إنه واحد من أقدم المبتكرات إن لم يكن أقدمها على الإطلاق. وهو النصير الدائم للإنسان في مواجهة ظلام الليل الموحش. فمن دونه لشُلَّت حركة البشر ما بين الغروب والفجر، ولحذفنا من تاريخ الإنسانية كل ما أنجزته في لياليها على ضوئه..
اتخذ أشكالاً عديدة على مر التاريخ، ولا يزال يتطور يوماً بعد يوم، ولكن أياً كانت المواد المصنوع منها، من الحجر إلى الزجاج، وأياً كان وقوده من الحطب والزيت إلى الكهرباء، فإن مهمته تبقى واحدة: تبديد الظلام في محيطه تيسيراً للحركة والحياة والعمل وإيناس البشر في وحشة الظلام المقلق والمخيف.
ومع ملازمته للإنسان في حياته ألوف السنين، رأى هذا الإنسان وجود رفيقه تحصيل حاصل، لا يفكر فيه إلا عندما يفتقده، أما دوره الكبير في تطور الإنسانية فيكاد لا يثير اهتمام أحد، وهذا ما يحاول فريق القافلة تسليط الضوء عليه.. الضوء على المصباح.
تاريخ المصباح
الإنارة قبل المصباح
إذا استثنينا قمر الليالي المنيرة، كانت النار أول ما أنار ليل الإنسان قبل عشرات ألوف السنين، حين كان لا يزال صياداً، يتنقل في الغابات والبطاح، لا يعرف مستقراً ولا منزلاً يقيم فيه. لم تكن النار مصباحاً يمده بالضوء ووسيلة لتخويف الحيوان ليبتعد عن مواطن البشر فقط، بل مصدراً للدفء في برد الشتاء أيضاً، ثم صارت وسيلة لطهي الطعام.
من أين أتت النار لتنير ليلة الإنسان القديم؟ لم تكن عند الإنسان الأول بالطبع مصادر الوقود المتوافرة له اليوم، بل انه لم يبحث متعمداً عن النار، بل جاءته النار طوعاً، من حرائق الغابات وصواعق العواصف، على غير موعد. وتمكن الإنسان القديم في مرحلة ما، من ترويض وحش النار المخيف، الذي خشيه كثيراً، ولا يزال يخشاه إلى يومنا هذا. وتعلم الإنسان القديم فوائد النار، وكيف يحتفظ بشعلتها، لأغراض الضوء والدفء والطهي وإبعاد الحيوان المفترس. ويقول علماء الآثار إن أجدادنا في إفريقية، قبل مليون ونصف مليون سنة تقريباً، استطاعوا أن يستغلوا نار الشجيرات الجافة التي تشتعل في الطبيعة. وفيما بين 730 ألفاً و200 ألف سنة قبل عصرنا، تمكن إنسان العصر البلستوسيني الباكر، من حفظ شعلة النار حين يحصل عليها من المصادر الطبيعية، لكنه لم يكن بعد تمكن من معرفة وسيلة من أجل إشعال النار بنفسه، إذا شاء.
وخطا الإنسان خطوة واسعة في تاريخ الحضارة قبل ما بين 200 ألف و60 ألف سنة، حين تمكّن من اكتشاف طريقة ليشعل بنفسه النار متى شاء، وأينما شاء، فينير ليلته أو يطهو طعامه أو يتدفأ ويخيف الحيوان المفترس. وصارت حراسة النار الدائمة مهمة بالغة الأهمية عند الإنسان القديم الساذج، لأنه خشي انطفاءها، لصعوبة إعادة إشعالها. وكانت رفاهيته مرهونة بحصوله على هذه النار.
اختراع المصباح
لم يكن الضوء أمراً مكتسباً إذن، بهذه البساطة التي نعرفها اليوم. فقد أمضت البشرية مئات ألوف السنين لتصل إلى اكتشاف وسيلة الإنارة التي نسميها اليوم: القنديل أو المصباح أو الفانوس. فقبل 75 ألف سنة بدأ الإنسان البدائي يحمل عود حطب مشتعلاً معه لينير طريقه، أو كهفه. وفيما بعد اكتشف وسيلةً أحفظَ للنار وأطول عمراً من مشعل الحطب، إذ تعلم استخدام فتيل من ألياف النبات، يغمسه بشحم الحيوان. ولاحقاً صار يضع الشحم في تجويف حجر طبيعي يعثر عليه، إذ كان التجويف قادراً على احتواء مقدار أكبر من الشحم، أي انه صار مصباحاً أطول عمراً في إنارته. وكان بعض هذه المصابيح كبيراً غير قابل للنقل، أو صغيراً يحمله المرء حيثما شاء، وفق حجم الحجر المجوف ووزنه. وتعلَّم الإنسان البدائي فيما بعد أن ينحت الحجر، ليصنع التجويف الذي يناسبه، وربما تفنن فيه ليجعله جميلاً.
قبل 20 ألف سنة، صار الشحم والزيت الوقود المعتاد للمصباح. وعند ظهور الفخار، وبدء صنعه على نطاق واسع في الحضارات القديمة، لا سيما في مصر والعراق وسورية، صار الوعاء قطعة فنية يتبارى الحرفيون في صنعها وتجميلها، وأخذ الملوك والأثرياء يقتنون منها ما زوَّقه الفنانون بالذهب والبرونز وغير ذلك من وسائل التزويق. ويعثر البحاثة والمنقبون في مصر كل يوم على نماذج لا تحصى من مصابيح الزيت، مصنوعة من فخّار أو معدن أو منحوتة في حجر. ومنها ما يتخذ شكل حيوان أو طائر أو شكلاً هندسياً. ولعل أشهر التحف التي عثر عليها في هذا المجال، مصباح المرمر الثلاثي الأحواض، المنحوت في شكل زهرة اللوتس، وقد وُجد في مدفن الفرعون توت عنخ آمون (1325 قبل الميلاد). عند إشعال الفتيل المغمس في زيت هذا المصباح، كان يبث عبر المرمر الشفاف ضوءاً غامض الأشكال في المكان، يبعث على الخشوع والرهبة. وقد أضاف المصريون الملح إلى زيت الإنارة لمنع انبعاث الدخان من النار المشتعلة. لكن الدور الاقتصادي الذي لعبه المصباح لم يكن قليل الشأن، إذ إن صنعة المصابيح كانت من أكثر المهن ازدهاراً، لحاجة الناس الماسة إليها، من أدنى طبقات المجتمع إلى أعلاها. وكان أمراً محسوماً أن تكون لهذه الصنعة مكانتها في الاقتصاد القديم.
أداة التفوق الحضاري
ظهر مصباح الزيت في مصر أولاً قبل نحو ستة آلاف عام، لكنه كان بدائياً، منحوتاً في حجر، وكان الفراعنة الأوائل يستخدمون فيه زيت الزيتون أو زيت الخَروَع أو الودك، شحم الحيوان، أما الفتيل فكان من الكتّان. وكانت الإنارة ليلاً من أسباب تفوق الحضارة الفرعونية، ومن أدوات هذا التفوق، لأنها كانت تتيح مواصلة العمل ليلاً، في المشاريع الكبرى. لكن هذه الإنارة كانت كذلك من مظاهر الاحتفال بالأعياد والمواسم. ويصف هيرودوتس في القسم الثاني من: التواريخ، ليلة منيرة في مصر القديمة، فيقول: الآن كل المصابيح مضاءة، مليئة زيتاً مملّحاً، فيما يطفو الفتيل فوق الزيت، مشتعلاً كل الليل، في هذا المهرجان المسمّى: لِخنوكايا (أي مهرجان إنارة المصابيح).
