ليس من السهل حصْرُ جوانب المردود الثقافي من صناعة النفط على أي مجتمع تدخلت هذه الصناعة في تنميته.
وحين يبرز سؤالٌ بسيط عما قدمته صناعة النفط في المملكة للثقافة تحديداً؛ فإن الإجابة لن تكون بسيطة بقدر بساطة السؤال، بل ستتشعب وتتماس مع العديد من قطاعات التنمية البشرية، بدءاً من التعليم بمستوياته، والإعلام، والرعاية الاجتماعية.. وانتهاءً بالثقافة الصناعية، نفسها، التي أصبحتْ واحدة من علامات التشكيل الثقافي في المجتمع السعودي.
الزميل حبيب محمود، يستطلع بعض الملامح التي رسمتها صناعة النفط في ثقافة المجتمع المحيط بهذه الصناعة وما استحدثته من قيم وأنماط وأشكال جديدة من الحياة لم تكن معروفة قبل تدفق هذه الثروة..
للتوّ بدأ «إبراهيم الحادي» قراءة كتاب «صلاح الدين الأيوبي» الذي استعاره وكتاباً آخر هو «أشهر المخترعين ومخترعاتهم» من مكتبة أرامكو السعودية المتنقلة. وخلال أسبوع، على إبراهيم، طالب الصف السادس الابتدائي، أن يقرأ الكتابين، قبل أن يعيدهما إلى المكتبة.
وهي ليست المرة الأولى التي يستعير فيها «إبراهيم» كتباً من هذه المكتبة، فقد تعرّف إليها وهو في الصف الثالث. وقتها أدهشه مشهد حافلة غير مألوفة الشكل تدخل باحة مدرسته، وحين دخلها – برفقة زملاء آخرين – لم يجد فيها مقاعد كما هو حال الحافلات التي تسير في الطرقات، وإنما وجد كتباً كثيرة مرتبة. ومن ذاك الوقت وهو يحسب حساب هذه الحافلة الغنية بزاد الثقافة والمعرفة، ويستعير منها الكتب التي تُعجبه..
محتوى ثقافي
«إبراهيم الحادي» واحد من بين 30 ألف طالب مُستهدَف للاستفادة من برنامج المكتبة المتنقلة خلال العام الحالي، بعد أن نجح البرنامج في استهداف 26 ألف طالب العام المنصرم، ليكمل 22 عاماً من التجوال بين المدارس، والتعامل مع الطلاب بواسطة الكتاب..! واللافت، في برنامج المكتبة المتنقلة، هو ذلك المُحتوى الثقافي الذي تحمله الكتب إلى طلاب المدارس وطالباتها في المدن والقرى، بل وحتى الهجر النائية. فما يـُتوقّع من شركة يقوم نشاطها على صناعة النفط هو أن تعتني، أكثر ما تعتني، بنشر ثقافتها الصناعية بين الناشئة، والتسويق للمعارف المتصلة بالطاقة والنفط والغاز، أو الترويج للمنجزات الدولية العريضة، على الأقل اعتماداً على ما للطفولة من قابلية للتأثر بالمُدخلات الثقافية..!
غير أن عناوين الكتب التي يتلقفّها الطلاب لا تـُعطي – بالضرورة – أولوية لهذه الأهداف. وما تشي به هذه العناوين هو إحساس بتشجيعٍ محض للطلاب على أن تتحول القراءة، لديهم، إلى حبٍّ في الاطلاع. ولهذا لن يتفاجأ أحد حين يجد أجزاءً من صحيح البخاري، أو سيرة ابن هشام، أو تاريخ المملكة من بين 200 عنوان تقريباً في كل حافلة. ولن تكون هناك أية غرابة حين تصطفّ قصص جحا الضاحكة على مقربة من سير جادة لنابليون بونابرت، أو هنيبعل، أو ياقوت الحموي، أو الفارابي.. فهذا التجاور والتقارب تعززهما كتب أخرى في الرياضة وكرة القدم، وأقاصيص التسلية التي تجاور كتب الطيران والاتصالات والحاسب الآلي، والمخترعات الحديثة..!
