التلفزيوني تبدأ بعبارة “اقتل جهازك!”. وتقول هذه المقالة، نقلاً عن عدد كبير من علماء النفس، أن المشاهدة التلفزيونية لفترات طويلة أصبحت اليوم ضرباً من ضروب الإدمان لا بد من مقاومته والحد منه، أكثر من أي وقت مضى.
لم يرقَ تعبير “الإدمان التلفزيوني” إلى مستوى التعبير العلمي حتى الآن. ولا نتوقع أن نجد في القريب العاجل على صناديق التلفزيونات عبارة تقول “التلفزيون مادة تؤدي إلى الإدمان، وتخفض مستوى التركيز الذهني، واليقظة والاستمتاع بالحياة”. إلا أن هذا لا ينفي اتفاق علماء النفس على أن الكثير من مظاهر الإدمان التلفزيوني تشبه مظاهر إدمان أية مادة ذات عوارض إدمانية معروفة كالنيكوتين أو الكافيين أو غيرهما.
وتشمل مظاهر الإدمان بشكل عام المعايير الآتية:
استخدام المادة لساعات طويلة واللجوء إليها بشكل لا إرادي، وعدم القدرة على الحد من استخدامها، حتى ولو كانت هناك نية بذلك.
همال واجبات أسرية واجتماعية ومهنية.
التعرض في حالة التوقف عن استخدامها لضيق يشبه ما يتعرض له الذين توقفوا عن أي إدمان كان.
تنطبق كل هذه الظواهر، من دون استثناء، على الذين يمضون أوقاتاً طويلة في المشاهدة التلفزيونية. وقد أظهرت دراسات أجريت على عدد من الذين يطلقون على أنفسهم صفة “مدمني التلفزيون” أنهم فعلاً يعانون من عوارض ما هو معروف بـ”وحمة الإدمان” كلما حاولوا التوقف عن المشاهدة.
وكل من واظب على مشاهدة التلفزيون لساعات طويلة لأيام متلاحقة مهما قصرت لا بد أن يشعر بهذا “الأثر الإدماني” ولو بدرجات متفاوتة. وإذا كان “الإدمان” نوعاً من الميل المكتسب لحواس الإنسان نحو تلقّي مادة ما من أجل تكرار إحساس تعودته وألفته، فلا شك في أن المشاهدة التلفزيونية تخلق مثل هذا الميل. وكلما أوغل الإنسان في المشاهدة التلفزيونية استسلم لها وتبلدت مشاعره، وتلاشت قدرته على الخروج من “صندوق الفرجة” هذا، وتناقصت معاييره في ما الذي يحب أن يشاهده وما لا يحب، وتصبح عنده الصورة المتحركة بأي شيء هي كل شيء. وهذا ضرب من التخدير بلا شك. وكم يشبه هذا الاستسلام للشاشة، انجذاب أنواع من الذباب إلى مصادر الضوء، لا تبتعد عنه حتى لو أحرقها.!
إن المشاهدة التلفزيونية البليدة وغير الانتقائية والممتدة لساعات لا تنتهي إلا بالنوم التلقائي تؤدي إلى خمول ذهني وحسي وتهبط بأية قدرات إرادية أو تفاعلية أو إبداعية إلى الحضيض، وتشكل من دون وعي حالة انقطاع اجتماعي شبه تام يصيب الحياة العائلية نفسها بالشلل.
التلفزيون والسمنة
وهذا النوع من المشاهدة التلفزيونية، بما فيه من انقطاع عن الحياة الاجتماعية والحركة والرياضة، يترافق عادة مع تناول وجبات غذاء و”أطعمة مسلية” غير صحية. وقد أصبحت صورة الولد السمين الجالس وحده أمام جهاز التلفزيون يملأ فمه بالبطاطس المقرمشة ويشرب المرطبات الغازية صورة راسخة في الأذهان. وقد نشرت في مجلة “لانست” الطبية دراسة إحصائية تؤكد وجود علاقة ثابتة بين المشاهدة التلفزيونية الطويلة في سنين الطفولة والسمنة، وأيضاً ارتفاع نسبة الكولسترول ونسبة التدخين والإصابة بالأزمات القلبية. وتشير هذه الدراسة كذلك إلى أن ما يتعرض له هؤلاء الأطفال من إعلانات كثيفة للوجبات السريعة تشكل بذاتها مصدراً إضافياً يزيد من استهلاكهم للسعرات الحرارية.