أما مصباح الزيت في وادي الرافدين، فظهر مصنوعاً من صدف بحري، يُوضع فيه الزيت أو الشحم، مع فتيل يُشعل للإنارة.
وكان ظهور الفخّار أحدث ثورة في صنع المصباح، إذ صار الصانع يتحكَّم في حجمه ويتفنّن في شكله، وكان الفتيل من كتّان.
وأخذ زيت الزيتون ينتشر في استعمال الحضارات المختلفة في مشرق البحر المتوسط. وكان مفضلاً. ولم يمض وقت طويل حتى أخذ صناع المصابيح يضيفون على رأس الفخارة المجوفة وفي مقدمها صنبوراً، يخرج منه الفتيل، من أجل أن ينحصر احتراق الزيت في طرف الفتيل، وتبقى صفحة الزيت مخبأة من اللهب، فيدوم الضوء مدة أطول ويوفَّر الزيت. وكان من فائدة الصنبور أيضاً أنه ثبّت الفتيل عند مخرجه. وكان هذا التطور يتسارع في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، في بلاد الرافدين ووادي النيل.
في هذه المرحلة أخذ اليونان يطورون هم الآخرون المصباح المشرقي، ويتفننون في صنعه. وقد أضافوا إليه مقبضاً، في الطرف المقابل للصنبور. ثم استخدموا الزجاج في صنعه، فتجنبوا بذلك رشح الزيت الذي كان يحدث من مصباح الفخّار. ولوَّنوا المصباح الزجاجي بالأسود والأخضر القاتم، وألوان أخرى. وقد انتشرت المصابيح اليونانية في إيطالية، في القرن الرابع قبل الميلاد، حين كانت حضارة روما في مراحل نشوئها الأولى. وكانت قرطاج (في تونس اليوم)، قد سبقت الرومان في استخدامها مصابيح الزيت، في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، حسبما أثبتت آثار باقية من حضارتها التي ازدهرت في تلك الحقبة.
لم تكن روما القديمة تنير شوارعها. وكان الجنود يباتون ليلهم وراء الأبواب الموصدة، لأنهم كانوا يخشون أن يتعرضوا لسوء في الظلام وهم غير مبصرين. ولم يكن يطوف في الليل إلا الأغنياء الذين كانوا يملكون عبيداً، ينيرون لهم الطريق بالمشاعل. ولم تعتمد إنارة الشوارع في الليل، في روما، إلا في القرن الميلادي الرابع. عندئذ أخذ أمن الشوارع في الليل يتحسن.
وأتاح استخدام الفخّار والزجاج لصانعي المصباح أن يشكلوا فيه. فمنهم من كان يصنعه في شكل خوذة أو رأس آدمي أو رأس حيوان. وكانوا يصنعون ما يناسب الطقوس الدينية، أو ما يلبي رغبات الملوك والأثرياء وأصحاب النفوذ الذين يوصون بصنع مصابيح خاصة لهم تحمل رمزاً من رموزهم، أو دمغة تدل على صاحبها. وبذلك راوحت المصابيح التي عثر عليها المنقّبون عن الآثار، بين أبسط المصابيح التي كانت تنير بيوت الناس العاديين، وأثمن التحف الخالدة التي حفظت لنا عبقرية فنان مجهول من عصر انقضى. ومع بعض المصابيح، بقي لنا اسم مالكها محفوراً في أسفلها، أو اسم الإدارة التي ملكت المصابيح، أو حتى اسم الصانع نفسه. وكانت أسماء الصانع المحفورة هذه من أوائل الأسماء التجارية التي شهدها تاريخ البشر، فيما نعرف.
وفيما بعد أخذ صناع المصباح يصنعون أيضاً قواعد لنصب الشمع، في سبيل الإنارة. وكانت القواعد مستوحاة من مصباح الزيت. لكن صنبورها الذي تثبّت فيه الشمعة كان لا بد من أن يكون في وسط القاعدة، لا في طرفها، فيما بقي المقبض عند الطرف بالطبع.
وفي إحدى مراحل تطور الإنارة، أكثر الصنّاع في المصباح الواحد، عدد الصنابير والفتائل، أو عدد ركائز الشمع. وزاد بعض الصنّاع على المصباح مرآة أو أكثر، لأجل أن يزيد النور المعكوس قوة الإنارة، أو تركيزها على زاوية معينة، يريدون توجيه الضوء إليها.
ومنذ الأعصر الفرعونية القديمة، أخذ ذوو الموتى الوثنيون يدفنون مع موتاهم قناديل، ظنوا أنها ضرورية عند القيامة. وانتقلت هذه العادة إلى الرومان فيما بعد.
القرون الخمسة الأخيرة
في القرن الخامس عشر تقريباً، أخذ بعض الأثرياء في البلاد الأوروبية، يضعون على نوافذ بيوتهم قناديل. ويشعلونها طول الليل، لا لإنارة الشارع في الحقيقة، بل للدلالة على بيوتهم. وكان الناس يستدلون بهذه المصابيح للاسترشاد في شوارع المدن ليلاً، إذا اضطروا إلى الخروج، مثلما تسترشد السفن بالمنارات في الليل. وكان لهذه الأنوار دور آخر لا يقل قيمة عن الأول، وهو بث شيء من الأمن في بعض المناطق، فالشارع المضاء كان يجتنبه اللصوص، لسهولة ملاحظتهم في نور المصباح.
وفي العام 1667م، أمر الملك لويس الرابع عشر بناءً على نصيحة رئيس شرطته، بإبدال المصابيح المنزلية، وإقامة مصابيح أخرى بلدية، من زجاج، تعلَّق بحبل، في وسط كل شارع. ويدل هذا على أن الغرض الأول كان حفظ الأمن، في عتمة الليل. وكان في كل قنديل، شمع يزن نحو ثلث رطل، تكفي للإنارة حتى منتصف الليل، أشهر الشتاء الخمسة. وكان في باريس وحدها 6500 قنديل، تستهلك 1625 رطلا شمعا في الليلة.
وفي لندن أيضاً، بدأت الإنارة ببادرة خاصة أولا. ففي سنة 1694م، حصل إدوارد همينج على رخصة لوضع قنديل عند كل عاشر بيت، يُضاء بين السادسة مساء ومنتصف الليل. وحصل على حق أن يجبي من كل بيت 6 شلنات في السنة لقاء هذه الإنارة. لكن نزاعاً بين نقابة صانعي شمع الشحوم وهمينج، انتهى بسحب رخصة الأخير سنة 1716م. وهكذا عادت السلطة في شوارع لندن ليلاً إلى قطاع الطرق، حتى سنة 1736م، حين أنشأت بلدية المدينة نظام قناديل تعمل بالزيت، فوزّعت منها خمسة آلاف. ولم تلبث هذه القناديل أن تضاعفت ثلاث مرات، في غضون سنتين، على الرغم من اعتراض صانعي شمع الشحوم. وقيل إن شارع أكسفورد وحده كانت فيه من القناديل أكثر مما في باريس كلها.
ومع هذا لم تكن الإنارة تعم كل الشوارع كل الوقت، وظل المرافقون الليليّون بمشاعلهم، يعملون طويلاً في المدن الأوروبية. وقد وظفت شرطة لندن كثيراً منهم لمكافحة السرقة، فيما استفادت شرطة باريس من هؤلاء المرافقين الليليّين، لتوظيف جواسيس لها، يراقبون حركة المشبوهين في الليل.