المُحتوى، في إجماله، خطابٌ ثقافي متنوّع، يضع الطلاب والطالبات أمام خيارات الميول والاهتمامات التي تعود إلى المهارات الفردية والطموحات الخاصة. وما يريده البرنامج هو أن يتيح كلَّ ما هو ممكن لتشجيع العلاقة بين الطالب والكتاب. وفي نظام الإعارة خطوة إضافية لدعم هذه العلاقة، وهي خطوة جادة وعملية، وقد «أعارت حافلات المكتبة المتنقلة، التي تنطلق من الظهران، فقط، 45 ألف كتاب للطلاب العام الماضي».
البداية تثقيف داخلي..!
الاهتمام بالثقافة لازم صناعة النفط منذ نشأتها الأولى. وبطبيعة كل بداية؛ فإن الثقافة التي اهتمت بها، في بداياتها، لم تكن تعني الثقافة بمفهومها العام قدر ما كانت تعني «التثقيف» الذي يخدم الأعمال والعاملين في صناعة النفط. ولهذا برزت برامج تثقيف السنوات الأولى في حلقات التوعية بالسلامة، والتثقيف الصحي، والاعتناء بالبيئة، ناهيك عن ثقافة العمل، نفسه، الذي يعني الزيت والغاز: إنتاجاً وتكريراً وشحناً وتسويقاً.. إلخ
برامج التثقيف هذه انحصرت في الموظفين أول الأمر، في سياق استراتيجية الشركة في رعاية موظفيها. فمثلما يتمتع الموظف بمزايا برامج العلاج الطبي وتملُّـك البيوت وفرص التطوّر الوظيفي عبر الدورات التدريبية أو الابتعاث الخارجي فإنه أيضاً يخضع لبرامج تثقيف مكثفة تساعده على العمل في بيئة مريحة وآمنة وصحية، فضلاً عن تحفيزه على التعرف على النشاط اليومي لصناعة النفط الذي تمارسه الشركة التي يعمل فيها هذا الموظف..!
وتعددت الوسائل التي تخاطب الموظفين، ومحيطهم الاجتماعي، ويوم السادس عشر من سبتمبر من عام 1957م كان مشهوداً بما تعني الكلمة من ريادة، ففيه انطلقت أول محطة تلفزيون في منطقة الخليج العربي، من الظهران، لتقدم برامجها، الإنجليزية والمعرّبة، جرعات متلاحقة من التثقيف والتوعية والترفيه والتسلية.
وقبلها بثلاث سنوات فقط، أي عام 1954م، كانت “أرامكو” قد بدأت في طرح واحدة من أهم الوسائل المهمة في تثقيف المجتمع وترقيته. تمثل ذلك في برنامج بناء المدارس الذي بدأ بمدرسة الدمام الابتدائية الثانية التي افتتحها الملك سعود، رحمه الله، ووقتها كان ولياً للعهد. وهو برنامج انطلق، أساساً، من أجل أبناء الموظفين، لكنه توسّع عاماً بعد عام ليخدم المجتمع، ويقترب عدد المدارس التي بنتها الشركة من 130 مدرسة يدرس فيها أكثر من 70 ألف طالب وطالبة.
هذه النوعية من المدارس يشهد لها قاص سعودي هو عبدالله الوصالي الذي يعتبر سنوات دراسته في مدرسة الفتح الابتدائية بالهفوف أكثر السنوات أهمية.. يقول: “كان زملاؤنا الآخرون في المدارس الأخرى يغبطوننا – بل يحسدوننا – لأننا في مدرسة أرامكو.. وهو حسدٌ مبرر، فما نعيشه هو ما نتعايش معه من جو تعليمي وتربوي ومحفزات ترفيهية وتجهيزات تساعد على حبّ اليوم المدرسي أكثر”..!
ثقافة العمل.. وثقافة الالتزام
من الواضح جداً أن السرد السابق تناول المسألة الثقافية الخاصة بصناعة النفط من خلال البرامج التي مورستْ في المرافق النفطية، أو عبر الأجهزة المرتبطة بها. وهي برامج جمعتْ الثقافة الصناعية إلى جوانب أخرى من الآداب والفنون والتثقيف الصحي والتربوي والاجتماعي، والبرامج الإعلامية. وفي مجملها؛ شكلتْ مصادر تعاطى معها المجتمع، وتفاعل مع كثيرٍ منها، وتسرّبت أغلب قيمها إليه على تفاوت وتباين واضحين.