الكثير أخ القليل
وإذا كانت الحملات الأساسية على المشاهدة التلفزيونية تتناول قضايا كالإدمان التلفزيوني وأثره في حياة الفرد والعائلة بما في ذلك موضوعات مثل السمنة، وكذلك تشجيع العنف وغيرها، فإن هناك تململاً من التلفزيون يتناول نواحيَ أخرى مختلفة تماماً.
فالناس هذه الأيام يزدادون ضيقاً من فقر المادة التلفزيونية كلما ازداد عدد المحطات التي توفرها لهم صحون الالتقاط! وأخذ الكثيرون في مختلف أنحاء العالم، يعبرون عن تبرمهم بجملة واحدة: “تجلس أمام جهاز التلفزيون وفي يدك جهاز التحكم وتقلّب مئات المحطات من دون أن تجد برنامجاً واحداً يستحق فعلاً المشاهدة”. ويستغرب المرء كيف أنه حين كان عدد المحطات أقل بكثير، كانت هناك برامج وطنية وأجنبية أجمل وأكثر إفادة وارتباطاً حقيقياً بالحياة. ولا يكاد يفقه أحدنا ما يبرر هذا “الانفلاش المحطاتي” إذا جاز التعبير، المصحوب بهذا الشح في البرامج! عرضٌ أكثر بكثير من حاجة الناس كماً، وعرضٌ أقل بكثير من حاجة الناس نوعاً.
مزيد من الإفقار
أدى الهبوط العام في مستوى البرامج، خاصة في التلفزيونات العربية إلى عزوف قلة قليلة عن المشاهدة التلفزيونية كلياً أو جزئياً. وأخذ بعضهم يقصر مشاهدته على برامج الأخبار أو ذات البعد الإخباري، لكنه أدى لدى الكثرة المتابِعَة للمشاهدة الكثيفة من جهة أخرى إلى هبوط عام في مقاييس الحكم على البرامج وغدا الناس يرضون بما هو متوافر ما دام يؤدي إلى نوع ما من التسلية وتمضية الوقت. الأمر الذي يؤدي بالتالي إلى هبوط واسع الانتشار في المستوى الثقافي للناس ينتج عنه إفقار للمناخ الاجتماعي العام في المعارف والأفكار والأحلام.
والإفقار يؤدي إلى مزيد من الإفقار. فبيئة اجتماعية هبطت مقاييسها في الحكم وازدادت ضحالة الأفكار الرائجة في صفوفها تنعكس بدورها على الأداء التلفزيوني، فما هو مصدر أي إنتاج تلفزيوني أياً كان إن لم يكن من هذه البيئة نفسها؟
ومن ظواهر هذا الفقر بلا شك توجه المحطات التلفزيونية في الوطن العربي وأنحاء أخرى من العالم إلى اقتراض الأفكار بعضها من بعض، واقتراض البرامج الجاهزة كالوجبات الجاهزة تماماً.. إنها خالية من أية سمات ثقافية وأية نكهة حقيقية.
إقرأ!
المشاهدة التلفزيونية التي يختار المشاهد معها البرنامج الذي يود رؤيته، سواء أكان برنامجاً إخبارياً أم ثقافياً أم فنياً أم رياضياً أم غير ذلك تقع بلا شك في خانة السلوى البريئة والثقافة العامة المطلوبة. وهي تقارن بطبيعة الحال مع أي نشاط ثقافي كالقراءة أو سماع محاضرة أو مشاهدة مسرحية أو غيرها. وخلال هذه المشاهدة يكون ذهن المشاهد حياً متفاعلاً مع الذي يجري، مستمتعاً، مقيّماً، معترضاً، موافقاً، متحمساً، محاوراً. وذلك على عكس المشاهدة التلفزيونية الأخرى، الأكثر شيوعاً بين الناس، سواء وصلت إلى درجات الإدمان أم لم تصل.