ظل هذا الأمر حتى أول القرن التاسع عشر، عندما ظهرت الإنارة بالغاز. فبدأت المدن نظام إنارة واسع النطاق، وموثوقاً فيه. ففي سنة 1807 بدأت لندن الإنارة العامة بالغاز، ثم بلتيمور في ولاية مريلاند الأمريكية سنة 1816، وباريس سنة 1819، فبرلين سنة 1826م. واعترض سكان مدينة كولن (كولونيا) الألمانية سنة 1816 على الإنارة بالغاز لأنها «تخيف الخيل». وكان على الناس أن ينتظروا نحو نصف قرن لتظهر الإنارة بالكهرباء، أول مرة.
عصر إديسون والكهرباء
لم تفز البشرية بالكهرباء التي لا نتخيل العصور الحديثة من دونها، بضربة واحدة، بل كان اختراع المصباح الكهربائي مسيرة تطور، اجتازت مراحل قبل وصولها إلى المرسى النهائي. فالعالم الحديث عالم مكهرب، إذا جاز التعبير. إذن لا يمكن أن نتخيل العالم الحديث بلا الكهرباء التي أخذت تبرز طلائع حضورها في منتصف القرن التاسع عشر.
بدأ جوزف سوان سنة 1850م، يعمل في صنع مصباح كهربائي كروي من زجاج، يستخدم فتائل ورق مُكَربَن (مكسو بالكربون). وحصل سوان على براءة بريطانية لمصباح زجاج نصف مفرغ من الهواء، سنة 1860م. ومبدأ المصباح الكهربائي الأول، تفريغ المصباح الزجاجي من الهواء ما أمكن، حتى إذا مرّ التيار الكهربائي بفتيل الورق المكربن، توهّج الفتيل من دون أن يحترق، لافتقار المصباح إلى الأوكسيجين. وفي سنة 1877م، أنشأ إدوارد وستون، وهو طبيب بريطاني يحب الكيمياء، هاجر إلى أمريكا، شركة «وستون داينمو ماشين» في نيوارك بولاية نيوجرسي، وبعد سنة أنشأ توماس إديسون وهو أمريكي من أصل هولندي، شركة إديسون الكهربائية للإنارة، وتبعه في العام نفسه حيرام مكسيم، بتأسيس شركة الإنارة الكهربائية الأمريكية. وسُمّي المصباح الذي عمل في تطويره كل هؤلاء، المصباح المتوهج (Incandescent Lamp).
كانت أوجه التطوير تتناول على الخصوص تحسين إفراغ الكرة الزجاجية من الهواء، لأن بقاء بعض الهواء فيها كان يقصّر عمر الفتيل المتوهّج. كذلك أخذ المطورون يعملون في تحسين نوع الفتائل نفسها، ليطول عمرها. وكانت سنة 1879م سنة حاسمة، حصل فيها إديسون على براءة اختراعه مصباح الإنارة. وأخذت في السنوات التالية تتوالى مراحل التطوير، وإنشاء الشركات العاملة في الميدان، حتى كانت سنة 1892م، حين اتفقت شركة إديسون للإنارة الكهربائية وشركة تومسون هوستون الكهربائية، على الاتحاد في شركة سمّيت: جنرال إلكتريك، وهي اليوم أكبر شركة في العالم.
حدثت هذه التطورات، فيما كانت الإنارة بالغاز صناعة ناضجة ومعتمَدة على نطاق واسع، وكانت البنية التحتية للإنارة بالغاز منتشرة في مدن العالم، ورخص الاستثمار تقيم شبكة صناعة رائجة ترتبط بها مصالح واسعة وكبيرة. وكانت صناعة أدوات الإنارة بالغاز مهنة رابحة، والناس معتادين على مصدر النور هذا. ولم يكن المصباح الكهربائي جاهزا للمنافسة في مراحل عمره الأولى، إذ كان كبيرا وشديد التوهج، ولم يكن مناسبا لإنارة الأماكن المحصورة في داخل المنازل. وكان على المخترعين أن يحسنوه بتصغير حجمه وتخفيف إشعاعه.
لكن هذا لن يمنع شركات صناعة الكهرباء الناشئة من التفريخ مثل الفطر، لقدرة الاختراع الجديد على اجتذاب أصحاب الطموح.
إنارة المدن بالكهرباء
في سنة 1880م، أسس تشارلز براش شركة كهرباء حملت اسمه، وأقامت نظام إنارة كهربائية بالقوس الكهربائي (لا الفتيل المتوهج) في مدينة واباش، بولاية إنديانا الأمريكية. ولم تكن الإنارة في مدينة كليفلاند بولاية أوهايو، في السنة السابقة، إلا تجربة أولية. لكن كليفلاند لحقت واباش على الفور في إنارة طرقها وشوارعها بالكهرباء.
وسارت المنافسة في السنوات التالية بين الشركات العديدة، على مسارات لتحسين الفتائل والمصابيح وتقوية الضوء والمولّد (الدينامو)، وتقليل الحرارة والعثور على المعادن الأنسب التي لا تذوب من الوهج، إذ كان الفتيل الأول في مصباح إديسون يذوب في ساعتين. فجرب إديسون فتائل البلاتين ثم القطن المكربن والتنجستن، وغير ذلك من المواد والسبائك المتنوعة. وفي سنة 1906م، كانت شركة جنرال إلكتريك صاحبة أول براءة لاستخدام فتيل التنجستن في مصباح التوهج. وكان الفتيل باهظ الثمن في البدء، لكن وليام ديفيد كوليدج حسنه سنة 1910م، فلم يعد الفتيل يسوّد زجاج المصباح، وتفوّق في طول عمره على كل الفتائل الأخرى.
كان أثر الإنارة الكهربائية الاقتصادي، أبعد كثيراً من مجرد الإنارة وحدها، فتحسين المولدات وكل ما يتعلق بالمصباح الكهربائي، حسّن صناعة الكبل والبنية التحتية، وأخذت صناعة الأدوات الكهربائية تفرّخ، حتى إذا أهلّت ثلاثينيات القرن العشرين، كانت الأدوات المنزلية العاملة بالكهرباء قد حوّلت الحياة، وأسست لنمط عصري، لا يزال يتطور بلا توقف حتى يومنا هذا. وباتت أنواع المصابيح وأحجامها أكثر من أن تحصى، وتراوحت ما بين مصباح الجيب الصغير، والكشاف الضخم الذي ينير مساحات شاسعة تقع على بعد مئات الأمتار منه، فنرى شعاعه العملاق يتراقص في سماء المدن العصرية لتزيينها ليلاً، كما كان عود الحطب المشتعل زينة ليل الإنسان في العصر الحجري القديم.
شُبّيك لُبّيك عبدك بين إيديك
مصباح علاء الدين
حكاية علاء الدين، صاحب المصباح السحري، حكاية عربية قديمة، يقال إنها من بلاد الشام، ودرجت على قصص ألف ليلة وليلة. والمعروف أن ألف ليلة وليلة مجموعة قصص شعبية من بلاد الهند وفارس والبلاد العربية. ومن أبطالها علاء الدين وعلي بابا وسندباد. وقد ظهرت نسخة القصة التي نعرفها اليوم، سنة 1709م، على الرغم من وجود نسخ أخرى تختلف قليلاً أو كثيراً، ولكنها نسخ قديمة جداً بالطبع.