وبين ما قبل النفط وما بعده فروق عميقة للغاية، ولا يتسع المجال لاستعراض تلك التغيّرات الهائلة التي عكستها صناعة النفط على الواقع الاقتصادي والاجتماعي فضلاً عن السياسي. وبحصر هذا الانعكاس في المسألة الثقافية وفي حدود النطاق الجغرافي الواقع في نطاق أعمال النفط؛ فإن ملامح الصورة الثقافية تتداخل بالعديد من الملامح الاجتماعية، بل الديموغرافية على نحو شامل.
عودتنا إلى التاريخ تكشف الكثير مما نرمي إليه. فحين بدأ النفط في التدفق؛ وجدت الشركة الناشئة، في الثلاثينيات الميلادية، نفسها في حاجة إلى المئات من الأيدي العاملة للنهوض بهذه الصناعة. فما كان منها إلا أن أرسلت فرقاً من موظفيها إلى الحواضر السكانية القريبة من مناطق الأعمال، للبحث عن الشباب السعودي القادر على العمل الشاق. وأمام المغريات والمميزات تراكض الآلاف من الشباب إلى العمل. بعضهم جاء من بيئة بحرية، وبعضهم من بيئة ريفية، وبعضهم من البادية. ولم يقتصر الأمر على أبناء المنطقة الشرقية في تلك المرحلة الزمنية، بل اجتذبت أعمال البترول وما تطلبته الأعمال من نهوض تجاري آلافاً مؤلفة من مناطق نائية من المملكة.
ولأن صناعة النفط كانت مستعدة لاستيعاب القوى البشرية في أعمالها وبرامجها برؤية استراتيجية طويلة الأمد؛ فإنها أوجدت المعايير الدقيقة لتأهيل القوى البشرية المتزايدة تأهيلاً متيناً، فتمثل ذلك في برامج التدريب والتثقيف والابتعاث، وبلورة قيم العمل وثقافته في سلوك الموظفين والعمال، جيلاً بعد جيل.
وهذا عين ما عناه الإعلامي المعروف محمد رضا نصر الله، قبل أسابيع، في حفل القافلة بمدينة الرياض.. حيث قال: “فعل برنامج تدريب السعوديين أفاعيله العجيبة قبل نصف قرن. حين ذاك أدهشتنا رطانة الحساوي والقطيفي.. كيف تمكنّا من إتقان اللغة الإنجليزية بلهجتها الأمريكية، بينما كان العهد بهما غارقين في لهجتهما المحلية التي لا تتعدى مفرداتها أدوات البحر والفلاحة.. كذلك الحال بالحائلي، والمكي، القصيمي والمدني، العسيري والنجراني، هؤلاء جميعاً ضمتهم التجربة الجديدة في أرامكو، فكادت تذيب مواريث ثقافتهم الاجتماعية الضيقة، في أتون ملحمة العمل والوعي بعالم متغير”.
وعبر السنوات تحقق، لدى قطاع الموظفين، مستوى عالٍ من الالتفاف حول القيم العملية الإنتاجية، فضلاً عن الانصهار الثقافي لأخلاط متباعدة من المشارب الاجتماعية. وصارت قيم العمل التي يحرص عليها موظف قادمٌ من بيئة صحراوية تهمها التقاليد القبلية هي نفسها القيم التي يطبقها موظف آخر جاء من بيئة بحرية، أو من مدينة تجارية، أو من قرية ريفية محضة.
