بالنسبة لقاطنيها وحتى زوارها، فإن أية مدينة هي أكثر من مجموعة الشوارع والأبنية والتضاريس الجغرافية بكل أبعادها ومساحاتها الدقيقة، إنها مجموعة من الذكريات والروابط العاطفية التي لا يمكن مشاهدتها على أية خارطة، أو على الأقل على معظمها. ولذا قام الفنان البريطاني غاريث فولير برسم خارطة لمدينة لندن، أراد أن يوثق فيها علاقته بالمدينة على مدى سنوات عشر.
يقول فولير إنه ليس لوجودنا أهمية كبيرة في المشهد الأوسع للحياة وبأنه عابر وسريع، لذلك شعر بالحاجة لتوثيق وجوده في مدينته لندن من خلال رسم خارطة للمدينة من نوع آخر. فعلى مدى سنوات عشر امتدت من سن الخامسة والعشرين إلى الآن عندما بلغ الخامسة والثلاثين، قام باستكشاف المدينة سيراً على الأقدام وعلى دراجته الهوائية، ونجح بالتقاط آلاف الصور، كما سجل مئات الملاحظات قبل أن يرسم خارطته الفريدة. وكانت النتيجة خارطة مرسومة باليد لم يستخدم فيها سوى الحبر الأسود يمكن عنونتها بـ «الجغرافيا السيكولوجية» لأنها أعطت الأهمية الشخصية والثقافية لمواقع وأماكن المدينة المختلفة.
إنها خارطة معقَّدة ومتداخلة، مملوءة بالرموز الخفية والتفاصيل التاريخية والذكريات الخاصة. فهناك علامة استفهام مكان عقارب ساعة «بيغ بن» الشهيرة وكأنه يتعجب بأن حتى ساعة «بيغ بن» لا تعرف الوقت الحقيقي في هذا الزمن المعقد. وهناك رسومات لوجوه ارتبطت في ذاكرته بأماكن معيَّنة ولكنها غابت عن هذه الدنيا. وهناك النوتات الموسيقية المتصاعدة من المسارح والمقاهي التي تُضفي على المدينة حيويتها ونبضها الخاص هذا، بالإضافة إلى الأوراق النقدية التي تطايرت من مبنى جيركين في الحي المالي للمدينة. وإذا نظرنا بدقة نرى المتشردين الذين ينامون تحت الجسور في شورديتش شرقي لندن، وغيرها الكثير من التفاصيل التي تعكس فوضى المدينة الساحرة.
هي خارطة تعكس شخصية المدينة، كما يمكن تلخيصها بالتجربة العاطفية التي يمكن الاطلاع عليها واختبارها وحتى المشاركة فيها.