كان علاء الدين شاباً فقيراً يعيش في إحدى المدن، وفي يوم أرسله مشعوذ إلى كهف لإحضار مصباح، ولم يقل له إن هذا المصباح مسحور تحميه لعنة. وغضب علاء الدين لأن المشعوذ لم يخبره بحقيقة المصباح، فاحتفظ به. واكتشف أن ثمة مارداً يسكن المصباح، وأن هذا المارد يستطيع أن يلبي رغباته. ولذا طلب علاء الدين من المارد أن يجعله ثرياً. فصار ثرياً وتزوج الأميرة بدر البدور، ابنة السلطان. لم تكن الأميرة بدر البدور تعرف سر المصباح، فأعطته للمشعوذ الذي انتقم من علاء الدين فأعاده معدماً، وأخذ منه زوجته. لكن المشعوذ نسي أن يسترد من علاء الدين خاتماً سحرياً، كان أعطاه إياه حين أرسله إلى الكهف. وكانت للخاتم قوة سحرية محدودة، لكنها قادرة على تلبية بعض الرغبات.
كان علاء الدين يائساً حين فرك يديه، فإذا به يفرك الخاتم من دون أن يقصد، فيخرج من الخاتم عبد، يعيد علاء الدين إلى أمه، ويسترد المصباح، وبهذا الخاتم استطاع علاء الدين أن يهزم المشعوذ، ويعيد زوجته الأميرة.
هذه الحكاية الخرافية أضافها الكاتب الفرنسي أنطوان جالان سنة 1709م، إلى نسخته من ألف ليلة وليلة، بعدما سمعها من راوية حلبي اسمه يوحنا دياب. لكن المستشرق الفرنسي كوسان دي برسفال وجد حكاية شبيهة سابقة لهذا التاريخ، في مخطوطة أخرى لألف ليلة وليلة. ويدل هذا الأمر على أن قصة مصباح علاء الدين قصة شعبية كانت شائعة ومعروفة قبل ذلك التاريخ.
قصة علاء الدين ومصباحه، وعبارة: شُبّيك لُبّيك عبدك بين إيديك، التي ترمز إلى التمني الذي لا يُرَد، والخدمة المستعدة لتلبية أي أمر، ألهمت كثيراً من الأدباء والفنانين، منذ آدم أولنشلاجر، الذي كتب رواية علاء الدين سنة 1805م. وفي بريطانيا، لا تزال العروض الإيمائية لرواية علاء الدين ومصباحه، تُعرَض منذ نحو 200 عام. وأنتج ديزني، الأمريكي المتخصص بأفلام الكرتون، وصناعة الترفيه، أفلاماً عادية وأفلام رسوم متحركة، عن قصة علاء الدين. ووصلت حمى المصباح السحري إلى بوليوود، قصبة السينما الهندية، التي أنتجت في ستينيات القرن الماضي أفلاماً تتناول قصتي علاء الدين وسندباد. كذلك أنتج الإيطاليون والسوفيات أفلاماً في المصباح السحري. وفي برودواي، شارع المسارح في نيويورك، تمثيلية غنائية عن علاء الدين.
وقد أزيل في لاس فيجاس، عاصمة اللهو الأمريكي، السنة الماضية، فندق وكازينو، اسمه علاء الدين، كان قائما هناك ومشهوراً جداً، منذ سنة 1963م. غير أن اسم علاء لا يزال يعلو عشرات وربما مئات متاجر المصابيح الكهربائية العصرية ومصانعها، وكأن اسم هذا الفتى المتخيَّل أصبح رمزاً للضوء على مر العصور.
سيدة المصباح
ولدت فلورانس نايتنجيل عام 1820م لأسرة بريطانية ثرية، وعندما بلغت السابعة عشرة من عمرها قررت أن تكرّس حياتها للتمريض، عندما كانت هذه المهنة مرتبطة بالنساء الفقيرات من الطبقات الدنيا، يلحقن بالجيوش من ميدان قتال إلى آخر طلباً للقمة العيش. ورغم معارضة والديها لالتحاقها بالتمريض، استمرت في التزامها شغفاً من جهة، وتحدياً للأعراف السائدة في ذلك الحين من جهة أخرى. ويذكر التاريخ نايتنجيل لإسهامها في رعاية جرحى حرب القرم عام 1854م، حيث أٌرسلت إلى تركيا في مهمة رسمية مع 38 ممرضة أشرفت على تدريبهن لرعاية جرحى الجيش البريطاني ومرضاه هناك. وكانت في هدأة الليل تجول وحدها حاملةً مصباحها في أروقة المستشفى، تطمئن على الجرحى وتزودهم ما يحتاجون إليه، حتى اشتهرت بين الجنود باسم سيدة المصباح، وخلّد ذكرها الشاعر هنري لونجفيلو في قصيدةٍ جاء فيها:
لوْ! في تلك الساعة من البؤس
أرى سيدةً تحمل مصباحاً
تمر عبر الظلام الدامس،
وتنساب من غرفة لأخرى.
منارة الإسكندرية
مصباح العالم القديم سيضيء من جديد
من ضمن شهادات الشهود الذين رأوا منارة الإسكندرية نذكر ما كتبه آبيفانيوس الناسك الذي ولد في فلسطين عام 315م، وتوفي عام 403 بعدما جال في المشرق كثيراً، إذ وصف المنارة الشهيرة بقوله: «في مرفأ الإسكندرية ينتصب البرج المسمى منارة Pharos، عجيبة الدنيا الأولى. إنها مشدودة بالزجاج والرصاص، وترتفع 600 قدم».
لم يكن الارتفاع الذي زعمه إبيفانيوس محتملاً، ولم تكن الأعجوبة الأولى بين عجائب الدنيا السبع هي المنارة، بل الأهرام التي أنشئت قبل المنارة بقرون طويلة. وكان ترتيب المنارة بين العجائب السابعة. لكن حتى يقول إبيفانيوس في المنارة ما قال، لا بد أنها كانت مشهداً يستحق أن يُرى.
فقد وصف البكري، الجغرافي الأندلسي الأكبر (1009م – 1094م) المنارة التي رآها بأم العين، وكانت لا تزال قائمة، حين قال: «المنارة اليوم مكونة من أربع طبقات. الأولى مقطعها مستطيل، وهي مبنية على نحو مذهل من حجارة مكعبة مستطيلة المقطع، لكن المِلاط الذي يجمع بعضها إلى البعض، خفي حتى يبدو الكل كأنه مصنوع من كتلة حجر واحدة. وهي عصية على عوادي الزمن. أما ارتفاعها فيبلغ 320 ذراعاً (الذراع قياس مصري قديم، يبلغ 45 سنتمتراً، أي ان علو المنارة في قول البكري، كان 144 متراً). على رأس الطبقة الأولى يتراجع البناء مقدار سمك الجدار من كل جانب أي ثمانية أشبار (الشبر قياس مصري قديم آخر يبلغ 0.2286 متر، أي ان التراجع يبلغ 1.8288 مترا)، تزيد عليها 10 أذرع أخرى (4.5 أمتار) على السطح الذي يحيط بقاعدة الطبقة الثانية. وفوق هذا تقوم الطبقة الثانية ومقطعها مثمن الأضلاع، وعلوها 80 ذراعاَ (36 متراً). وفوق الطبقة الثانية يتراجع البناء مقدار سمك جدارها، وثمانية أذرع. ومن هذه المساحة المقفلة، يصعد المرء إلى مكان مستطيل مقفل، يبلغ ارتفاعه نحو 50 ذراعاً (22.5 مترا)، وفي أعلى كل هذا تجد مصلى».