الموظفون، بدورهم، نشروا، في مجتمعهم، قيم الإنتاج بما تعنيه من أخلاقيات مهنية وسلوك يضع الالتزام في مقدمة أولوياته. ولا يزال منظر «الكولي» – وهي تسمية تقليدية لموظف أرامكو – ذا دلالة على شخصية ذلك الرجل الذي لا يستطيع إيقاف سيارته في موقف مخالف مرورياً، ولا يسمح بتمديد سلك كهربائي في منزله ما لم تكن قواعد السلامة مطبقة بحذافيرها..! ناهيك عن التقيد الحرفي الذي يعني أنه يدخل المكتب، أو المعمل، في وقت العمل المحدد، وينجز عمله المطلوب من دون أن يحتاج إلى من يذكّره أو يتابعه..!
ثقافة الثروة..!
قد يكون نشر ثقافة الزيت والغاز هدفاً واضحاً. على الأقل اعتماداً على الصورة التي وصلت إليها صناعة النفط في المملكة، عبر الأجيال، بين الصناعات العالمية. وهذه حقيقة لا مبازاة فيها. لكن هناك حقيقة يجدر بكل مواطن سعودي، تحديداً، أن يكون ملماً بها. فالزيت والغاز هما أهمّ الثروات تأثيراً في برامج التنمية الوطنية، والطبيعي هو أن يكون كلّ مواطن مثقفاً بما يكفي لمعرفة ثروة بلاده، وواعياً لأهميتها العالمية، وأثرها الاستراتيجي في حاضره ومستقبله. في هذا الصدد يؤكد الدكتور محمد الرميحي لـ (القافلة) أن النفط صنع «للثقافة العربية الوسائل الحديثة، بل صنع الدولة وبرامج التنمية».
والمسؤولون عن صناعة النفط، في المملكة، ابتدعوا لتثقيف المجتمع بترولياً أنشطة متنوعة وفعاليات. والمعرض الذي عُرف لسنوات بـ “معرض الزيت” كان مفردة مهمة في بلورة هذه الثقافة. وقد تأسس أوائل الخمسينيات الميلادية في الظهران، ثم أخذ يتجوّل في العديد من مناطق المملكة ومدنها، بهدف التعريف بثروة الوطن الاستراتيجية التي غيّرت لاحقاً كل شيء وطورت كل ميدان..!
كان عرضُ صور آبار البترول، وأنابيب نقل الزيت، وموانيء الشحن شكلاً أولياً للتعريف الذي كانت التعليقات القصيرة توضحّه وتشرحه. ثم أضيفت نماذج ومجسمات لبعض المرافق الصناعية فيما بعد. وعاماً بعد عام تحوّل المعرض إلى متحف يعرّف بصناعة الطاقة بشكل علمي يجمع الدقة والسهولة، وفي عام 1987م أنشيء المبنى الحالي، في الظهران، محتضناً تقنيات العروض الحديثة، لتتلوه مراحل تحديث متلاحقة جعلت من التجوال فيه نزهة علمية مفيدة. وفضلاً عما تستعرضه أجنحة المعرض من وسائل حديثة في التعريف بصناعة النفط؛ فإنه، أيضاً، يأخذ في اعتباره الجذور العلمية التي تتصل بها الحضارة العربية والإسلامية، وهذا ما يعبّر عنه جناح التراث العلمي العربي والإسلامي في المعرض.
هذا التكامل التثقيفي أعطى المعرض قيماً علمية فريدة من نوعها، ولم يعد غريباً أن يُحصي المشرفون على المعرض قرابة 200 ألف زائر سنوياً، من طلاب المدارس والكليات والمعاهد والجامعات، والوفود الرسمية التي تزور البلاد، والمسؤولين الحكوميين والإعلاميين، فضلاً عن العائلات. وهذه الإحصائية لا تشمل الموظفين بالضرورة، الأمر الذي يعني أن نشاط المعرض موجّه، بشكل من أشكاله، إلى المجتمع عامة، ويستهدف نشر الثقافة البترولية بين المواطنين.