فقد أدت المشاهدة التلفزيونية الروتينية في المنازل إلى هبوط كبير في نسبة القراءة. وتتزايد الكتابات في الغرب، وفي الولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأولى، التي تنبه إلى هذه الظاهرة المتعاظمة. وقد أثبتت دراسات حديثة أن هناك تدنياً واضحاً في نسبة القراءة في الولايات المتحدة وعزت أحد أسباب ذلك إلى انتشار هذا النوع “غير الانتقائي” من المشاهدة التلفزيونية، واعتبرت الدراسة هذه الظاهرة ظاهرة تراجع عام في المجتمع الأمريكي مقارنة بالمجتمعات الأخرى التي تتقدم نسبة القراءة فيها.
وواقع الأمر هو أن الناس لكثرة تعودهم النظر إلى الشاشة التلفزيونية، تضاف إليها كذلك شاشة الكومبيوتر، جافوا صفحة الكتاب. حتى تجد بعض الناس ينظرون إلى الورقة المطبوعة في كتاب كانت أم في صحيفة وكأنها ورقة بردي عليها كتابات فرعونية. وغدا الذين لا يمارسون القراءة يجدون صعوبة أكبر في فتح كتاب أو مجلة للقراءة. أو حتى صحيفة مع أن الأخيرة ما زالت أكثر قدرة على المقاومة.
تجاوز الفرحة الأولى
ربما يعود بعض التعلق بالجهاز إلى الصدمة السعيدة الأولى، أي إلى ساعة مشاهدة التلفزيون للمرة الأولى التي خلقت فرحة وحماسة للمتحلقين المندهشين أمام هذا الجهاز وكأنهم لا يصدقون ما يرونه. وليس غريباً على المجتمع الإنساني أن يستمر في ملاحقة متعة عرفها مرّة سعياً وراء تكرارها ولو خابت آماله جزئياً أو كلياً. خاصة أن التلفزيون يعطي الناس بعض ما يرغبون ويحبون من الأخبار إلى الرياضة إلى المسلسلات الاجتماعية إلى غيرها، فيجتمع رضا الحد الأدنى مع التعلق القديم ليحافظ على هذه المواظبة التلفزيونية العامة.
لكن إذا كانت هناك كلمة سر لكثرة المشاهدة التلفزيونية فهي بلا ريب: السهولة! كبسة زر واحدة أو اثنتين على الأكثر وتنفتح أمامك نافذة العالم تذهب بها يساراً ويميناً شمالاً وجنوباً. فالتسلية السهلة ملك يديك.. وأية تسلية أخرى تحتاج إلى جهد كما تحتاج إلى اختيار وقرار ومبادرة. وسهولة الحصول على الأشياء من متطلبات هذا العصر السهل – الصعب. والإنسان الذي يعاني أي نوع من الوحدة أو الضيق مهما كان مصدره ومهما كانت شدته يجد في هذا الجهاز ملاذاً سهلاً يغنيه عن أي عناء أو تفكير.. ولساعات لا تنتهي.!
ولكن هذه السهولة وما تمهد له من تعود مُقعد عن أي نشاط آخر، اجتماعي أو عائلي أو ثقافي، لها ثمن غال.
لقد آن الأوان لأن يتحرر الناس من وقع فرحة التلفزيون الأولى ويعترفوا بأنه لم يعد في الجهاز مفاجأة تذكر. وأن ينظروا بتفحص جديد إلى ما الذي يستحق المشاهدة وما الذي لا يستحق أن يصرف فيه الوقت الثمين. وهذا الاختيار لا يؤدي فقط إلى إنقاذ ساعات تهدر عبثاً من كل يوم من أيام حياتهم، بل يعطي البرنامج الذي يختارونه قيمة أكبر في نفوسهم ويجعله أكثر إقناعاً. والحد من المشاهدة التلفزيونية ليس بالصعوبة التي قد يتوقعها البعض. وكثيراً ما قرر الناس الحد من بعض أنواع التعود التي كادت تودي بحياتهم بما فيها سماع الراديو مثلاً أو حتى الجلوس الطويل في المقاهي بلا هدف.
