بدّل اندماج الشركات المشهد الاقتصادي في العالم، خاصة خلال العقد الماضي. ولم تعد عمليات الاندماج تقتصر على الشركات الكبرى في مناطقها الأساس على طرفي الأطلسي في أمريكا وأوروبا، بل أصبحت واضحة للعيان أينما كان في العالم، ولا تزال حتى اليوم تستمد زخماً مهماً من مسيرة العولمة الجارية، وتذهب في أكثر من اتجاه في إعادة رسم السوق العالمية وتنظيمها.
حول دمج الشركات ببعضها، واقعه، ما له وما عليه، استناداً إلى تجارب القرن العشرين، أعدت هدى بتروبولس التقرير التالي..
الاندماج حالة مواكبة للتركز الصناعي، رغم تغير حوافزه وشروطه. وتتخذ الاندماجات شكل موجات تعلو وتهبط، عرف القرن العشرون خمسة منها.
فقد شهدت بداية القرن ونهايته أكبر موجتي اندماج (في أمريكا ما بين 1898 و 1902م وعلى مستوى العالم ما بين 1994 و 2000م)، فصلت بينهما ثلاث موجات أقل أهمية. وفي كل الحالات عرف السوق توسعاً مهماً. تمثل ذلك في بداية القرن بنشوء سوق قومية في الولايات المتحدة، أدت الاندماجات خلالها إلى انبثاق عدد من الشركات المهيمنة المستمرة، وفي نهايته بنزوع نحو العولمة الاقتصادية وإعادة هيكلة السوق.
وقد كان للتغييرات في السياسات الحكومية خلال العقود الأخيرة أثر بالغ على الموجات الاندماجية. فقد بدأت هذه التغييرات في الولايات المتحدة، ونحت صوب التراخي في تطبيق قوانين الاحتكار وإلغاء بعض الأنظمة الموجِّهة للإنتاج في بعض القطاعات. فموجة اندماجات الثمانينيات التي حصلت في الولايات المتحدة حصراً، وشملت قطاعات مثل الغذاء والكيماويات والنفط، لم تكن ممكنة قبل ذلك.
وتميزت هذه الموجة بصفات بيع وشراء عدائية في معظم الأحيان (أي من دون موافقة إدارة الشركة)، أسهمت في تفكيك شركات ضخمة كانت قد نشأت من اندماجات الستينيات، وباتت جدواها الاقتصادية موضع تساؤل. أما موجة التسعينيات فقد تأثرت بالنزوع العالمي نحو تحرير التجارة والاستثمارات، وتخفيف الضوابط القانونية للمؤسسات المالية والاتصالات وخصخصة المؤسسات التي كانت مملوكة من الدول. وكانت المحصلة نشاط اندماجي فاق بأبعاده وحجمه كل ما سبقه، ووصل إلى ذروته عام 2000م، إذ بلغت قيمة إجمالي الصفقات الاندماجية نحو 3,576 تريليون دولار. كانت حصة الولايات المتحدة منها نحو 1,786 تريليون دولار، وأوروبا 526 بليون دولار، أما الباقي – حوالي الثلث – فقد كان اندماجات عابرة للحدود بين شركات ذات قواعد وطنية مختلفة.
وخلافاً لاندماجات الستينيات من القرن الماضي التي عرفت نشوء الشركات المختلطة الضخمة، والثمانينيات التي شهدت شراء الشركات لتفكيكها وبيعها، فإن اندماجات التسعينيات كانت بهدف توسعة الحجم. وبدا هذه المرة أن مديري الشركات وبنوك التوظيف قد وجدوا الطريق إلى أداء أفضل، بعد السمعة السيئة التي لحقت بالاندماجات السابقة.