الثقافة النفطية المُعتنى بنشرها بين شرائح المجتمع، كانت حافزاً لصناعة دور ثقافي في مجتمعها المحيط بها. و«إبراهيم الحادي»، الذي استعار كتابين من المكتبة المتنقلة، قد يعود إلى منزله ليجد والده يتصفح العدد الأخير من مجلة (القافلة) التي تصدر منذ أكثر من خمسة عقود متواصلة. وقد يرافق والده، أيضاً، في حضور ندوة صحية بمدينة الدمام نظمها قسم الاتصال بالمجتمع.. ولـ «إبراهيم» شقيقتان اشتركتا في مسابقة رسوم الأطفال في سنوات كثيرة..! ولكل من هذه البرامج قصة قرأها الكثيرون من أبناء المجتمع السعودي، وتعاطى، عبرها، بجانب من جوانب الثقافة العامة التي لا يدخل النفط ولا الغاز ضمنها..!!
العمل في محيط المجتمع
ليس من شك في أن شغل صناعة النفط الشاغل هو المحافظة على إمداد البلاد بالموارد الكافية لتحقيق الرفاه الاقتصادي والاجتماعي، فضلاً عن المحافظة على موقعها الدولي المتقدم. ومن المؤكد أن هناك حرصاً على تسيير نصف مليون برميل من النفط في أية لحظة من لحظات اليوم وهو يتجه، عبر البحار، إلى واحدة من بلدان العالم. والعقلية الإدارية، المشغولة بهذه الميكنة العريضة، تبقى في حال انتباه تام، وعلى مدار الساعة، لإنجاز كل الأعمال في جميع المرافق، من دون الوقوع في أي خطأ معيق. وهذا لا يمكن تحقيقه من دون تطبيق أعلى المعايير الدولية بلا أي تهاون.
هذا الشغل الشاغل لا يفصل الصناعة النفطية عن واقعها الاجتماعي الذي يمثله المواطنون بما لديهم من أنشطة وأنماط حياة وأدوار واحتياجات. وأياً كانت الصيغة؛ فإن التنمية البشرية واحدة من الهواجس المستمرة. وحتى يتم تفعيل هذا الاهتمام؛ فإنه لا بدّ من تأسيس الجسور التي تربط المجتمع بالأنشطة الثقافية والتثقيفية. وقد خرجت هذه الأنشطة، تدريجاً، من دائرة تثقيف الموظفين إلى دائرة أوسع؛ هي دائرة تثقيف المجتمع. والصور الأولية ظهرت في نشاطات دائرة الخدمات الطبية، كما في إدارة منع الخسائر والسلامة وغيرها، من خلال المحاضرات والنشرات والفعاليات المتنوعة. وبعد ترسيخ هذه الأنشطة، اتجه التنظيم نحو إنشاء قسم يتولى تنسيق كل هذه البرامج وتسخيرها للخدمة الاجتماعية، فكان ذلك في قسم الاتصال بالمجتمع الذي يقع تحت مظلة إدارة العلاقات العامة.
نشاط هذا القسم تثقيفي توعوي في المقام الأول، وهو يعمل على تصدير التجربة التثقيفية الداخلية التي كانت تمارسها الإدارات إلى خارج أرامكو. والمحاضرات والندوات وغيرها من الفعاليات التي كانت تنفذها الخدمات الطبية – مثلاً – على مجموعة من الموظفين في حرض، أو العضيلية، أو بقيق صارت تُنفذ في مواقع لخدمة المجتمع، خارج الشركة، في مدينة الدمام أو الخبر أو الهفوف.. وغيرها.
ولا يحتاج الأمر إلى أن يمرّ أسبوع المرور أو أسبوع الشجرة للتعايش مع المناسبة، فقد يُنفذ النشاط بناءً على تلمس الاحتياجات الاجتماعية المحضة. وكثير من فعاليات التوعية تُنفذ على مدار العام ومن دون تحديد نطاق جغرافي أغلب الوقت.
القافلة.. لجميع الثقافات..!