ويواصل البكري وصفه منارة الإسكندرية الدقيق، فيقول: «عند الجانب الشمالي من المبنى، تجد كتابة لم يستطع أحد فك سرها، ولا فهم ما تعني. باب المنارة حديد، ولا علم لأحد عن زمن صنعه. ويصعد المرء من الباب في طريق منحن، من دون أن، يلاحظ انحناء الدرب. ويبلغ القاصد أعلى الطبقة الأولى حيث تتسع الطريق لمرور فارسين على فرسيهما معا… وعند كل منحنى من هذه الطريق، باب يدخله المرء إلى غرف مساحة كل منها بين 10 و20 ذراعا مربعة (بين 2.025 مترين و4.05 أمتار مربعة) غرضها التهوئة من نوافذها، وفيها كذلك كوى لتسريب الهواء، حتى لا تعصف الريح بالمنارة. ولولاها لأمكن للريح أن تهدم المنارة. أما عدد المنعطفات حتى قمة المنارة فتبلغ 72 منعطفاً، في كل منعطف 12 درجة». (النص مترجم عن ترجمة بالإنجليزية لوصف البكري، غير المنشور حتى الآن).
إذا احتسبنا ما قاله البكري في قياس ارتفاع منارة الإسكندرية، فإنه يبلغ 320 مع 80 و50 ذراعاً، أي 675 ذراعاً (202.5 مترين).
في سنة 1375م، قال الجغرافي العربي الكبير المقريزي (توفي سنة 1441م)، وهو صاحب كتاب المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار)، إن الطبقة العليا في منارة الإسكندرية انصدعت، من زلزال. وفي سنة 1480م، اتخذ السلطان المملوكي قايتباي من بعض حجارتها ليبني حصنا من حول قاعدتها، ثم انهار معظم ما بقي من المنارة في البحر.
وفي سنة 1995م، اكتشف المنقب الأثري جان إيف أمبرور في البحر، أمام شاطئ الإسكندرية بقايا المنارة، ومنها حجارة يزن بعضها 75 طنا، عند الطرف الشمالي الغربي من ميناء الإسكندرية الحديث.
وفي سنة 1421هـ، 2000م، جاء في نبإ من مصر أن الحكومة صرحت لشركة فرنسية أن تبعث منارة الإسكندرية من ركامها، لتبني المنارة من جديد، وفق الوصف الذي تركه لنا الأقدمون عنها، بالدقة التي تعيد إلينا عجيبة من عجائب العالم القديم، لتقف مع الأهرام، وحدهما شاهدين من ذلك الزمن المجيد، بعدما بادت العجائب الخمس الأخرى، فتلتقط نور الشمس المشرقة قبل الجميع، وتلاحق السفن عند المغيب، حتى مسافة 60 كيلومتراً في البعيد، بضوئها الدوّار.
مصباح الفضاء الروسي… ربما غدا، لا اليوم
بعد ظهر يوم الجمعة 29 كانون الثاني (يناير) 1999م، قرر الروس إعادة القمر الاصطناعي «زْناميا» (أي الراية) إلى الأرض.
الراية، لم تكن راية في الحقيقة، بل كانت مرآة عملاقة قطرها 25 متراً، كانت تجربة أولى فاشلة حاول الروس بها أن يضعوا حول الأرض مصباحاً ينير مدن الكرة الأرضية، من دون استهلاك وقود، بمجرد عكس أشعة الشمس على المناطق المظلمة ليلاً، من أجل توفير المال الكثير الذي يُنفَق في إنارة المدن، واستنباط مصدر مستدام سليم في المعيار البيئي. لكن المرآة الأشبه بمظلة تنفتح في الفضاء، لم تنفتح كما كان ينتظر، حين وصلت إلى مدارها. ولو انفتحت، لحظي بنورها عدد من مدن شمال أوروبا، في الاتحاد السوفياتي السابق كمدينة كاراجندة في كازخستان وساراتوفا في منطقة الفولجا الروسية، وجومل في روسية البيضاء، وكييف وخركوف وبولتوفا في أكرانية، وجمهورية تشيخيا وألمانيا وكندا. ولبلغ قطر المنطقة المضاءة 8 كيلومترات.
وبالفعل، سقطت مركبة الشحن الفضائي الروسية «بروجرس» وعليها المرآة «زناميا» في المحيط الهادئ، واحترق معظمها مع المرآة في أثناء دخول طبقات الجو العليا. وقال فلاديمير سولوفييف، مدير المراقبة في محطة الإطلاق، إن ثمة مرآة أخرى جاهزة على الأرض، لكنها لن تنطلق الآن، لأن جدول برامج الإطلاق لم يلحظ لذلك موعداً. ولم يستبعد ضم المهام المثيلة المقبلة إلى برامج الفضاء الدولية المشتركة. لكن المطلعين عزوا الامتناع عن تكرار التجربة، إلى نقص المال الحاد الذي كانت تعانيه روسيا، في أواخر عهد الرئيس بوريس يلتسين الأسبق.
وكانت تقارير سابقة قد أشارت إلى أن قوة النور الذي ترسله المركبة، لو نجح تشغيلها، يراوح بين مرتين و5 مرات قوة نور القمر البدر في الليالي الصافية. وهذا كاف في كثير من الحالات، للاستغناء ربما عن الإنارة في الطرق، لكن التجربة كانت أصلا تجربة لمشاريع لاحقة، قد تحسّن المرآة وتكبرها لتزيد قوة إنارتها فيما بعد.
صاحب المشروع هو تجمّع ريجاتا الروسي، تقوده شركة إنرجيا، في مدينة كوروليف السيبيرية، وهو يرمي على الخصوص، إلى إنارة مدن شمال سيبيرية، التي يلفها ليل طويل يدوم أشهرا، حين يكون الشتاء في نصف الكرة الأرضية الشمالي.
وعلى الرغم من أن المرء يميل إلى تمني نجاح مشروع يبدو ممتازاً من كل الأوجه، إلا أن بعض العلماء كان لهم رأي آخر في الفكرة. فقبل إطلاق «زناميا»، كتب طوني رايشهارت في مجلة «الجو والفضاء»: «يبدو الأمر جيداً، في ظاهره. فسنحصل على نور أكثر. لكن، هل نرغب حقاً في أقراص تسبح في الفضاء وترسل نوراً إلى الأرض؟» أما كيرين كارول، مديرة مشاريع الفضاء في «دايناكون انتربرايزز»، فقالت: «أشك في أن المشروع سينير القطب الشمالي». وقال ديفيد توماس، من جامعة شمال الغال، لهيئة الإذاعة البريطانية: «إن الإنارة الدائمة لمناطق شمال الكرة الأرضية ستسهم في إذابة الثلوج. وبعض الحيوان والنبات يعيش على وتيرة ظلام فصلي. كل شيء، التزاوج والحركة والغذاء، يعتمد على طول اليوم».
ويكره الفلكيون المشروع أيضاً، لأنهم يكرهون القمر البدر للأسباب ذاتها. فنور القمر، ونور المشروع الروسي أيضاً، يحول دون مراقبتهم الفضاء ليلاً.
وذات يوم، حين يعود الروس إلى المشروع، أو حين يحاوله الأمريكيون أو غيرهم في المستقبل، لا بد من أخذ هذا الاعتراض، على تنوع مشارب أصحابه واختلاف زوايا نظرهم، في الحسبان.
المصباح في الفن التشكيلي
ضوءه يطغى حتى على حضوره الكبير
درجت العادة على أن نعدد في ملفات القافلة حضور الموضوعات التي تناولتها هذه الملفات في الفن التشكيلي. أما فيما يتعلق بالمصباح فالأمر يتعدى الحضور القوي والمباشر إلى دوره البالغ التأثير في تاريخ الفن التشكيلي برمته.
