لا بد لكل صاحب مكتبة مهما صغر أو كبر شأنها أن يواجه ما بين الحين والآخر قضية إعارة كتاب منها لشخص يطلب ذلك. فإن ضنّ بإعارته قاسى مرارة الاتهام بالبخل وحبس العلم، وإن قَبِل انتابه شعور -مبرر في أحيانٍ كثيرة- بفقد كتابه نهائياً. هذه القضية قديمة قِدَم ظهور الكتب والمصنّفات. الدكتورة خديجة عبدالله سرور الصبّان تعرض مواقف الشعراء من هذه المسألة، متناولة انقسامهم حولها وبعض ما قالوه في هذا الشأن، والكثير منه لا يخلو من الطرافة.
اتفق القدماء على أنَّ إعارة الكتاب لمن يطلبه واجبة، لكنَّهم انقسموا حيال التنفيذ إلى فريقين: فريق رأى ضرورة تنفيذ ذلك الواجب لأسباب ذكرها، والفريق الآخر رأى الضنَّ مع الوجوب أسلمَ له وأحفظَ لكتبه. ولنستعرض بعض ما جاء عنهم: قال أبو وهب محمَّد بن مُزاحم: أوَّل بركة العلم إعارة الكتب. ورُوي عن يُونُسَ بن يزيد أنَّ الزُّهريَّ قال له: يايُونُس: إيَّاك وغُلُول الكتب، فسأله: وما غُلولُ الكتب؟ أجابه: حبسُها عمَّنْ يطلبُها. ورُوي أنَّه أتى أبا العتاهية أحد إخوانه، فقال له: أعِرْني دفتر كذا وكذا، فقال أبو العتاهية: إنِّي أكرهُ ذاك، فقال له المستعير: أمَا عَلِمْتَ أنَّ المكارمَ موصولةٌ بالمكاره؟! فدفع إليه الدَّفتر. وأنشد أبو الكريم الحوري:
كُتْبي لأهل العلم مبذولةٌ
أيديهُمُ مثلُ يَديَّ فيهـا
متى أرادوها بـلا مِنَّـَةٍ
عاريـةً فَلْيستعيروهـا
حاشايَ أن أكتُمَها عنْهُمُ
بُخْلاً كما غيري يُخفيها
أعـارَنا أشياخُنا كُتْبَهُمْ
وَسُنَّةُ الأشياخِ نُمضِيها
ذلك هو موقف الفريق الأوَّل: الدَّفع مع الكراهة.
أما موقف الفريق الثاني -وهو الذي رأى الضَنْ مع الوجوب أسلم-، تكشفُ عنه أبياتُ مجموعة من الشعراء أعلنوا فيها رفضهم القاطع لإعارة الكتب، مع عرضهم للأسباب التي دفعتهم لاتخاذ ذلك الموقف. قال مسافرُ ابنُ محمَّد البَلْخي:
أجودُ بِجُلِّ مالي لا أُبالي
وأبخلُ عند مسألةِ الكتابِ
وذلك أنَّني أفنيتُ فيـه
عـزيزَ العُمر أيَّامَ الشَّبابِ
وأنشد الأميرُ سعد منصور بن محمَّد العَاطِيَ، يقول:
لا تَسْتَعِرْ شيئين مِنِّي صاحِ
وسِواهُما فاطلُب تَفُزْ بنجاحِ
أمَّا الكتابُ فإنَّه لي مُؤنسٌ
وإعارةُ المركُوبِ فهْوَ جَناحي
وقال بعضهمُ :
لا تـُعــــيــــــــــــرنَّ دفـــــتــــــــــــراً لا بـوجـهٍ ولا سببْ
كــــــــمْ كتــــــــابٍ أعـــــــــــــرتــــهُ زعـموا أنّـَه ذهـبْ
فــــــــــــــإذا مـــــــــا طلــــــبـتــــــــهُ أَوْجَبَ الصَّدَّ والغضبْ
وبالنظر في الأسباب المذكورة في الأبيات السابقة -وهي التي حملت هذا الفريق على رفض الإعارة رفضاً قاطعاً- نرى أنها لا تختلف عن الأسباب التي يعانيها المعيرون في عصرنا الحاضر، على الرُغُم من بُعْد الشُّقة واختلاف طبيعة القرّاء وظروف ووسائل انتشار الكتب، وهي تتراوح ما بين المماطلة، والغضب من مطالبة صاحب الكتاب باسترداده، وعدم الرّدِّ بحجة أن الكتاب قد فُقِدَ.