ولادة مجلة القافلة، قبل أكثر من خمسة عقود، كانت، أولَ أمرها، التفاتاً إلى حاجة العاملين العرب إلى التواصل المستمر عبر وسائل إعلام تتخاطب بلغة البلاد التي ينتمون إليها. فصدرت المجلة أوائل الخمسينيات من القرن الميلادي الماضي لتبصّر الموظفين والعمال في الحقول وخطوط الأنابيب والموانيء ومكاتب الإدارة بقضايا السلامة والصحة والبيئة، وتخبرهم بأحداث صناعة البترول الرئيسة. ولكن سرعان ما تحوّلت (القافلة) من وسيلة إعلام مؤسسية إلى مجلة ثقافية عربية، تمزج بين غلافيها المعارف التقنية الحديثة بالآداب والفنون، والأبحاث التربوية والاجتماعية، وتتشكل منها، عبر تراكم السنين، موسوعة ثقافية هائلة، بأقلام أعلام الثقافة العربية. الأمر الذي منحها سمعة ثقافية دعت الدكتور محمد الرميحي إلى أن يقول: «تعلمتُ من القافلة.. وفي فترة من الفترات كانت مصدراً من مصادر المعلومات والثقافة، بما فيها الثقافة النفطية التي كانت تُقدم بشكل مفيد». في حين يصف الشاعر العربي الدكتور عبدالعزيز المقالح علاقته بها قائلاً: «عرفتها مجلة أصيلة منذ أكثر من أربعين عاماً حين كان شكيب الأموي رئيساً لتحريرها». وحين سأله المحرر عن وجهة نظره في العلاقة التي تربط مجلة ثقافية وشركة متخصصة في الصناعة النفطية؛ أطرى الدكتور المقالح المجلة فقال: «تميزت المجلة بدراساتها الأدبية واللغوية المفيدة طيلة سنوات صدورها، وقد حرصتُ على اقتنائها سنواتٍ طويلة». وهذا ما يدلّل على ما لهذه المجلة من موقع لدى كثيرين من المثقفين العرب.
أمضت (القافلة) سنوات طويلة وهي تصرح، في الصفحة الثانية، بأنها تصدر «للموظفين»؛ لكن قائمة القراء «غير الموظفين» أخذت في التنامي حتى اقتربت من 14 ألف مشترك داخل المملكة وخارجها، تصلهم المجلة مجاناً إلى عناوينهم البريدية. وهناك دعواتٌ من مثقفين سعوديين مرموقين إلى تطوير علاقة المجلة بقرائها إلى مستوى «طرحها في الأسواق وبيعها ولو بأسعار رمزية لتكون في متناول الجميع كبقية المطبوعات الثقافية العربية»، وهذا ما دعا إليه الأستاذ محمد العلي الذي يقول: «حين تجد المجلة مكانها في السوق؛ فإن أول المكاسب الثقافية هو انعكاس تطلعات القرّاء على أسلوب الصدور من جهة، ومن جهة أخرى سيكون القاريء أكثر تساؤلاً في مصدر الإصدار: ماذا يعني؟ وماذا يريد..؟ أي أن جدلية حيوية ستنشأ بين القاريء والمجلة؛ هي ستفكر في الشارع الثقافي والشارع الثقافي سيفكر فيها، أكثر مما هي عليه الآن». والأستاذ العلي مُعجب بالفعل الثقافي الذي تمارسه صناعة النفط في البلاد، عبر «المشاركة في بناء المدارس، وتنفيذ البرامج الثقافية التي تتركز في قطاع الموظفين». ويطالب بأن تكون المجلة «أكثر انفتاحاً على الثقافات المتنوعة، وأقل تركيزاً على الثقافة العلمية المتخصصة، بتنشيط الإصدارات، واختيار طواقم العمل الأكثر اتصالاً بواقع المجتمع وقضاياه الثقافية».
و(القافلة)، في أهدافها وتنوعها الثقافي، تكاد تتوازى ومجلة أخرى هي (عالم أرامكو) التي يُطبع منها قرابة 160 ألف نسخة وتُوزع في العديد من بلدان العالم، مجاناً، للتعريف بالثقافة العربية والإسلامية.