ولكن، مرة أخرى، تسببت هذه الاندماجات بمسحة تشاؤم. فقد تمت على حساب خسائر كبيرة لحقت بأصحاب الأسهم. كما أن العديد منها لم يحقق النتائج المرجوة. وبعد ركود لبضع سنوات، ظهر انتعاش جديد لعمليات اندماج منذ أواخر العام 2004م، نتيجة توافر سيولة عملاقة (1.5 تريليون دولار من النقد لدى الشركات وبيوتات المال) وفرص في صناعات لا تزال تعتبر مجزأة (وعادة ما يشار في هذا المجال إلى البنوك والاتصالات والصناعة الاستهلاكية).
فكيف يمكن تفسير تعاقب هذه الموجات وما يصاحبها من تشاؤم وتفاؤل وربما إلى تشاؤم جديد، وكأن شيئاً لم يكن؟
اندفاع الشركات.. الرأسمال يذهب عالمياً
الاندماجات هي عادة، وليس دائماً، جزء من استراتيجية توسّع بالنسبة إلى الشركات. وهي ثلاثة أنواع: الاندماج الأفقي الذي يحصل بين شركات في القطاع نفسه، والاندماج العامودي الذي يجمع شركات في مراحل مختلفة من العملية الإنتاجية الواحدة كالاندماج بين الإنتاج والتوزيع، والاندماج المختلط بين شركات تعمل في قطاعات لا علاقة فيما بينها، وهذه الأخيرة باتت غير مستحبة في العقود الأخيرة، ويظل الاندماج الأفقي هو الأهم من حيث تأثيره على التحكم بالأسواق والأسعار، أي على نشوء احتكارات.
تميّزت اندماجات التسعينيات بتركزاتها القطاعية وذلك من أجل خلق شركات مهيمنة، شملت قطاعات مثل البنوك والاتصالات والطاقة والتكنولوجيا والإعلام وعدد من الصناعات التحويلية. وهذا النزوع نحو التركز القطاعي يعني أن أغلبية الصفقات كانت اندماجات أفقية ولو أن التمايز بين الأشكال الثلاثة للاندماج أصبح أقل وضوحاً. وقد انعكس ذلك أيضاً في الصفقات العابرة للحدود، حيث وصلت نسبة الاندماجات الأفقية إلى 70 في المئة من المجموع، مقارنة بـ 53 في المئة عام 1987م.
لم تعد الشركات تنظر فقط من خلال عمليات الاندماج إلى دوافع قصيرة الأمد، والتي تنشأ عادة عن نمو فائض في الإنتاج يشكل ضغطاً على الأسعار وبالتالي على الأرباح، فتعمل الاندماجات على تقليصه عبر تخفيض التكلفة بإلغاء أجزاء غير مربحة وإزالة العمالة الزائدة. وذلك ليس لأن هذه الدوافع لم تعد مهمة، فهي ما زالت بالغة الأهمية ولكن حسابات أخرى نشأت، ومن ضمن دوافع اقتصادية واستراتيجية على المدى الطويل، وذلك في إطار تنافس داخلي وعالمي يحفز البحث عن زيادة الحجم والموارد واقتطاعات أكبر من حصة الأسواق أو الهيمنة من أجل التحكم في الأسعار. وتُساق عادة في إطار الدوافع الاستراتيجية، أو ما يسمّى الصفقات الاستراتيجية، تفسيرات للفوائد التي يمكن أن يجنيها جمع شركتين، مع استخدام عبارة سينرجي التي من المفترض أن تزيد الثروة من خلال الجمع، على مستويين، مستوى التكلفة الاقتصادية التي يجري تخفيضها في عملية الدمج، ومستوى العائدات التي يتوقع زياداتها مع استفادة الشركة من أسواق الشركة الأخرى. أو من تبادل قدرات في الأبحاث أو مهارات تسويق أو غيره. ولكن مهما كانت التفسيرات، آنية أو استراتيجية، فإنها تجري ضمن اعتبارات السباق إلى الهيمنة، واندماج يقود إلى آخر، وهكذا تكرّ المسبحة في موجات اندماج يصبح معها الحجم جزءاً من معادلة السيطرة.