البحث عن حل: الرهن؟
تلك هي مواقف القدماء من القضية وأسبابها، فما هي طُروحاتهم لحلِّها؟؟
رأت جماعةٌ من أصحاب الكتب الحلَّ في إسداء النُّصح إلى المستعيرين علَّه يَردُّهم إلى الجادَّة فينالوا بُغيتَهم ويحفظوا حقوق المُعِيرين، أنشد الحسنُ بنُ علي لبعض أصحابه:
أيُّها المستعيرُ مِـنيِّ كـتابـاً
اِرْضَ لي منه ما لنفسك ترضى
لا ترى ردَّ ما أَعَرْتُـك نفْلاً
وترى ردَّ ما استعرْتُك فرضـا
وأنشد أبو محمَّد بنُ نصرٍ السُويدي -وهو من أهل أذربيجان- حاثـّاً على الإعارة لما لها من فضل، وعلى حُسن الرّدِّ لما له من أثر حسن على ديمومة تلك الفضيلة:
أعِرْ صديقكَ ما حصَّلتَ من كُتبٍ
تَفُزْ بشُكرِ أريج النَّشْرِ عن كثبِ
فـإنْ أعاروكَ فاردُدْها على عجلٍ
حتَّى تُعارَ بـلا مَنْعٍ ولا نـصبِ
ورأت جماعة أخرى أن يجيء الحل عمليّاً، فاستحسنوا أخذ الرهن على ما يُعيرونه من كتبهم، وقالوا الأشعار في ذلك، قال محمَّد بنُ خَلَفٍ بنُ المَزْرُبان:
أَعِــــــــرِ الدَّفتــــــــــرَ للصــــــــا حِـبِ بالرَّهْنِ الوثيق
إنَّـــــه لـــــيـــــس قـــــــبـــــيـــحــــاً أخذُ رَهْنٍ مِنْ صديق
وأنشد عليُّ بنُ أبي بكرٍ الطِّرازي:
يامســـــتعــــــيرَ كِتـــــابـــــــــــــي لا تُـكثِرنَّ عِتابي
إلَّا بــــــرَهْــــــنٍ وثــــــــــــيــــــــــــقٍ من فضَّةٍ أو ثيابِ
وأنشد أبو الحسين بن الطُيوريُّ لبعضهم ببغداد:
جلَّ قدرُ الكتابِ ياصاحِ عندي
فهو أعلى من الجواهر قـدرا
لستُ يـومًا مُعيرُه من صديقٍ
لا ، ولا مِنْ أخٍ يُحاول غدْرا
مـا على مَنْ يصونه مِنْ ملامٍ
بـل له العُذْرُ منه سِرًّا وجهْرا
لـنْ أعـيرَ الكتاب إلاَّ برهْنٍ
مِـنْ نفيسِ الرُّهونِ تِبْرًا وَدُرا
وذلك الحل العملي المقترح (أخذُ الرهن) يصطدم بنظرة غير إيجابيَّة من البعض إليه، خاصة إذا كانت العلاقة التي تربط المُعير بالمستعير شديدة الوثوق؛ إذْ سيُنظر إلى طلب الرهن على أنه دليلٌ على عدم الثقة، وهو ما سيُلقي بظلاله القاتمة على تلك العلاقة لوماً وعتاباً إلخ.
ولتعضيد موقف أصحاب هذا الحل، ورفعِ الحرج عنهم نعرض القصة التالية، ففيها ردٌ مُقنِع على أصحاب تلك النظرة غير الإيجابية إلى أخذ الرهن، رُويَ عن الأصمعيِّ أنَّه قَدِمَ عليه صديقٌ من خُلَّصِ أصدقائه يستقرضه مالاً، فقال الأصمعي: أفعلُ وكرامةً، ولكنْ سكِّن قلبي برهنٍ أو كتاب (سند استلام) ، فقال الصديق: ياأبا سعيد، ألستَ واثقًا بي؟! أجابه: بلى، ولكنْ هذا خليلُ الله كان واثقاً بربِّه حين قال }رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي{، (البقرة: 260) .