الجوهر الثقافي
لقد بلورت صناعة النفط قيماً وثقافات إنتاجية، وبنت تراثاً من التقاليد المهنية تأثر به المجتمع المحيط بها عبر السنوات. وفي الوقت، ذاته، لم تكن هذه الصناعة غافلة عن الثقافات الجوهرية التي يحترمها المجتمع، أو يحتاجها. وهي ثقافة متصلة بالدين والتقاليد العربية بالدرجة الأولى، كما هي ثقافة ذات أثر وجداني واجتماعي جدير بالتواصل معه. وهذا ما حاولت الصناعة النفطية أن تترجمه إلى فعل ثقافي تحمله مجلة القافلة، كما حمله تلفزيون أرامكو، كما تحمله برامج الاتصال بالمجتمع، كما حمله الدعم المادي الموجه صوب المؤسسات الاجتماعية والشبابية في مدن المملكة.. وهو، عيناً، ما تحمله المكتبة المتنقلة إلى المدارس، فقصة الفارابي لا تقل أهمية عن قصة الطيران، وطالب السادس الابتدائي إبراهيم الحادي – وآلاف من الطلاب والطالبات – قد يقرأون القصتين، وكلتا القصتين معرفة.. والمعرفة ليست نفطاً وغازاً فحسب..!
——————————————
كادر
لكل زمان لُبُوسَه الصّناعية.. الثقافية..!
نشأت أرامكو السعودية وهي تدرك وتؤمن بأن دورها يتجاوز ما نصت عليه اتفاقية الامتياز الأصلية من التنقيب عن النفط وإنتاجه وتسويقه، وأنها باتت جزءاً لا يتجزأ من حركة ونمو المجتمع المحيط بها. وأصبح إحساس أرامكو السعودية بأهمية دورها في تنمية المجتمع ودعم جميع الجهود الرامية إلى ذلك، قيمةً من القيم التي تؤمن بها وتسيّر بها أعمالها. وقد دفعها هذا الإحساس الأصيل إلى الإسهام في مجالات تنموية عديدة تختلف في قربها أو بعدها عن صناعة البترول، ولكنها تتفق في أنها كانت مجالاتٍ مهمةً لنمو المجتمع وتطوره.
وأول ما يلفت نظرنا في الحس الثقافي الذي تمتعت به أرامكو السعودية، عبر السنين، هو أنه كان حساً أصيلاً نابعاً من اهتمام الشركة بتنمية الوعي الثقافي بمعناه الواسع في المجتمع الذي تعمل فيه، ومبنياً على مبادراتٍ ذاتيةٍ من الشركة نفسها، إذ لم يطلب أحدٌ من الشركة أن تصدر مطبوعات، أو تنشئ محطة تلفزيون أو إذاعة، أو تنتج أفلاماً، أو تقيم معارض، ومع هذا فقد بادرت إلى كل هذا وأكثر، وحرصت على أن تكون جميع جهودها الثقافية نوافذ يطل من خلالها المجتمع على أحدث الطروحات العلمية والتقنية والفكرية والأدبية، دون المساس بثوابته الأصيلة. وفي إنكارٍ للذات، جعلت الشركة معظم نتاجها الثقافي غير ذي صلةٍ بصناعة البترول أو بها كشركة، فأنت، أيها القارئ العزيز، تتصفح مجلة القافلة أو مجلة سعودي أرامكو وورلد فتجد فيها قطوفاً متنوعةً من بساتين الثقافة، ولكنك لا تجد فيها ما يوحي بأنها صادرةٌ عن شركةٍ بترولية، ويمكننا أن نقول هذا عمّا يكاد يكون كُل أو جُل النتاج الثقافي لأرامكو السعودية. بل إن الشركة تجاوزت مجرد السعي إلى رفع المستوى الثقافي للمجتمع إلى الدفاع، بأسلوبٍ إعلاميٍ احترافيٍ، عن ثقافة هذا المجتمع وأصالته، وبناء جسورٍ إيجابيةٍ تربطه بالمجتمعات الأخرى، ومجلة سعودي أرامكو وورلد مثالٌ بارزٌ في هذا الميدان. كل هذا يؤكد أصالة الحس الثقافي لدى أرامكو السعودية وعمقه وانطلاقه من فكرٍ يهتم بالجوهر اهتمامه بالمظهر وأكثر، ويركز على الأهداف بعيدة المدى بقدر ما يهتم بتحقيق الأهداف الآنية.
