قول في مقال

سر الحمراء ..وسـحر الشـرق

  • 18

قصر الحمراء ليس مجرد قصر بل قلعة مترامية الأطراف عالية الأسوار تضم عدداً كبيراً من المباني.. لكنك لا تشعر وأنت تغادره أنك زرت قصراً لسلطان أو أمير حرب.. بل مكان بناه صاحبه للتأمل والحلم. على غلاف الكتاب الجديد للمؤلف البريطاني روبرت أروين نقرأ: “إن قصر الحمراء في مبانيه الأساسية لم يصممه مهندسو عمارة وإنما فلاسفة وشعراء”.

وأروين المستعرب، صاحب المؤلفات العديدة في التراث العربي والفن الإسلامي، يختم كتابه “الحمراء” بلائحة طويلة من المراجع تناولت هذا القصر، وتبدو حسب شروحاته كتباً أجاد أصحابها في تناول الموضوع تاريخاً وبناء وفناً.. فما الجدوى إذن من كتاب آخر حول الحمراء؟ وهل من تفسير لذلك سوى التحدي الذي لا ينفك قصر الحمراء يطرحه أمام عشاقه، مولداً فيهم شغفاً لا يهدأ وإلحاحاً لا يستكين لمعرفة سر جماله وسحره؟ ورغم استعانته بكل تلك المراجع والأبحاث فإن أروين لم يستطع أن يتوصل إلى دلائل قاطعة جديدة حول تاريخ القصر وبنائه. ويعترف في أكثر من مكان أنه في سعيه إلى رسم صورة واضحة لهذا التاريخ، لم يجد بين يديه كتلة شائكة من الحقائق يفندها ويعيد ترتيبها، بل كتلة شائكة من الافتراضات.

إن أهم ما في بحثه هو العثور في كتابات الفلاسفة والشعراء الأندلسيين، خاصة أولئك الذين كان لهم أثر ومكانة في تلك الحقبة مثل ابن الخطيب، على أقوال تشير إلى صلتهم المباشرة في رسم ملامح القصر. إضافة إلى عدم وجود أي أثر لخرائط معمارية استخدمت في بناء القصور، يمكن الاستدلال بها على ما كان يجول في خاطر المصممين.

إن قصر الحمراء هو القصر العربي الوحيد الباقي لنا، سواء أكان من الأندلس أم من أية حقبة سابقة. وهذه حقيقة معروفة لكنها لا تزال تثير حيرتنا. فأين قصور كل الحقب العربية الأخرى، التي لو بقى أي منها لكان فهم مزايا قصرنا الجميل اليتيم أسهل، علماً بأن المساجد البديعة بقيت تساعد على ذلك بسبب الملامح الرئيسة المشتركة في العمارة الإسلامية. وأقرب هذه المساجد إلى الحمراء بطبيعة الحال مسجد قرطبة ذاته والذي لا يقل فرادة ولا روعة عن القصر.

ويروي الكتاب أن شارل الخامس، أحد ملوك إسبانيا، والذي قاد حملة لمحو آثار الإسلام هناك، كان مولعاً بالعمارة الأندلسية. فحين شاهد كنيسة صغيرة أقحمها الرهبان داخل مسجد قرطبة خاطبهم قائلاً: “لقد بنيتم ما يمكن أن يبنيه أنتم أو سواكم في أي مكان، لكنكم أتلفتم ما هو فريد في العالم”. ثم سكن الحمراء مدة مع عروسه لقضاء شهر العسل وقال يوماً وهو يجوب القصر متأملاً: “لو كان هو أنا أو كنت أنا هو (يقصد آخر سلاطين غرناطة) لجعلت من هذا مقبرتي”.

من يشاهد قصر الحمراء ولو في الصور الفوتوغرافية يذهب بخياله إلى عصور الأندلس الذهبية، ويرى فيه ذلك الفردوس المفقود حين رغدت الحياة وازدهرت العلوم والفنون على أشكالها واستتب الأمن وعمّ الرخاء!. غير أن هذا القصر عندما بني، لم يكن قد بقي للعرب من الأندلس سوى مقاطعة غرناطة وحدها. وذلك بسبب ما عانته من تفكك وانهيار على أيدي ملوك الطوائف. وقد شيدت مباني القصر الرئيسة في عهدي يوسف الأول ومحمد الخامس من سلاطين الأسرة الناصرية في القرن الرابع عشر. وانتهى بناؤه حوالي عام 1392م، أي قبل مائة عام فقط من السقوط النهائي للأندلس.