وكذلك، لم تعد عمليات الاندماج والاكتساب حكراً على الشركات، بل نشأت في العقدين الأخيرين بيوتات مالية من أجل توظيف أموال يأتي معظمها من صناديق خاصة للضمان أو التقاعد أو شركات التأمين (وهي غالباً ما تكون أمريكية أو بريطانية). وتتحكم اليوم بيوتات المال بقدر مهم من التحولات الاندماجية التي تحصل. وقد انتقل نشاطها إلى المستوى العالمي في أواخر التسعينيات، وباتت سوقها الأوروبية في المرتبة الثانية بعد أمريكا. فهي، حسب بعض التقديرات، مسؤولة عن نسبة الثلث إلى النصف من الاندماجات في بريطانيا والربع في أوروبا القارية، ونشاطها أكبر من ذلك في الولايات المتحدة. وتظهر وظيفتها في الاكتسابات التي تحتاج إلى مبالغ ضخمة (وكانت متورطة في أكبر عملية اكتساب حصلت في أوروبا عندما اشترت شركة الاتصالات البريطانية فودافون عام 2000م مثيلتها الألمانية مانيسمان بقيمة 183 بليون دولار) أو في عملية تفكيك الشركات الكبيرة المختلطة كما حصل في الولايات المتحدة في الثمانينيات، وينتظر بعض المحللين أن يقوى نشاطها المقبل في هذا المجال في أوروبا.
حوّلت موجة الاندماج في التسعينيات وبشكل سريع، مجمل البيئة التنافسية عبر العالم. ولم تعد حروب التنافس بين الشركات فقط، فالكتل الصناعية والمناطق والدول باتت أيضاً معنية. وظهرت من أمريكا إلى أوروبا وآسيا حركة اندفاع نحو الكبير في عصر العولمة والانفتاح، ولسان حالها يقول: إن الشركات يجب أن تكون كبيرة من أجل المنافسة مع مثيلاتها في الخارج والداخل، بما أن التنافس الأجنبي في الأسواق المحلية مسألة يجب أخذها بالاعتبار . وهي تشجع في البلدان الصناعية الاستمرار في تغير الأنظمة وإضعاف فعالية قوانين الاحتكار. وفي البلدان الأقل تطوراً، حيث لم يفقد منطق الحماية المبرّرة في عدد منها، فإن مواجهة التحديات القائمة والمستقبلية في عالم يسير نحو انفتاح أكبر يطرح موضوعات الحجم والاندماج أيضاً منذ الآن.
سارت أوروبا في موجة الاندماجات الأخيرة في اتجاهين: اتجاه نحو اندماج الشركات على المستوى الإقليمي لإقامة شركات عملاقة تستطيع المنافسة في أوروبا وخارجها، وآخر نحو صفقات عابرة للحدود بما فيها حركة الاندماجات عبر الأطلسي بين أوروبا والولايات المتحدة وفي الاتجاهين. لكن الشعور العام بأن اندماجات كافية لم تتحقق بعد على المستوى الأوروبي يُقوّي حالياً نزعة سياسية تهدف إلى إزالة العوائق التي يمكن أن تعترضها من عقبات الخصوصيات القومية وتمسك الحكومات بشركاتها الوطنية (فبعد مواجهات مع فرنسا حيال تحرير قطاع الكهرباء واكتسابات في قطاعي الأدوية والهندسة، جاء دور إيطاليا مؤخراً في قطاعي البنوك والطاقة)، والتوصل إلى قوانين مشتركة بخصوص الاندماج تتخطى التمايزات القائمة على مستوى كل بلد (جرى تبني توجيهات في هذا الخصوص أواخر العام الماضي بعد سنوات من النقاش، وهي لا تزال تنتظر موافقة البرلمان الأوروبي).