فلو بدأنا بالتطرق إلى الحضور المباشر، لوجدنا أن عدد اللوحات التي تظهر فيها القناديل والفوانيس والمصابيح الكهربائية أكبر بكثير من أن يحصى. ونتوقف على سبيل المثال عند واحدة من أشهر اللوحات في تاريخ الفن على الإطلاق: «الغرنيكا» للفنان الإسباني بابلو بيكاسو.
رسم بيكاسو هذه اللوحة الجدارية العملاقة عام 1937م، رداً على قصف الطيران الحربي النازي مدينة غرينكا الإسبانية، وعرضها في السنة نفسها في باريس لتتحول بسرعة إلى أشهر لوحة في الفن الحديث بأسره، وثاني أشهر لوحة في التاريخ بعد «موناليزا» ليوناردو دي فنشي.
تمثل هذه اللوحة مشهداً داخلياً تجري أحداثه داخل غرفة، ومفعم بالعنف والمأسوية. وفي أعلى اللوحة عند منتصفها نرى مصباحاً كهربائياً رسمه الفنان على شكل عين تتطلع إلى الوحشية الجارية تحتها (ثور يدوس امرأة مستغيثة). وبجانب المصباح الكهربائي نرى قنديلاً تحمله يد امرأة تبدو كأنها تطير في الهواء لتتبين ما حولها وسط هذا الظلام… فاللوحة إذن هي لوحة بمصباحين لا واحد.
ولكن الدور الذي لعبه المصباح في تاريخ الفن كان أهم من ذلك. ففي أواخر القرن السادس عشر وبداية التالي، أسس الفنان الإيطالي كارافاجيو مذهباً فنياً عرف لاحقاً باسم «المضاء والمظلم» clair-obscur. وتجسد هذا المذهب في لوحات عديدة تمثل مشاهد داخلية في أماكن لا يبدِّد ظلمتها إلا ضوء المصابيح المنعكس على الوجوه والأشخاص والأثاث. حتى أن بعض المؤرخين يروون عن كارافاجيو أنه عندما كان يرسم في وضح النهار، لم يكن يتوانى عن إغلاق النوافذ والستائر وإشعال المصابيح ليرسم على ضوئها.
لم تعمر مدرسة كارافاجيو في إيطاليا كثيراً، وإن حظيت بمعجبين ومقلدين وقتاً طويلاً. ولكن آثارها كانت من أبلغ ما يمكن في فرنسا وهولندا بشكل خاص. فخلال القرن السابع عشر ظهر في فرنسا الرسام جورج دي لاتور الذي دفع بمذهب المضاء والمظلم حتى الحدود القصوى، وصار يرسم المشاهد التي تدور كلها في أماكن مظلمة تماماً لا تضيئها إلا شمعة واحدة. وغالباً ما كنا نرى هذه الشمعة في اللوحة. ولكن دراسة متأنية للوحات لاتور تؤكد أن الضوء الذي رسم عليه هو ضوء مصباح أكبر من الشمعة، لاختلاف واضح بين نوع الضوء المنبعث من الشمعة وذلك المنبعث من مصباح.
أما في هولندا، هذا البلد الشمالي الذي يفتقر إلى ضوء النهار القوي أشهر الخريف والشتاء، فقد وجد الفنانون في هذا المذهب الفني الإيطالي المنشأ، مجالاً للعمل بزخم على المشاهد الداخلية، وبعض هؤلاء الفنانين، ومنهم رامبراندت نفسه، يدين بقسم كبير من شهرته إلى الصور الشخصية التي كان يرسمها على ضوء المصباح البرتقالي، الذي أضفى عليها دفئاً وحرارة إنسانية كانت الصور الشخصية تفتقر إليها حتى آنذاك. واستمر تقليد المضاء والمظلم في المدارس الأوروبية حتى نهاية القرن التاسع عشر، أي حتى عصر الانطباعيين
فإن تمكن مونيه من جر الانطباعيين إلى خارج مشاغلهم ليرسموا في الهواء الطلق مشاهد تحت ضوء النهار، فإن الكثيرين منهم لم يفلتوا من أثر الإضاءة الاصطناعية على أعمالهم، وعلى جذب الانتباه إلى عبقريتهم. وينطبق ذلك على عدد لا يحصى من اللوحات مثل الشوارع الليلية التي رسمها فان غوخ وراقصات الباليه اللواتي رسمهن ديغاس، ومشاهد الطاحونة الحمراء التي رسمها تولوز لوتريك، وغيرها الكثير.
الطرز وأسماؤها
يستحيل حصر الطرز العديدة التي ظهر بها المصباح خلال التاريخ والأسماء العديدة التي حملتها. حتى أن أسماء الطراز الواحد كانت تتبدَّل بين مكان وآخر. غير أن أكثرها شيوعاً ما يأتي:
–
السراج: وهو المصباح الفخاري أو الزجاجي العامل على الزيت والفتيل، وهو عادة صغير الحجم وله مقبض يمسك به.
–
القنديل: مصباح من زجاج يتألف من إناء يحتوي على الوقود (غالباً الكاز)، ويكون فتيله العريض في أعلى الإناء، وتحيط به بلورة أسطوانية الشكل لحمايته من اللهب.
–
المشكاة: أرقى أشكال الإنارة من ناحية تصميمها الفني، وكانت شبه مخصصة لإنارة المساجد في المدن الإسلامية، (راجع التفاصيل في مكان آخر من هذا الملف).
–
اللوكس: راج في القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن العشرين، ويتألف من خزان للكاز ويتميز عن القنديل بفتيله المصنوع من الحرير الذي يحرق رذاذ الكاز الخارج من الخزان بفعل الضغط، وضوؤه أقوى بكثير من ضوء القنديل.
–
المصباح الكهربائي: لا حصر لنماذجه وأسمائها. وهي تشمل مصابيح التنجستين، والنيون، والمصابيح اليدوية، والكشافات وغير ذلك الكثير.
المصباح في الشعر
املأي المصابيح زيتاً واتركي لعبيد الوهم نور الكهرباء…
عندما تقتفي ضوء المصباح في الشعر العربي- سواء أكانت قراءاتك في الشعر الجاهلي أم العباسي أو حتى الحديث- قد يظهر لك للوهلة الأولى خابياً ومنزوياً، في سلسلة أبياتٍ متناثرة تستخدم المصباح أو السراج كتشبيه تقليدي، فهو الضوء الذي يكسر عتمة الليل، ولذلك يصلح لأن يستعين به الشاعر، إن لم يجد شيئاً آخر، ليصف به ضياء وجه الحبيبة، أو مجد القبيلة، أو شرف الآباء والأجداد، أو وحي السماء إلى الرسول الكريم ( صلى الله عليه وسلم) أو حتى لمعان السيوف في المعركة.. ويخيم على قراءتنا لهذه الأبيات احساس بالظلم للمصباح ولما يمكن أن يمثل، ليس فقط كرمز أو تشبيه، ولكن كذلك كجزء مما يحيط بالشاعر من أشياء ينبغي أن يكون لها مكان في شعره. ولكن سرعان ما ينتشلنا من انطباعنا الأول هذا مجموعة من الأبيات الأخرى تتمرد على « تقليدية» المصباح في الشعر إن جاز لنا القول، وتراه من زاوية أخرى.