وثاني ما يلفت الانتباه في الحس الثقافي لأرامكو السعودية هو أنه متكامل الجوانب، شامل النظرة، فقد نظرت أرامكو السعودية، عبر مسيرتها، إلى التنمية الثقافية، وتعاملت معها بكل أبعادها، ففي الجانب الأكاديمي، على سبيل المثال لا الحصر، بنت الشركة وجهزت، على أحدث الطرز الهندسية، قرابة مائةٍ وثلاثين مدرسةً يستفيد منها في كل عام حوالي ثمانين ألف طالبٍ وطالبة، وأسهمت في الستينيات الماضية في تأسيس كلية البترول والثروة المعدنية، التي أضحت اليوم جامعةً متكاملة. وفي الجانب الثقافي العام أصدرت المطبوعات الدورية وغير الدورية ونشرت الكتب وأقامت المعارض وأنتجت الأفلام ونظمت حملات التوعية عل اختلاف موضوعاتها. وفي جانب الجمهور المستهدف، خاطبت الشركة بنتاجاتها الثقافية موظفيها وأفراد عائلاتهم، وتوجهت بخطابها إلى الكبار والصغار، والرجال والنساء، والمسؤولين في الحكومة والقطاع الخاص، وعامة الناس وخاصتهم. وفي مجال موضوع وصياغة الرسالة الثقافية، قدمت أرامكو السعودية الرسالة العلمية الصرفة المتخصصة، والرسالة العلمية الميسرة للعامة، ومزجت التعليم بالترفيه والاستمتاع، وتناولت كل ما يمكن أن يخطر على البال من موضوعات العلم والفكر والدين والأدب، وخاطبت كل فئة من جمهورها بما يهمه ويجذب انتباهه.
وثالث ما يلفت النظر في الحس الثقافي لأرامكو السعودية هو الاستمرارية مع ثبات المبادئ، والتجدد المستمر مع مراعاة المتغيرات المحيطة، فها أنت، عزيزي القارئ تنظر في صفحات مجلةٍ صدرت قبل ما ينيف على نصف قرن، وربما زرت معرض الشركة في الظهران، الذي كانت انطلاقته الأولى في أوائل الخمسينيات الميلادية الماضية، أو ربما أتيحت لك الفرصة لمشاهدة فلم “الطاقة للعالم” الذي أنتج بأحدث تقنيات التصوير والعرض ثلاثي الأبعاد، والذي كان أحدث إنجاز في سلسلةٍ من الأفلام الوثائقية بدأت بإنتاج فلم “جزيرة العرب” في الأربعينيات الميلادية. وأنت في استعراضك لكل هذه النتاجات الثقافية تشعر بنفس الروح المفعمة بالعطاء والإبداع والعمق الفكري والثقافي، ولكنك في ذات الوقت تدرك أن أرامكو السعودية لبست لكل زمان لبوسه، وأنها، مع حرصها على أن يستمر عطاؤها الثقافي، حرصت على أن يتطور شكلاً وموضوعاً ليتواءم مع متغيرات العصر التقنية والعلمية والفكرية.
هكذا نرى أن برميل النفط، كما عرفناه في هذه البلد الأمين متمثلاً خير تمثيلٍ في أرامكو السعودية عبر سنواتها السبعين، كان له، في الواقع، حسٌّ ثقافيٌ مفعمٌ أصيل، ينظر إلى الثقافة نظرةً متكاملةً، يتسم بالاستمرارية مع التطور المستمر، يعكس عراقة الأصالة وروح التجديد في آنٍ معاً، ويسعى جاهداً لإحراز التميُّز والحفاظ عليه.
لقد كان بمقدور أرامكو السعودية أن تأخذ الطريق القصيرة اليسيرة فتقول: ” إنما أنا هنا لأنقب عن النفط وأنتجه وأحقق للمملكة أفضل العائدات من استثمار ثروتها النفطية، فما لي أنا وللثقافة أو الزراعة أو الصحة أو غيرها” وما كان بيد أحد أن يلومها على أن رغبت في التركيز على مهمتها الأساس. ولكنها لو فعلت هذا لما كانت أرامكو السعودية التي عرفها آباؤنا، وعرفناها نحن من بعدهم، وسيعرفها أبناؤنا من بعدنا بإذن الله.