ورغم أن نسبة صغيرة من الاندماجات، مقارنة بالحجم الأمريكي والأوروبي، حصلت في آسيا، وتوّزعت بين اندماجات داخلية وبين التزاوج مع شركات غربية أمريكية وأوروبية، إلا أن ضغط البيئة التنافسية الإقليمية والعالمية يدفع بالسياسات ومنذ فترة إلى تشجيع اندماجات محلية، خاصة في القطاع المصرفي، من ماليزيا وسنغافورة إلى إندونيسيا مؤخراً وربما الهند. ولأن مثل هذا التشجيع يحصل لأسباب استراتيجية أكثر مما هو لدوافع آنية متعلقة بالأرباح، فهو يثير تساؤلاً حول أهمية الحجم وهل هو أفضل. والتساؤل يكبر أمام محاولات العمالقة بناء عملاق أكبر، مثل اندماج ثاني ورابع أكبر مصرفين في اليابان وولادة عملاق مالي بموجودات هي الأكبر في العالم (1.8 ترليون دولار).
من الكبير إلى سوبر كبير
تبدلات المنظر الصناعي
بين الحوافز المباشرة والحوافز الاستراتيجية، سار العديد من الصناعات نحو تحويل الكبير إلى سوبر كبير . وطرحت عمليات اندماج في إطار التركيز على الحجم وزيادة الرأسمال وتشديد التنافس على حصة من السوق العالمي، والاستفادة من أشكال الاندماج المختلفة، من أفقية إلى عامودية إلى مختلطة بعض الشيء، بحيث بات صعباً التفريق بين هذه الأشكال.
في قطاع النفط، ومع إتمام سلسلة من عمليات الاندماج بين الكبار في عامي 1998 – 1999م، اختفت سبعة من أكبر الأسماء في الصناعة في كيانات أكبر معيدة تشكيل التركيبة التراتبية للقطاع بحيث بات يتصدره فئة سوبر كبار ثلاثة، ونشأت مرتبة وسطى جديدة ومن ثم مرتبة ثالثة ضمّت من كان في المرتبة الثانية سابقاً.
سيقت مسائل الحجم، والتنويع، وقدرة الوصول إلى رساميل كبيرة كاعتبارات في مواجهة تحديات توظيف تحمل درجة من المخاطرة في مناطق جديدة كانت مغلقة سابقاً، وفي تحمل الربحية المنخفضة لصناعات التكرير، والحاجة إلى انتعاش في حقلي التوزيع والتسويق، وغيره. وطالت الاندماجات من الحجم الكبير أيضاً شركات القطاع العام في أكثر من بلد أوروبي وآسيوي، وأخذت طابع الاندماج العامودي بين التنقيب والإنتاج والتكرير والتسويق أسوة بالشركات الكبرى. وقد عرف القطاع النفطي أيضاً اندماجات كبيرة الحجم في خدمات التوزيع، التي باتت تحتاج إلى إعادة تجديد، وأخرى عامودية شبه مختلطة زاوجت بين مصالح أنابيب الغاز والمنافع الكهربائية وتوليد الطاقة، ليس لدوافع الكلفة والفعالية، بل كاستجابة للإلغاء المتسارع للأنظمة في تلك القطاعات وتحرير سوقها على المستوى العالمي.
وعرفت الصناعة العسكرية أيضاً مع اندماجات التسعينيات شركات سوبر كبيرة تحت ضغط المنافسة بين شطري الأطلسي الأمريكي والأوروبي. تقلص عدد الممولين الرئيسين في الولايات المتحدة من خمسة عشر إلى أربعة فقط، بينما جمعت أوروبا جهودها في اندماجات عابرة للحدود لإقامة ثلاث شركات رئيسة. ولأن الحجم الأوروبي لا يزال دون المستويات الأمريكية (فالشركة الأوروبية الأكبر في الصناعة الفضائية ايدز تصل إلى حجم الشركات الأمريكية الكبيرة، إذا ما أضافت مشروعها المدني الضخم إيرباص )، فالنزوع الأوروبي للاندماج لا يزال قائماً، كما ظهر مؤخراً في اندماج أكبر شركتي إلكترونيات في واحدة هي الأكبر أوروبياً.
