مرَّ الكيان العربي عبر عقودٍ خَلت بعديدِ تحولاتٍ حادةٍ قادتهُ إلى حالة انفصام وتوهان، وأبعدته كثيراً عن مرابِضه الأولى؛ فضاع في تِيه الرقمية الجديدة بعد أن تخلّى عن القافلة والعيس، ولذا فهو اليوم بحاجة لِمن يعيد له ثوبَه الذي خلعه وارتدى بدلاً منه شيئاً لا يُناسب قيافَته البتة؛ فبعد هدير التحولات المتتابعة لم يعد لدينا شيءٌ نبرزه للجيل القادم الذي جاءت محاصيل قِطافه الأولى غير مطمئنة، جيلٌ يمسك بـ «الآيباد» كأنه اليراع، ويجلس طويلاً أمام قنوات الأفلام الأجنبية أكثر ما يجلس في أحضان جدّاته، إنه جيل الوجبة الجاهزة الذي ينتمي للآخر بدعوى الرفعة، ويمارس مع ماضيه وحاضره قطيعة شنعاء.
هذا الجيل لم يتثبّت بعدُ من مكونات هويته العربية التي في مقدّمتها اللغة العربية. إنه جيلٌ قفزَ إلى أعلى السارية دون أن يمرّ بمرحلة التأسيس والتأصيل، فلُغتنا اليوم لم تعد تعني أحداً وإن شاعَ بأنّها من اللغات الأُممية المُثبَتة في نواميس منظمات الأمم المتحدة، وبأنها لغةٌ ساطعٌ نجمُها ستنجو من الأفول القادم، غير أن عدداً من سدنتها ومُدركيها باتوا يستشعرون الخَطر المحدق، فقد صُنفت العربيةُ مراتٍ ومرات وراحت إيقاعاتها ورسمُها يختفيان بين تلافيف اللهجات والدارجة؛ فمرةً على أُسس عرقية ومناطقية تتبع لخصوصية متحدّثيها شرقاً وغرباً، سهلاً ووادياً، ومرة أخرى بشكل عمودي تبعاً للطبقة الاقتصادية، إذ لهجة المترفين غير تلك اللهجة التي تُبتسر وتضيق على ألسنة أصحابها كلما ضاق الشارع وازدحم بقاطنيه.
ومما لا شكّ فيه أن المعطيات الاجتماعية الحديثة قد تغيرت وأن مساحة البون بين الأصيل والمعاصر قد تفاقمت وما تلبث تتسع وتتسع.
لقد رَخّصت وزارات التربية والتعليم في العالم العربي عملَ المدارس الخاصة، وكان ذلك أمراً غير مرفوض بل يُقبَل على أساسٍ من تنويعِ مصادرِ التعليم والتنافُسيّة وتباين أساليب التعلّم. لكن، وبعد مضيِّ الوقت راحت تلك المدارس تَضعُ خُططها الدراسيّة خاليةً من مناهج العربية، وتعدها مساقاً من مساقات الثقافات أو مهارات التواصل، وكانت دعوى القائمين على هذه المدارس هي أن ملتحقي هذا البرنامج هم مِمن لم يدرسوا العربية أبداً أو مِمن ولِدوا في بيئات غير عربية، وهو ما يطلق عليهم بالجيل «الهجين»، غير أنّ الغلو في هذا التّوجه سيحطم أشياءَ ثمينةً يدركها العارفون؛ فأمر تيسير اللغة العربية وتبسيطها إلى حدّ السذاجة لا يستأهل أن تُلغى العربية من المناهج المدرسية، إذ اللغة وعاءُ فكرٍ وتاريخ وجغرافيا وفلسفة ومنطق ومهارات تواصل وتداول، فاللغة بمنزلة «السيما» الأولى واللافتة الأبرز لأي كيانٍ بشري، والابتعاد عنها يعني تعويم التربية وإلغاء خصوصيتنا الثقافيّة باعتبارها شكلاً أصيلاً من أشكال الوجود العالمي وجزءاً إنسانياً حاضراً وفاعلاً في الأوساط العالمية.
يكاد حضور العربية أن ينحصر اليوم على ألسنة الخطباء والمؤرخين وأهل الأدب، ففضلاً عن اللغات المحكية وما تحطّمه هذه المحكيات من الفصحى، فإن العربية تعاني أيضاً ازدواجاً يتَمثّل بتداول الإنجليزية والفرنسية بشكل جلي يكاد يطغى عليها. لا سيما في الأسواق وعلى اليافطات وفي «المولات» وأين يقع بصرُك، فالتراجعُ هنا ذوقيّ مفادُه أن الإنجليزية تُلهب حماس المتسوّق العربي وتثير شهيّته بدرجةٍ أكبر من العربية.
ولكي نتجاوز مربّع جلدِ الذّات والتباكي على الحالةِ التي وصلت إليها العربية لا بد لنا بدايةً من تهيئة بعض الحلول الجادة التي ستنقِذ ما تبقى من العربية بعد أن عَمِلت بها لغة «الشات» البلاستيكية المكوّنة من ثنائيّة لُغويّة وازدواجية؛ إذ إن لغة التخاطب والحوار بين أبناء عصر «الآيباد» هذا، هي العاميّات المَمزُوجة بشيءٍ من الإنجليزية والفرنسية، لغةٌ التقطت عَدوى السرعة والخفة في التواصل والتوصيل، لغةٌ نَالت من روحِ العربية وأفقدتها بريقَها، وفي الأثناء يرى لغويّون وتربويّون أن ثمة أملاً في تطويع المُنجز الرقمي لصالح تعليم العربية للناشئة، فجُلّ الألعاب الرقمية التي تستهدف الأطفال يمكن تعرِيبها والإشراف عليها، كما ويُمكن اقتصار التخاطب في مواقع التواصل الاجتماعي على العربية، غير أن حاجتنا لمؤسسةٍ عربية تتولى مسؤولية هذا المشروع ومراقبته وإنجاحه هي ما نفتقر إليه اليوم.
إذاً، هناك حاجةٌ لدقِّ ناقوسِ الخطر وعقد مزيد من الملتقيات والمؤتمرات التي تُعنى بهذا الشأن، ذلك بعد أن تطورت أداة العصر رقمياً ولم تلتفت لاتِئاد العربي وبدأت تخطف منه أبناءه، ويبقى التساؤل إلى متى نبقى مجتمعاً يستورد كلّ شيءٍ ويستهلك حتى اللغة من الآخر؟