وبذلك يفسحون المجال أمام أنشطة أخرى مهمة في حياتهم ليس أقلها القراءة وتمضية أوقات أكثر مع الأهل والأصدقاء أو الالتفات إلى هواية أو رياضة فيهما صحة أو فائدة أو الاثنتين معاً.
سيّد الجالسين!
ولو وضعنا جميع أسباب هذه الغلبة للمشاهدة التلفزيونية على أي نشاط آخر في حياتنا جانباً، لوجدنا سبباً عرضياً واحداً قد يفوق جميع الأسباب الأخرى على بلاغتها في إفساح المجال لهذا الجهاز لأن يتبوأ هذه المكانة في حياتنا، وهو موقع التلفزيون في غرفة الجلوس، حيث يقبع مواجهاً حلقة المقاعد مطلاً عليها من مركز عال فلا يفلت من إشعاعاته أحدها. فمجرد وجوده مغرٍ للتشغيل، ومجرد تشغيله مغرٍ للمشاهدة.. مهما كان موضوع الصورة المتحركة المحدثة لكل هذه الضوضاء: أخبار، ندوة، مقابلة، فيلم، مسلسل، مسابقة، أو أي من برامج التسلية. أنت جالس وهو مضاء، إذن أنت مشاهد شئت أم لم تشأ. وإنقاذ نفسك هو إما في مغادرة الغرفة وإما بالإمساك بـ “الريموت” وإطفاء الجهاز… تشعر أحياناً أنك تريد أن تخرسه لا أن تسكته فقط!
وتصبح الانتقائية في اختيار البرامج أكثر ضرورة إذا ما تعذر وجود غرفة أو ركن خاص للمشاهدة التلفزيونية. واكتساب عادة إضاءة الجهاز في حال وجود برنامج نرغب بمشاهدته وإطفائه خلاف ذلك يعيد بلا شك التوازن إلى جو غرفة الجلوس في المنزل، بل وإلى الحياة الأسرية عموماً. ومن أهم صفات هذا التوازن الالتفات إلى وسائل الثقافة الأخرى وإعادتها إلى صلب الحياة اليومية وأهمها قراءة الكتاب. دون أن نغفل هنا عن ذكر الراديو الذي سوف يفاجأ من يعودون لسماع برامجه بوجود برامج “سمعية” لا تقل، بل تزيد إمتاعاً وفائدة عن البرامج التلفزيونية. الراديو ذاته يستطيع أن يستقبل أصنافاً من البرامج الثقافية لا يستقبلها التلفزيون لأسباب عديدة منها ارتفاع تكلفة إنتاجها تلفزيونياً ومنها أحياناً استحالة ذلك لاختلاف نمط البرنامج التلفزيوني وطبيعة تناوله للمواضيع. وهذا بحث يطول.
إلا أن الراديو الذي لولا سماعه في السيارة، حيث لم يستطع التلفزيون منافسته إلا بحدود ضيقة، لكان قد أصبح منسياً بالكامل تقريباً، أخذ يستعيد بعضاً من حظوته في الاهتمام العام. وتحدثت بعض الصحف الأوروبية أخيراً عن مثل هذه العودة، حيث أخذت برامج إذاعية تحظى بشعبية لم تحظ بمثلها لسنوات طويلة.
حين ظهر التلفزيون نظر إليه الناس على أنه راديو بصورة، وثبت مع الأيام أنه ليس كذلك بل هو وسيلة مختلفة بآفاق وباستخدامات خاصة بها. وسماع أشياء على الراديو له وقع مختلف وأغنى أحياناً من سماعه ومشاهدته. بما في ذلك بعض المسرحيات التي يعطيك الراديو فيها فسحة كبيرة للخيال.
وحين ظهر التلفزيون أيضاً ظنّ الناس أن هذا سوف يقضي على السينما وثبت مع الوقت أن السينما أثبتت حقها في الاستمرار مع أنها تعرضت في فترة ما لانتكاسة.