وسار القطاع الإعلامي في اتجاه مماثل مع احتمال تحوّل ملوك المال موغلز إلى سوبر موغلز . وتعرضت بنية القطاع نفسه إلى تبدلات في موجة اندماجات التسعينيات وصفها بعض المحللين كحجر زاوية في تاريخ الاندماجات في قطاع التلفزة في الولايات المتحدة. فقد دخل عمالقة من الخارج على القطاع (ويستنغ هاوس في التسعينيات بعد جنرال إلكتريك في الثمانينيات بشراء شبكتي تلفزة من أصل ثلاث شبكات رئيسة)، وبعض الاندماجات العامودية باتت تجمع وظائف مختلفة في شركة واحدة، وتوحد عمليات الإنتاج والتوزيع والعرض. وقد أثار الأمر انتقادات بالنسبة لقطاع حساس كالإعلام لما قد يتعرض له من هيمنة مصالح خاصة، ولتقليص أشكال التعبير والتنوع في إطارات الاندماجات العامودية، ولتدهور نوعية البرامج.
قد تكون هناك تحولات مهمة في الاتجاه نفسه في انتظار قطاع وسائل الاتصال، الذي عرف أيضاً اندماجات أساسية تضمنت ربما أكبر الصفقات الاندماجية حجماً (شراء فودافون البريطانية لمانيسمان الألمانية). فحسب بعض التحليلات لا يزال القطاع مفتوحاً على فرص اندماج قد تقلص إلى النصف عدد شركاته الأساسية التي تتحكم بـ 86 في المئة من السوق. والأموال المتوافرة لدى الشركات العشرين الأولى (حوالي 200 بليون دولار) كثيرة، تتجه اليوم أوروبياً في عمليات قضم صغيرة قد تهيئ على المدى الأبعد لاندماجات بين الكبار. والقطاع مرشح في الولايات المتحدة لدخول مرحلة جديدة في إقامة شركات مختلطة تدمج ما كان سابقاً نشاطات مستقلة في القطاع. (بين المكالمات التلفونية المحلية والوطنية، والاتصالات السلكية واللاسلكية، بين الخدمات المناطقية والوطنية، بين المكالمات الصوتية والإنترنت وغيره)، كما بدأ يظهر من صفقات بداية العام، وهي تعيد الذاكرة إلى التركز السابق في شركة آي. تي. تي. الأم (التي جرت تجزئتها في عام 1984م منعاً للاحتكار)، لكن الشركة الأم هذه المرّة تهاوت لصالح أحد أقسامها السابقة.
وعندما يكون الحجم وقياسه السوبر أمام اختبار صناعات تحتاج فعلاً إلى إعادة إنعاش بعد سنوات من تباطؤ الربحية وزيادات القدرة الإنتاجية، كما كان وضع صناعات السيارات، فإن مشكلاته تبدأ بالظهور.
لقد قلّصت اندماجات التسعينيات عدد الشركات إلى سبع رئيسة وثلاث شركات صغيرة، والقطاع بدأ يستعيد عافيته. إلا أن سجل الأداء لم يكن دائماً أفضل لدى الشركات التي اندمجت من تلك التي لم تندمج. فأكثر الاندماجات طموحاً والعابرة للأطلسي بين ديملر بينز (مرسيدس) و كرايزلر (قيمته 130 بليون دولار) أدت إلى خسائر أولية كبيرة لأصحاب الأسهم وخلقت مشكلات دمج فعلية. وما اعتبر اندماجاً ناجحاً بين رينو و نيسان أدى إلى دخول رينو أسواق اليابان وأمريكا وتبادل الخبرات التكنولوجية وتقليص التكلفة، لكنه تجنب مطبات الحجم، وأتى الدمج ضمن صيغة تحالف حافظت على الكيانين المستقلين للشركتين، وفي المحصلة فإن التحسينات الأساسية على المنتج وجاذبيته للمستهلك هي عقدة الحل والربط.