نبدأ بقول الشاعر الجاهلي أوس بن حجر، حينما يحكي عن سهره الليل يرقب طيف حبيبته التي تغط في نومٍ عميق دون أن يؤرق منامها شوق أو غرام، فيقول:
قد نمتَ عنّي وباتَ البرقُ يُسهرني
كما اسْتَضاءَ يَهوديٌّ بِمِصْباحِ
فهو في أرقه هذا يشبه الراهب اليهودي الذي يستضيء بالمصباح في عتمة الليل ليقضي الليل في العبادة. ثم تأتي الخنساء، وهي إن لم تتحدث عن المصباح صراحةً، فقد رثت بمرارة الخسارة أخاها صخر ووصفته بالشعلة التي تضيء لتهدي الآخرين إلى الطريق، في قولها:
وإنّ صَخراً لَتَأتَمُّ الهُداةُ بِهِ
كَأنّهُ عَلـَمٌ في رأسِهِ نارُ
ويأتي عمرو بن أبي ربيعة، الشاعر الغزلي اللعوب، فيستخدم التشبيه التقليدي للمصباح، ولكنه لا يستخدمه عبثاً أو لسد خانة، بل ليكمل الإطار القصصي لقصيدته، فيحكي عن لقائه بهند وصويحباتها في صورة ملتفة بعض الشيء تضيف تفاصيل إلى خيال القارئ أو المستمع. يقول:
رأيتها مرةً ونسوتها،
كأنها من شعاعها القمر
يدنين من خشيةِ العيونِ على
مِثْلِ المَصَابِيحِ زَانَها الخُمُرُ
أما ابن زيدون، فهو يركن أيضاً لاستخدام المصباح في صورته التقليدية، ولكنه يعود ليكسر القالب ويقول في أحد الأبيات:
يا مرشِدي، جهلاً، إلى غيرِهِ،
أغنى، عن المصباحِ، ضوءُ الصباحْ
ويعود محمد إقبال ليشير إلى حكاية الفيلسوف ديوجين وبحثه الشهير عن رجل في قوله:
رأيت الشيخ بالمصباح يسعى
له في كل ناحيةٍ مجال
يقول: مللتُ أنعاماً وبُهما
وإنساناً أريد، فهل يُنالُ؟
ويطرح بدوي الجبل رؤية اشتراكية طريفة للمصباح، فيقول لحبيبته مي:
املأي المصباح زيتاً واتركي
لعبيد الوهم نور الكهرباء
كوخنا يا مي في هذي الربى،
لا تساميه قصور الأمراء
ويتألق محمود درويش في توظيفه لرمزية المصباح دون افتعال مقتحم، فيقول:
قصائدنا بلا صوتٍ، بلا طعمٍ، بلا لونِ..
إذا لم تحمل المصباحَ، من بيتٍ إلى بيتِ.
وإن لم يفهم « البسطا» معانيها
فأولى أن نداريها،
ونخلد نحن للصمتِ.
ويتعامل العراقي أحمد مطر مع المصباح كجزء غير ملاحظ في الحياة اليومية فيحكي عن الباب في قصيدة له بعنوان « حديث الأبواب»:
في ضوء المصباح،
المعلَّق فوق رأسه..
يتسلى طوال الليل بقراءة كتاب الشارع.
أما سوزان عليوان، فاكتفت بأن تسمي ديواناً كاملاً لها: «مصباح كفيف»، وتشير فيه إلى أيقونة المصباح التي يستخدمها شعاراً له أحد برامج المحادثة الإلكترونية الشائعة.
ومن أبيات الشعر الفصيح التي أعطى بعضها للمصباح حقه وخذله البعض الآخر، ننتقل إلى نماذج من الشعر الغنائي تناولت المصباح -أو القنديل تحديداً- وفيها نرى ارتباط القنديل بالحزن والوحدة، النموذج الأول يطرحه عبدالحليم حافظ فيقول في أغنيته «ضي القناديل»:
ضي القناديل والشارع الطويل،
فكرني يا حبيبي، بالموعد الجميل.
في سواد الليل والطريق وقلبي،
تحت القناديل نشكي.. والضي العليل يبكي.
فيروز، في السياق نفسه، غنّت « ضَوّي يا هالقنديل»، وموال « دقيت». من كلمات الأولى:
عالقمر هُوّي وغايب
ضوّي يا هالقنديل
عالبيت النَّاطر غنِّية
عاغِربةْ قلب الصبية
عضياع الليل المِنسيّة
ضوي ياهالقنديل.
وتقول كلمات الموال:
دقيت دقيت وإيدَيّ تجّرحوا
وقنديلكم سهران ليش ما بتفتحوا
مدري أنا ماعدت أعرف بابكم
مدري نقل بابٍ لكم من مطرحُه.
فانوس رمضان
فانوس رمضان
الفانوس التقليدي الذي أجهزت عليه الإنارة الكهربائية فاختفى من حياتنا اليومية تماماً، يعود في الموسم كل سنة ليملأ دنيانا، وتحديداً طول شهر رمضان المبارك. فنراه في إعلانات المعايدة وعلى البطاقات وقوائم الطعام في المطاعم، وعلى شاشات التلفزيون، ومجسماً عند مداخل المباني والشوارع…
وعلاقة المدينة الإسلامية بالفانوس علاقة قديمة جداً. فمما نقله إلينا المؤرخون أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عندما حج إلى بيت الله الحرام، أمر ضمن أعمال التجديد التي أمر بها، بإضاءة الصفا والمروة ووضع مصابيح تنير هذا الطريق. وإن كنا لا نعلم شيئاً عن طراز هذه المصابيح فإنها كانت على الأرجح فوانيس، لأنها الأنسب للإنارة الخارجية.
أما بداية التصاق الفانوس بشهر رمضان المبارك، وتحوله إلى رمز رمضاني فتعود حسبما يروى إلى رمضان العام 358هـ عندما دخل المعز لدين الله الفاطمي مدينة القاهرة ليلاً، فاستقبله أهلها بالمشاعل والفوانيس، فأمر بإبقاء هذه الفوانيس مضاءة ليالي هذا الشهر. ثم تحول الأمر إلى عادة سنوية تسهيلاً لتحرك الناس وللنشاط التجاري في الأسواق الذي كان يمتد خلال شهر رمضان إلى وقت متأخر من الليل. فصارت الفوانيس تضيء الشوارع من الغروب إلى الفجر، حتى ظهور الكهرباء والمصابيح الكهربائية.
خلال القرن العشرين، عمت الكهرباء كل المدن الإسلامية وصولاً إلى أفقر أحيائها الشعبية، وقضت على وظيفة الفانوس. ولكن الفانوس عوض من خسارته هذه بتحوله إلى رمز. حتى أن تحويله إلى فانوس كهربائي لم يتمرد على شكله التقليدي بل حافظ عليه. فصار يستخدم في بعض الأماكن مثل المطاعم والمقاهي ومداخل المباني.
وحتى اليوم لا تزال مكانة الفانوس الرمضاني تتعزز سنة بعد سنة. فالناس يحبون رمزه وما يهمس به، ويرون فيه أداة تسمح لهم بتمييز ليالي حياتهم اليومية خلال هذا الشهر المبارك عن باقي أشهر السنة.
مصباح ديوجين
ديوجين فيلسوف يوناني ولد حوالي العام 412 قبل الميلاد، وتوفي عام 323 قبل الميلاد، وعاصر الإسكندر المقدوني. وتروي أسطورة شهيرة أنه كان يحمل مصباحاً في رائعة النهار، ويعلن أنه كان يبحث عن الإنسان، وهناك رواية ثانية تقول إنه كان يبحث عن «الحقيقة».