قبل ذلك حين انتشر الراديو كان تركيز الناس منصباً على الجريدة، والجريدة استمرت رغم الراديو ورغم التلفزيون. كذلك الكتاب فقد استمر بدوره رغم توفر جميع الوسائل الأخرى. وأخيراً مع انتشار الكومبيوتر والإنترنت خاف الناس على هذه جميعاً. لكن هذا الخوف أخذ بدوره بالانحسار.
ابتكرت الإنسانية ولا تزال تبتكر الوسيلة تلو الأخرى في سعيها إلى توسيع وسائل نشر المعرفة، ولكل وسيلة من هذه الوسائل بذارها في الشكل أو المضمون، وفي شكل تلقي الإنسان لما تقدمه أو حتى في مضمونه. وعلى الرغم من قدرة المضامين المختلفة في كثير من الأحيان على التأقلم مع كل وسيلة من الوسائل إلا أن للوسيلة أثراً أكيداً في الوقع الذي يصل هذا المضمون عبره. وقد راجت منذ نحو ثلاثة عقود نظرية تقول بوحدة الوسيلة والمضمون، بمعنى غلبة شخصية الوسيلة على مضمون الرسالة التي تحملها مهما كان هذا المضمون. فالقول الذي تقرأه في جريدة غير الذي تسمعه في الراديو أو الذي يصلك عبر التلفزيون يختلف حتى لو تطابق في الأصل. يختلف في مدى وشكل تأثيره في المتلقي. ولو أخذ على هذه النظرية شيء من المغالاة إلا أن فيها شيئاً من الصحة كذلك!
إن التحرر من الإدمان التلفزيوني لا يقي الإنسان آثاراً سلبية على نفسه وجسده فقط، بل يؤدي بالدرجة الأولى إلى إعادة التوازن إلى حياته واستعادة فرصة الاستفادة من كل الوسائل الثرية والمختلفة التي توفرها له الحياة الإنسانية المعاصرة.
أطفئ التلفزيون.. تناول جريدة.. افتح كتاباً.. استمع إلى الراديو.. تحدث مع جليس.. شغّل التلفزيون.. لا بأس!
2
الواقع على الشاشة
خالد الطويلي
كانت مطاردة الشرطة للرياضي والممثل المشهور أوجي سيمبسون في شوارع لوس أنجليس بعد مقتل زوجته من أكثر الأحداث التي تابعها الجمهور الأمريكي في تلك السنة. وقد نقلت أحداثها كاميرا محمولة على طائرة مروحية تتابع السباق بين سيمبسون ومطارديه على الهواء مباشرة. ولكن المئات من المشاهد المماثلة للمطاردات البوليسية في المسلسلات والأفلام لم تحظَ بالاهتمام نفسه، ويبدو أنها لن تحظى بذلك. ماجرى بين سيمبسون الممثل، والشرطة كانت نتائجه غير محسوبة أو محسومة، وكان هذه المرة أمراً حقيقياً وليس دوراً تم الإعداد له …أي بمعنى آخر كان مشهداً تلفزيونياً، ولكنه كان ينقل الواقع.
إن ما يعرف اليوم بتلفزيون الواقع مثل برامج صنع النجومية من “سوبر ستار” إلى “أكاديمية النجوم” و “الأخ الأكبر” أو “الرئيس” كما اتفق على تسميته العربية، صار من بين أكثر البرامج التلفزيونية شعبية لدى الجماهير في العالم العربي وخارجه، خاصة في صفوف الشباب والمراهقين، وذلك للسبب نفسه الذي تابع من أجله ملايين الأمريكيين مطاردة سيمبسون، ربما لأسباب أخرى لن يكون حب الاستطلاع و”التلصص” أقلها أهمية. ويبدو من الواضح لدى كثير من المحللين أن هذه البرامج جزء من مفهوم العولمة الثقافية التي تأثر بها العالم كله. فهي برامج، كما هي حال برامج المسابقات الثقافية، نشاهد نحن نسخها العربية فيما تتابع أوروبا وأمريكا نسخاً مطابقة لها بلغاتها.