إن الاندماجات التي تحصل في قطاعات متنوعة تأتي غالبيتها ضمن دوافع استراتيجية كاستجابة لتغيرات في المحيط التنافسي، فتظهر فيه الشركات مدفوعة إلى جمع القوى لمواجهة تحديات تشعر بأنها لن تستطيع معالجتها منفردة، إلى اختراق أسواق جديدة في عالم يزداد اندماجاً. وتحمل الاندماجات منذ أواخر العام الماضي كل تلك المعالم وأكثر. ففي قطاع الصلب، حيث دوافع الحجم ليست بالضرورة عملية، امتدت مصالح عصبة انترناشونال (لصاحبها الهندي الأصل) من آسيا إلى مشتريات في أوروبا الشرقية إلى الحيازة مؤخراً على شركة صلب أمريكية أدت إلى قيام أكبر شركة صلب في العالم، جرى وصفها كصفحة جديدة في تركيز الصناعة وعولمتها تنذر بمشتريات مماثلة عابرة للحدود وتثير مخاوف من ارتفاع الأسعار. وكذلك في قطاع برامج الكمبيوتر، فإن الاندماجين الأخيرين بدوافع تقديم حقيبة أكثر اكتمالاً لرجال الأعمال (شراء أوراكل لبيبول سوفت وسيمانتك لفاريتاس في أواخر 2004م بقيمة 10.3 و13.5 بليون دولار) أثارا موجة من الذعر حول حرب مقبلة ومن سيكون الصيّاد ومن الفريسة فيها. وفي قطاع المواد الاستهلاكية، حيث الميل العام يتجه إلى التركيز على أصناف من المنتوجات الرائجة وتقليص عددها، حصل اندماج مفاجئ في بداية العام بين شركتين كبيرتين بروكتر وكامبل وجيليت (صفقة بمبلغ 50 بليون دولار). ورغم أن الاندماج سيزيد من عدد المنتوجات وتنوعها، إلا أن الدوافع يقال هي للاستفادة من الحجم ومن جمع الموارد من أجل التركيز على خلق سوبر أصناف لعدد محدود من المنتجات. هذا الاندماج وما قد يثيره من ردّات فعل محتملة شبيهة لدى الشركات الأوروبية، يطرح تساؤلاً يكبر ويكبر: هل الحجم مهم؟
الاندماج السهل والدمج الصعب
هل التمادي في الكبر أفضل؟ سؤال بات يُطرح ويتكرر حيال اندماجات سابقة وأخرى تتم. فسجل الاندماجات، حسب دراسات أعدت في هذا الخصوص، كان متشائماً، وأظهر بالنسبة إلى الفترة ما بين 1979 و 1990م أن 65 في المئة من 150 صفقة كانت فاشلة. وبالنسبة إلى موجة التسعينيات بأنها تسببت بخسائر هائلة لأصحاب الأسهم، تركز معظمها في 87 صفقة كبيرة بين 1998 و 2001م.
ومن الحجج التي تُساق حول فشل عدد مهم من الاندماجات، أن دمج شركتين مسألة شديدة الصعوبة، يقدر عليها عدد قليل من الشركات، وأن نسبة أعلى من 70 في المئة من الشركات التي لم تقم بعمليات اكتساب أو اندماج مهمة عملت فوق الأداء المتوسط لتلك التي اندمجت، وأن الاندماجات التي حصلت كرد فعل على التغيرات في المحيط العالمي وتخوفاً من تفوّق الآخرين عرف العديد منها تخبطات، وأن التفاؤل بالتفسيرات المتنوعة في دعم الاندماجات، ومنها أشكالها العامودية كربط الإنتاج بالتوزيع، تلاشى مع الوقت، وأن العدد المحدود مما سمي بالصفقات الاستراتيجية عرف نجاحاً عندما كانت الصناعة مجزّأة وعندما ارتبط الاندماج بدوافع توسعة السوق أو الهيمنة عليه.