وعلى الرغم من بعض الرخاء الذي تمتعت به غرناطة حينها فإنها كانت تعيش حقبة شديدة الاضطراب، مليئة بالانقسامات والمؤامرات. ومحمد الخامس نفسه هرب إلى المغرب لسنين ثم عاد إلى الحكم مرة أخرى. وفي تلك الفترة بالذات كثرت الطرق الدينية وانتشرت تيارات الصوفية وهي التي يرى مؤلف الكتاب أنه كان لها بعض الأثر في صياغة فن العمارة الذي طُبع على الحمراء.

كان أول من التفت إلى قصر الحمراء الروائي الأمريكي، الإنساني الميول، وشنطن اريفنج، الذي عشق الأندلس وكتب عنها، وكان كتابه قصر الحمراء باكورة لعشرات المؤلفات التي تلته. كتب اريفنج عن قصر الحمراء في بداية القرن التاسع عشر، وكان القصر قد تعرض قبلها لضروب من الإهمال والهدم والترميم الاعتباطي، ما جعل معرفة الشكل الأصلي لغالبية أبنيته شبه متعذرة. سلمت من كل هذا بعض قاعاته وباحاته، ومن أهمها قاعة الأسود التي اعتبرت الأكثر تمثيلاً لفن العمارة الأندلسية في الحمراء، خاصة وأنها بنيت دفعة واحدة وبقيت على حالها إلى حد بعيد.

يخلص روبرت أروين في كتابه إلى أن قاعة الأسود هي بإجماع العارفين أجمل بناء في العالم. ويستعرض مجموعة من الأقوال تصل بعضها إلى ذرى مدهشة في تلمسها لخصائص وسمات هذا الجمال. وربما يكون الفاصل الحضاري بين أصحاب تلك الأقوال وجلهم من الغربيين وبين هذا الصرح الشرقي الساحر ما جعلهم يشحذون أحاسيسهم ويستحضرون أمتن أدوات علمهم ليستعينوا بها على اجتياز هذا الفاصل الثقافي والنجاح في سبر أغوار سحر الحمراء!

تنقسم أبلغ هذه الأقوال إلى قسمين، أولها يتوجه إلى تناغم عناصر العمارة في القصر، سواء أكان ذلك بين الأعمدة والقباب والنقوش والممرات والفتحات والبرك والنوافير أو الوحدات الزخرفية أو عناصر النور والظلام والردهات. وثانيها يتجه إلى دراسة النسب الحسابية بين عناصر البناء. فقالوا في الحمراء مثلاً:
_ 
القباب المقرنصة بنيت كي تلتقط الضوء وتعكس نور الشمس والقمر في انتقاله، ذلك النور الذي يصلها من النوافذ السفلية، وهي بذلك تماثل حركة النجوم ودوران السماء. فبناة الحمراء عملوا بالضوء والظل تماماً كما عملوا بالحجر والخشب.
_ 
يستخدم الحمراء تلاعب النور والظلمة من خلال المداخل المقوّسة ومساحات لضوء الشمس في الداخل الظليل وممرات قائمة تطل فجأة على باحات يملؤها نور الشمس، أو ضوء ينعكس في برك ساكنة.
_ 
النقوش الحجرية التي تكاد تبدو عديمة الوزن تتراجع إلى الظلال لتحدث تردداً بصرياً بديعاً. ورغم وفرة النقوش المتداخلة، يبقى لقاعة الأسود إحساساً تقشفياً ما ويشبهها مايكل جاكوبز بحديقة زن اليابانية. وهي حديقة يعتقد أنها تعكس النسب الخالدة في الكون.
_ 
صمم الحمراء أصحاب فكر ونزعة تأملية. إنه جهاز للتفكير. تقوم تصاميم العمارة على نسب هندسية مجردة معقَّدة لدرجة تُذهب العقل.
_ 
تبين النظرة الصحيحة أن الحمراء مثله مثل العديد من الصروح الإسلامية هو تحفة حسابية وفنية في آنٍ معاً.
_ 
على كل مستوى من المستويات بني الحمراء بتعقيد تصعب قراءته. وليس على المرء أن يتملك هذا التعقيد وتفاصيله المتشابكة، بل أن يغرق فيه. وتماماً مثل علماء الرياضيات المعاصرة، فإن عرب القرون الوسطى شغلوا أنفسهم باستكشاف اللانهاية.
_ 
كثيراً ما يوحي تداخل الزخارف النباتية بالأشكال الهندسية والكتابات الخطية بعمق سرابي على الجدران المزخرفة.
_ 
وكما أن الفن يختبئ في كل مكان من الزخرفة، كذلك فإن العلم يجد الكثير من معادلاته في زخم العمل الزخرفي. إن نتائج نظرية الخارطة map theory ونظرية اللعبة game theory ونظرية الفوضى جميعها تكمن في الزخرفة التي تنتظر أن ترفع إلى مستوى العلم!
_ 
تبدو جدران القاعة كأنها تهبط من السماء، وليست واقفة على الأرض التي بنيت عليها.
_ 
تُعنى غالبية أعمال الهندسة المعمارية بحياة النهار.. أما الحمراء فقد بني كي يشاهد في الليل.. بعض أجزائه التي لا تعني شيئاً في النهار كما تبرز في الليل بكامل بهائها. ففي الليل يعود الرخام مشعاً ببياضه الأصلي وتشرق الأعمدة مع أشعة القمر، وتمتلئ القاعات بضياء رقيق، حتى يتحول البناء بأسره إلى قصر ساحر في إحدى روايات ألف ليلة وليلة.