من الكاميرا الخفية إلى “الرئيس”
تلفزيون الواقع بتعريفه البسيط، هو أمر قديم متجدد، فبرنامج “الكاميرا الخفية” كان من بين أوائل البرامج التي حملت هذه الفكرة. وقد لقي نجاحاً في كل مكان، وبأية صيغة عرض. ولا بد أن المنتجين لاحظوا أن هذه النوعية من البرامج التي تنقل للمشاهد وقائع مختلفة بين شخصيات حقيقية وفي ظروف واقعية ومن دون إعداد مسبق لنص أو سيناريو، تحظى بجماهيرية كبيرة.
خرجت الشركات المنتجة ببرامج متتابعة تعتمد بشكل كبير على فكرة تلفزيون الواقع، فشاهدنا برامج من قبيل عرض الأخطاء التي يقع فيها الممثلون ومقدمو نشرات الأخبار أثناء عملهم، وبرامج التصوير الهاوي التي تنقل مواقف مضحكة أو مثيرة التقطها هواة بكاميراتهم الشخصية. وبعدما بدا أن فكرة كاميرات الهواة قد استنفدت ما لديها من طرح، انطلق المنتجون نحو زرع كاميرات برامجهم بين رجال الشرطة لنقل عمليات تعقب المطلوبين، على نمط مطاردة سيمبسون، حيث يرى المشاهد مناظر واقعية لعمليات دهم منازل المطلوبين واعتقالهم، وأحياناً قتلهم من دون تمثيل أو اصطناع.!!
وبرنامج “الكاميرا الخفية” الذي لا يزال ينتج إلى اليوم حول العالم بأساليب وتسميات مختلفة كان من أوائل البرامج التي وصلت إلى الشاشات العربية من أفكار التلفزيون الواقعي وأنتجت محلياً. ولم يكن بوسع العالم العربي إنتاج تلفزيون واقع يسجل عمليات الدهم والاعتقال أو المطاردات الساخنة، فانتظر حتى وصلت الصيغة الجديدة من هذه البرامج لتنتج عربياً بعد نجاح عارم لاقته في أوروبا وأمريكا.
تلفزيون الواقع بصيغته الجديدة، يذهب أبعد قليلاً من انتظار الصدفة أو زرع الكاميرا في مكان الحدث، إلى صنع الحدث نفسه وتعريض الناس له، ليتمكن المشاهد من أن يعيش معهم طوال الفترة، ويتعرف إليهم وإلى قدراتهم وردود أفعالهم التي يفترض أن تكون طبيعية واقعية.
كان أول نجاح لهذه الفكرة مع برنامج أطلق عليه اسم “سرفايفر”. وتقوم فكرته على أن تؤخذ مجموعة من الناس ليعيشوا في ظروف صعبة للغاية على جزيرة غير مأهولة تتابعهم الكاميرات على مدار الساعة. وبعد ذلك تطورت الأفكار إلى الدخول إلى أكاديميات صناعة النجوم، أو العيش داخل بيت “الرئيس”.
دونالد ترمب، أكبر تاجر عقارات في مدينة نيويورك، هو قصة نجاح متميزة يستغلها اليوم بالمشاركة في إنتاج برنامج تلفزيون واقعي يدّعي أنه سيخرِّج نجوماً في المال والأعمال بدلاً من عالم الاستعراض الذي ينتظر خريجي البرامج الأخرى. فيقوم خلال البرنامج بتعريض مجموعة من الشباب الطموح إلى مواقف وظروف وتحديات واقعية في أسواق العمل، تختبر وتقيّم مقومات النجاح والتميز لديهم من وجهة نظر “ترمب”. وعلى ضوء أدائهم، وفي كل حلقة يفصل من أخفق ويشجع من يستمر حتى يبقى واحد يكون خليفة ترمب المحتمل.!