وهناك تساؤلات أيضاً حول اقتصاديات الحجم. إذ يقول البعض أن النموذج الصناعي الذي يؤسس على اقتصادات الحجم الكبير لمنتجات شديدة التجانس، قد سقط في العديد من الصناعات الحديثة مع التقدم التكنولوجي وتنوع المزاج الاستهلاكي. فتنويع المنتجات والعامل التكنولوجي أدخلا تعقيدات متزايدة على عملية الإنتاج بات التكيّف معها يحتاج إلى درجة من المرونة والسرعة لا توفرها دائماً الأحجام العملاقة.
ومن المسائل الأخرى التي تُثار حول مشكلات الاندماج هناك ما يتعلق بالعنصر البشري، أي إدارة القوى العاملة على مستويات كبيرة، وفرادة ثقافة وبيئة العمل في كل شركة، وصعوبة الدمج، خاصة حين يتعلق الأمر باندماجات عابرة للقارات، كما تتعلق باعتبارات الصنف الذي يجري التضحية به لاعتبارات الحجم، وضياع أسماء الشركات المعروفة في معمعان اندماجات متتالية.
بعض الأمثلة الناجحة حملت درجة من المراعاة لهذه الأمور. وعادة ما يُساق اجتماع رينو مع نيسان ، الذي استفاد من الاندماج كأسلوب لتوسعة السوق وتخفيض التكلفة، لكنه أخذ شكل التحالف، متجنباً مشكلات الدمج من خلال احتفاظ الشركتين بكيانيهما المنفصلين من أجل مراعاة الولاء للصنف، واستمرار الحوافز لدى الموظفين. وهما، كما يقول مدير نيسان، اللبناني الأصل كارلوس غصن، الوقود الذي تسير عليه الشركة . كما أظهر الاندماج مؤخراً بين سويس إير و لوفثانزا أن اندماجات شركات الطيران الأوروبية قد راعت مسألة بقاء الأسماء، لرغبة في استمرارها حمل اسم البلد أيضاً، وأن الفصل بين العاملين كان ضرورة في بعض المجالات على ضوء الخبرة الأمريكية في دمج الطيارين، الذي أدّى إلى مشكلات أثّرت على سلامة الطيران.
إن التشكيك المتزايد بجدوى الاندماجات المتسارعة بات يدفع إلى التفكير في ما سيحمله المستقبل. فهل سيكون فعلاً السوبر كبير الذي يجري خلفه في العديد من الصناعات هو نموذج الصناعة المستقبلية؟ أم أننا سنشهد خروجاً لولبياً لقطاعات متخصصة يميناً وشمالاً مرة أخرى من الاندماجات العملاقة كما حصل لاندماجات الستينيات والسبعينيات؟
وما يعود إلى من؟
كقاعدة، تترافق الاندماجات مع فترات نمو اقتصادي، مستفيدة من الانتعاش الذي يخلقه. ومن العوامل المشجعة لها في هذا المجال أن الاقتصاد العالمي ينمو، ومن المتوقع أن تكون نسبة النمو هذا العام 5 في المئة وهي الأعلى منذ جيل وأكثر. في هذا النمو تبدو الاندماجات وكأنها صراع على الحصة الأكبر. فمن يأخذ ماذا؟
تفيد الإحصاءات أن حصة الأرباح بالنسبة إلى الدخل القومي في الولايات المتحدة قد ارتفعت خلال العام الماضي إلى نسبتها الأعلى منذ 75 عاماً، وفي أوروبا إلى نسبتها الأعلى منذ 25 عاماً. ويثير الموضوع تساؤلاً ما إذا كان ثمن هذه التحولات الاندماجية يدفعه المستهلكون والعاملون بطريقة أو أخرى. يُساق في هذا المجال تأثيرات الاندماجات على درجة التنافس. وحسب بعض التحليلات، فدرجة التنافس التي ازدادت في الولايات المتحدة بين عامي 1939 و 1980م شهدت تراجعاً ملحوظاً في العقدين الأخيرين إثر الموجتين الاندماجيتين المتعاقبتين. وإضعاف المنافسة لا يؤثر على الأسعار فقط، بل أيضاً على نوعية المنتج الذي يقدم إلى المستهلك. ويؤخذ على الاندماجات أيضاً ما ينتج عنها من صرف للعاملين. والاستياء الأهم في هذا المجال اقترن بالاندماجات ذات الطابع المالي، في شراء شركات وتفكيكها وبيعها. وآخره، أن العولمة الاندماجية الجارية لا تراعي الخصوصية المجتمعية للبلدان. ولذلك، فمن الممكن استنباط أشكال من الحماية في هذا المجال على مستوى الاتفاقات الدولية لكي تضمن اعتباراً لتلك المصالح والخصوصيات. وربما تقدم التوجيهات الأوروبية حول موضوع الاندماجات بين الشركات الأوروبية، بما تضمنته من بند يراعي حماية خصوصية العقد الاجتماعي الألماني مثلاً صغيراً لما يمكن أن يكون عليه اجتماع مصالح لا تسير كلها بالضرورة في نفس الاتجاه.