أقوال تنم ليس فقط عن فهم خصوصية جمال الحمراء أو عن ولع وتعلق بالفن المعماري الذي أنتجه، بل أيضاً بروح الحضارة التي كان هذا القصر إحدى ثمارها. وقد وصل هذا بالبعض إلى درجة دفعت الرسام الفرنسي هنري رينيو ليهتف قائلاً: “مقارنة بالفنان الذي صنع هذا (يقصد الحمراء) فنحن برابرة أوباش متوحشون”. وهذه شهادة تستوقفنا وتجعلنا نتساءل أيضاً: هل قال أحد في قصر فرساي الفرنسي أو شونرن النمساوي أو حتى فيلا بورجيزي الإيطالية ما قيل في الحمراء وقاعة الأسود؟

من ناحية أخرىلا يجوز أن يغرينا الاعتزاز ونتوقف عند اعتبار ما جاء من أوصاف بليغة لسمات الفن المعمارية في قصر الحمراء سماتٍ للفن العربي والإسلامي وحسب، فهي كخصائص فنية مجردة لا بد أن تؤخذ كمعايير لكل فن معماري بل لكل فن أياً كان على الإطلاق. وحينها فقط يكون لما قيل في القصر والفن الأندلسي قيمة حقيقية، ويكون لتصريح الفنان الفرنسي وغيره مدلولاً علينا “إعادة تدويره” كي نصل إلى فهم أعمق لتراثنا الفني والمعماري ولماهية الفن في أسمى تعبيراته، وألا ننساها ونحن ننظر إلى فنون اليوم، سواء أكان في العمارة أو في غيرها من الفنون الجميلة.

لقد تنبه هؤلاء الذين تناولوا قصر الحمراء إلى أن ما شاهدوه إنما ينبع من النفوس التي تتوق إلى خالقها وترى الجمال في تناغم العناصر التي يغتني بها الخلق وتعترف بشيء من الصدق الرقيق بأن كل شيء سواه إلى زوال. فكل العناصر المعمارية مسخَّره لتعزف لحناً واحداً بانسجام وتناغم تام، يحولها إلى عالم متماسك شديد الوقع رغم رهافته، ويلقي بظلاله على كل زائر.

والقولُ بإن الذين بنوا الحمراء استخدموا النور والظلمة بقدر ما استخدموا الأحجار والأخشاب وإن القصر له جمال في الليل غير جماله في النهار، وإن القباب مصممة انسجاماً مع شروق نور الشمس ونور القمر.. جميعها إشارات إلى عناصر راسخة في مخيلة الشرق حيث لليل مكانة قائمة بذاتها ومستقلة عن النهار. وما لا يمكن إغفاله في قصر الحمراء هو الروح الشفافة التي صنعت هذا الصرح البديع. صرح تبدو فيه الأحجار المنقوشة “بلا وزن” تتراجع إلى الظلال لتخلق تردداً بصرياً بديعاً! وحيث تبدو الجدران وكأنها تنزل من السماء ولا تقوم على الأرض التي بنيت عليها وحيث كثافة النقوش والزخارف تعطيك إحساساً “بعمق سرابي” تستطيع نفسك أن تغرق فيه. وحيث انعكاس الماء ورِقّة الزخارف توحي لك بأن ما تراه من وجود لا يدوم.

إن من يملأ حجارة المقرنصات بالنقوش ويجعلها خافتة الوقع خفيفة الوزن، ومن يملأ الجدران بالزخارف المتداخلة فتتحول إلى أسطح ذات أعماق تستقبل النظرة المتأملة. ومن يجعل الاثنين رغم زخرفتهما الطاغية يحافظان على طابع تقشفي للمكان، إنما يعكس خصوصية عميقة في الحضارة العربية وفنونها. خصوصية تبدأ أساساًً بالمظهر الخارجي المتقشف لقصر الحمراء، تكفي وحدها لشرح اختلاف هذا الفن عن فنون القارة التي أقيم فيها، وربما يعطينا هذا تفسيراً آخر للسحر الذي يلقيه قصرنا في الحمراء بظلاله على تلك الربوع.

أضف تعليق

التعليقات