حتى وقت الفراغ يمضي سريعاً. لذلك يبقى الإنسان دوماً في صراع أبدي مع الوقت. وكلما استبق وتحرك أكثر في إنتاج أدوات تختزل زمنه، فإنه يقترب أكثر من التحكم به وإخضاعه لمشيئته. ومن دون القدرة على الاستباق، وبالسرعة المستحقة، فإنه لن يحصد غير التخلف والبقاء رهينة لماضٍ بغير حاضر أو مستقبل.
لفتني في زاوية «بداية كلام» (العدد السابق من مجلتنا الغراء رقم 5 في شهر سبتمبر / أكتوبر 2015م) تنوع الطرح الذي عقَّب فيه عدد من الإخوة والأخوات على القول إننا إذا كنا في عصر السرعة، فإن ذلك يستلزم أن يكون لدينا وقت فائض أكثر. واتفق الجميع – كلٌ من زاويته ورؤيته – أن ذلك لم يحدث مع الأسف الشديد!.
عالم اليوم متسارع، بفضل تطور قدرات الإنسان بشكل هائل على صناعة وسائل وأدوات قادرة على اختزال الزمن في أضيق نطاق ممكن لتوفير الكفاءة اللازمة للمعاش والحياة فيه. لكننا يجب ألَّا نغفل عن حقيقة أن مفهوم السرعة؛ ليست مسطرة موحدة تخضع لها كل الأشياء في حياتنا. هي تفصيل صغير؛ لكنه شديد الأهمية.
السرعة دائماً ضرورة في عمليات زيادة الإنتاج. لكن لا قيمة تذكر للسرعة إن أفرزت عملاً غير متقن. فالجودة والإتقان – وبالسرعة اللازمة – هي سنام هذه المعادلة برمتها. ومن دونها تبدو سرعة الزمن كتوقفه.
البطء حتمي في التفكير والتخطيط وإعطاء وقت كافٍ تحتاجه لضمان جودة المنتج. وأتفق تماماً مع طرح الفنان التشكيلي فهد القثامي في قوله «بقدر ما يقدِّم لنا هذا العصر من رفاهية مجبولة بالسرعة والإتقان بأقل مجهود بدني، تجده يطالبنا بإلحاح بأعمال وإجهاد مضاعف للذهن». نعم؛ لهذا التسارع ضريبة هائلة تنعكس على الإنسان غير المواكب لحركة الوقت بالسلب والعواقب الوخيمة. ليس أقلها هدر الموارد، وبطالة للطاقات المنتجة، وتنكباً لطرق العجز والإفلاس والتخلف في السباق عن الآخرين.
مع الأسف، يغلب على العالم العربي فهم السرعة بأنها مجرد «إنجاز عاجل» دون أي أطر أو ضوابط محددة، وليس كما ينبغي أن تفهم بأنها تعني الحصول على أفضل نوعية في أقل زمن ممكن.
العالم الأول لم يكن أولاً لولا مواكبته لحركة التسارع، بل ربما تَقَدُّمه تقنياً وتحكُمه في صناعة مزيد من الأدوات المختزلة للزمن، لإنتاج ما يكفي احتياج مجتمعاتها للعيش الرغيد بسلاسة وتصالح مع معطيات حياته العصرية. وهنا أستطيع تماماً فهم ما طرحته الأستاذة ميرنا زعيتر في قولها «إن عصر السرعة بالنسبة لي هو الوقت الذي أمضيه في العمل، وأن وقت الفراغ هو الذي أكون فيه خارج العمل».
ما زالت أثمَن الأشياء في حياتنا بالأمس واليوم والغد هي تلك التي تأخذ وقتاً كافياً من المهارة والصبر لوصولها إلى درجة الكمال، لتحقيق أجود ما يمكن في أقل وقت ممكن. وهو تماماً ما ذكره الأستاذ الخطاط مأمون أحمد في رأيه المنشور «لو كانت السرعة قيمة حقاً فهي في جعلها الأعمال التي تنجز بتأنٍ هي الأعلى والأغلى». وبناءً عليه، فإن فهمنا لعامل السرعة يجب أن يؤطر في أنه جهد مجدٍ ودؤوب لضغط زمن عملية الإنتاج، وتوفير الآليات التي تحقق ذلك بكفاءة وبدون أي احتمال للخطأ. تماماً كما يحدث مع المنتجات الصناعية. فكلما ارتبطت عملية الإنتاج بالسرعة، فإنها بالتالي ترتبط بعامل تلبية الحاجة الماسة والاستهلاك السريع.
خُلق الإنسان عجولاً، ذلك في سرعة ردّ الفعل بلا تفكير وتمحيص وتأنٍ لمعرفة الصواب. الصواب – كالجودة – في حاجة دائمة للتأني وأخذ الوقت اللازم لدراسة أي قرار قبل المضي فيه، بعدها تأتي السرعة كقيمة مضافة لحصاد أكبر فائدة من استثمار كل ذلك الوقت الذي استُهلك في التفكير والتخطيط الجيد للوقوف على مربع الصواب.
السرعة بلا جودة، هي تماماً كوقت الفراغ.. الذي يمضي سريعاً أيضاً!.