اقرأ للاقتصاد
النهضة الاقتصادية في الصين
الحاضر والمستقبل و.. الأمثولة
العصر الصيني هو آخر الإصدارات التي تكاثرت في الأونة الأخيرة، ولا شيء يوحي بأنها ستشبع قريباً القرّاء المتعطشين إلى معرفة المزيد عن النهضة الاقتصادية في الصين، أسرارها، واقعها، وأثرها على الاقتصاد العالمي وتوازن القوى خلال السنوات المقبلة.
مؤلف هذا الكتاب هو أوديد شينكار، الإداري والاقتصادي المعروف عالمياً، حامل شهادة دكتوراة في الفلسفة من جامعة كولومبيا، وعضو في عدد كبير من أكاديميات الأعمال، ومستشار لدى عدد أكبر من المؤسسات متعددة الجنسيات. وقد أمضى المؤلف نحو 30 سنة وهو يتابع الحركة الاقتصادية في الصين، وسبق له أن وضع أبحاثاً عديدة حولها. في هذا الكتاب يستعرض كيف تستعيد الصين وهج إمبراطوريتها الغابرة عبر تكريس التقنيات الحديثة واقتصاديات السوق في نظام تحكمه البيروقراطية والحزب الشيوعي. فعلى مدى 312 صفحة يتناول المؤلف أوجه الاختلاف ما بين تطور الاقتصاد الصيني المتسارع عن غيره مثل اليابان والهند والمكسيك، وما سيؤدي إليه ذلك في النظام التجاري العالمي، وأثر تطور الصين على كل مستهلك وشركة في العالم.
عمالة رخيصة، ملايين الحرفيين المهرة، صناعة سيارات وأدوات كهربائية أسرع وأوفر، تكتل هونغ كونغ وتايوان وسنغافورة والشتات الصيني، قرصنة، تزوير، ملكيات فكرية مستباحة.. عناوين كثيرة ومثيرة لقضايا تشغل المراقبين الذين يتطلعون صوب الصين والأهم من كل ذلك هو التوازن المرتقب مع الولايات المتحدة الأمريكية.
في مقدمة الطبعة العربية التي صدرت قبل أسابيع عن الدار العربية للعلوم، كتب المترجم سعيد الحسنيه يقول إن العولمة التي بدأت قبل قرون عديدة، وليس في وقت قريب هي التي سمحت للغرب عموماً، وللولايات المتحدة خصوصاً، باحتلال مركز الريادة الاقتصادية والسياسية. وهي نفسها التي ستسمح للصين، في مستقبل يراه الناس قريباً، بأن تسير جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة، وحتى أن تتجاوزها حسب بعض التوقعات . ويضيف أن السؤال الأهم هو: كيفية استفادة منطقتنا من جوهر الأمثولة الصينية القائل بأخذ التقنية الغربية من دون الأخذ بالقيم الغربية، فهل هذا شيء مستحيل؟