النجوم أغلى
وللمشاهير صيت أقوى حين يشاركون في هذا النوع من التلفزيون لأن المشاهد يرى شخصيات يعرفها لكنه يشاهدها على “حقيقتها” للمرة الأولى. وإن كان ترمب وحده في برنامجه، فإن شركة إنتاج إيطالية جلبت مجموعة من أكبر نجوم إيطاليا ووضعتهم على جزيرة غير مأهولة ونقلت لمشاهديها حياتهم في فنون البقاء على قيد الحياة طوال أشهر متتالية.
والواقع في تلفزيون الواقع العربي هو أن انتشاره ومتابعته لم تصل بعد إلى الحد الذي وصلت إليه متابعة البرامج نفسها في أوروبا. فهناك تحفل الصحف اليومية بآخر ما حدث داخل هذه البرامج، وتتابع تطور العلاقات بين المشاركين، وتقوم بمقابلة أقربائهم وأصدقائهم خارج مواقع التصوير، في حين أن نشرات الأخبار التلفزيونية في إيطاليا تنقل أهم مستجدات المشاركين بين أخبارها. وعندما يخرجون من البرنامج يتم توظيف شعبيتهم مباشرة في برامج أخرى، أو يدخلون ميادين أخرى من عوالم النجومية مثل التمثيل أو الغناء وربما الأعمال.
إن المردود المادي على منتجي هذه البرامج يبرر بقاءها على الهواء بالنسبة لهم. فإضافة إلى مداخيلها من الإعلانات، تعتمد هذه البرامج إجمالاً على مداخيل المكالمات الهاتفية التي تستقبلها لتسجيل تصويت المشاهدين ومشاركتهم لمساندة صاحب الحظ من المشتركين ليتحدد بقاؤه أو مغادرته. ولكن هذا ليس المردود الوحيد، فهناك من يجادل بخصوص المردود الاجتماعي والأخلاقي الذي يترتب على دخول مثل هذه البرامج إلى البيت العربي، فيما ينصرف آخرون إلى الدعوة للاستفادة من دراسة هؤلاء الشباب الذين أصبحوا يشكلون الرقم الصعب في بنية المجتمع العربي، وأساليب تفكيرهم واتساع آفاقهم، فهي فرصة نادرة لمشاهدة جزء مهم من الواقع العربي الجديد.
ومثل قصة البيضة والدجاجة تبدأ قصة تلفزيون الواقع والمجتمع وأيهما يؤثر في الآخر ولا تنتهي. فالبعض يعزو الكثير من الأمراض الاجتماعية إلى تأثير التلفزيون وما يعرض فيه من هذه الصنوف، خاصة بعد إدمانه من قبل المشاهد الذي بات يقضي أوقاتاً أكثر أمام شاشاته من أي زمن مضى، في حين أن المدافعين عنه يقولون إن التلفزيون هو انعكاس للمجتمع وامتداد له يتأثر بما يعرض فيه بالمجتمع ورغباته وتطلعاته، فلا ينجح منه إلا ما يحوز على متابعة كبيرة من المشاهدين.
والحقيقة هي في مكان ما بين النظريتين، وفي الوقت الذي يجادل كل من منطلقاته الفكرية والأخلاقية، تظل فئة كبيرة من الشباب والشابات في المجتمع العربي تقضي وقتها أمام التلفزيون في البيت أو المقهى بعيداً عن “الواقع” الذي تنقله نشرات الأخبار وأقرب من “الواقع” الأكثر مرحاً وتسلية. ويتبعهم هذا الاهتمام إلى البيت والمدرسة وعلى الهاتف بين الأصدقاء والصديقات. فتجد الحوار حول مستجدات تلفزيون الواقع وأبطاله متداولة باستمرار على ألسنة الطلبة والطالبات بطريقة لافتة لمعلميهم وذويهم. وبدأت تلك الأخبار تتسلل إلى الصفحات الفنية في الصحف اليومية لتعكس مدى الاهتمام العام بها. والمؤكد هو أن الأرقام التي يتم رصدها لأعداد المتصلين بهذه البرامج تثير غبطة المنتجين وخيالهم بقدر ما تثير سخط المحتجين وغضبهم. ويبقى الواقع واقعاً..!