حول ديوجين ومصباحه كتب العلامة الدكتور إحسان عبَّاس، يرحمه الله، المقالة الآتية:
كان ديوجين كلبياً. والكلبي -في التعريف البسيط- هو الذي لا يُعجبه العجب، ولا الصيامُ في رجب. وكان يحمل مصباحه في رائعة النهار، فإذا سُئل لِمَ يفعل ذلك قال: بحثاً عن رجل. ولعله إمعاناً في السخرية والنكاية، كان يحمل مصباحه دون زيت أو فتيلة.
لم يعد مصباح ديوجين ضرورياً، لا لأن ذلك الفيلسوف الساخر قد أخفق، ولا لأن «الكلبية» قد فقدت وجودها، ولا لأن «الرجل» المفقود قد وُجد، بل لأسباب أخرى أبسط من هذه بكثير، منها أن الناس غدَوا أعقل من ديوجين، وأصبح وقتهم أثمن من وقته، فهم لا يحاولون تبديد جهودهم في البحث عن «شيء» لا يحقق الثراء والغلبة والقوة المتحدية، ولو كان ذلك بإلغاء الإنسان نفسه، ومنها أن العصر قد اتسع صدره للإنصاف والمساواة، فلم يعد البحث عن «الرجل» مستساغاً مقبولاً أو جائزاً معقولاً دون البحث عن «المرأة» -بحسب قانون التساوي-، ومنها أيضاً أن مصباح ديوجين نفسه -ولعله كان من قصدير رخيص أو توتيا جاسية- لم يعد صالحاً في عصر التقنية الجديدة والتقدم العلمي، بل أصبح عاراً على حامله ودلالة تخلف.
لكل ذلك يجد العصر نفسه في حاجة إلى مصباح من نوع جديد، وإلى البحث عن شيء آخر يستحق أن يُطلب، ولو كان بين طوايا الأرض أو في جنبات الفضاء. أما «المصباح» فقد وجد، ولكن ما هو ذلك الشيء الذي يراد البحث عنه؟ جواب ذلك عند «المصباح».
افتتاحية عدد مجلة «المصباح» الأول، في بيروت، 22 أغسطس 1980م
} اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {
آية 35 من سورة النور
المشكاة
على الرغم من أن المشكاة استخدمت لإنارة المساجد منذ صدر الإسلام، لم يصلنا من المشكاوات (أو المشاكي) ما يعود إلى قبل الدولة الأيوبية. أما أفضل المشكاوات التي نعرفها اليوم، فهي التي صنعت في مصر وسوريا في عصر دولة المماليك، وهي لا تمثل أرقى أشكال صناعة المصابيح على المستوى الجمالي في كل الثقافات والحضارات فقط، بل قمة من قمم الفنون الإسلامية أيضاً، ولا يتوانى بعض الخبراء والذواقة عن وضعها على قمة إبداعات الحرفي المسلم على مر العصور.
شكلها وصناعتها
تتألف المشكاة عادة من ثلاثة أقسام هي الرقبة والبدن والقاعدة، تضاف إليها من الخارج خمس أو ست حلقات لتعليقها بواسطة سلاسل أو حبال بالسقف. وفي حالات نادرة كانت المشكاة تزخرف بأشكال مستوحاة من النبات والزهر، أما الغالب فهو زخرفتها بكتابات وفق أصول ثابتة. فعلى الرقبة كانت تُكتب عادة سورة النور، وعلى الرقبة أيضاً كان يرسم شعار الأمير أو السلطان الذي أوصى بصنعها. أما البدن فيحمل عادة مباركة صاحب القطعة. فيما القاعدة الصغيرة لا تتسع عادة لأية زخرفة مهمة. ويبلغ ارتفاع المشكاة عادة ما بين 30 و35 سم وقطرها ما بين 17 و27 سم.
كانت المشكاوات تصنع في ورش عالية التخصص، حيث يصهر رمل الصوان في الفرن، ثم تنفخ عجينته وتصاغ بشكل مشكاة، وتبرد ببطء لتلافي الكسر. وبعد أن يبرد الزجاج يُزخرف بالميناء والذهب. وكان الميناء يُحضَّر بسحق الزجاج الملون وتذويب المسحوق الناتج في محلول، وبعد طلاء الزجاج بالميناء، تشوى المشاكي بالفرن مرة ثانية حتى يلتحم الميناء بالزجاج ويذوب فيه، وبعد ذلك تكرر العملية مرة أخرى مع محلول الذهب.
ولا يمكن للمرء أن يتخيل جمال الزخرفة في مشكاة مضاءة ومعلقة على ارتفاع مترين أو ثلاثة أمتار عن سطح الأرض في مسجد ذي إضاءة خفيفة.
التحفة التي فتنت العالم
اكتشف الأوروبيون المشكاة من خلال الحملة الفرنسية على مصر، وعلى أيدي المستشرقين (واللصوص) الذين ظلوا يتدفقون على مصر والمشرق العربي طول القرن التاسع عشر.
نُهِبت مشكاوات المدارس المملوكية، وخاصة مدرسة السلطان حسن بالقاهرة، التي كانت ولا تزال تعد من جواهر فن العمارة في عهد المماليك. فالمشكاوات الثلاث التي يضمها متحف اللوفر في باريس والتي جمعها من كبار المقتنين الفرنسيين هي واحدة باسم السلطان ناصر الدين حسن، وواحدة باسم منجك سلاحدار السلطان، وواحدة باسم الأمير سيف الدين شيخو قائد جيوشه.
ألهبت هذه المشكاوات خيال الأوروبيين الذين رأوا فيها فورا عبقرية الإبداع والشكل والصنعة. ولأن عدد كبار الأثرياء الذين تهافتوا على اقتنائها كان أكبر بكثير مما يتوافر منها في سوق التحف، راحت مصانع الزجاج الأوروبية تقلِّدها معتمدة التقنية نفسها.
كان التقليد واضحاً لا سيما في النصوص غير المكتملة والتي نسخها الحرفيون عما رأوه في المتاحف أو عما رأوه في رسوم المستشرقين. وبعض المقلِّدين اكتفى باعتماد الشكل والتقنية دون الزخرفة التي استبدلها بزخرفة أوروبية. ومع ذلك يحتفي سوق الفن اليوم بأية مشكاة صنعت في هذه الورش الأوروبية، وتقدر قيمة الواحدة منها بما يراوح بين 20 و40 ألف دولار أمريكي. أما المشكاوات المملوكية الأصلية فلا تقدر بأي ثمن دون الملايين.
ولا دومري
مُشْعِل الفوانيس
في المدن القديمة، كانت الخدمات البلدية في الليل، محصورة في مهمة الحراسة والإنارة حتى منتصف الليل، وأحياناً حتى الساعة الثانية فجراً. وكانت مدن السلطنة العثمانية مثل غيرها من المدن، توظف حراساً ليليين، يتولون مراقبة الشوارع إلى ساعة معلومة، وينيرون المصابيح التي كانت تعمل بالشحوم أو الزيت، ثم الغاز، ويطفئونها منتصف الليل.
كان الحارس الليلي الذي يكلَّف إنارة المصابيح، يحمل عصا طويلة، فيها مشعل، يضيء بها المصباح إذا كان مملوءاً زيتاً أو شحماً، وبها يطفئه. وكان الحارس يسمى الدومري، أي مُشعِل الفوانيس.
ولما كان الدومري في المعتاد آخر الذاهبين إلى النوم، من الناحية النظرية، فإنه كان يبقى وحيداً بعض الوقت ليلا، فلا تجد غيره في الشارع.
ولذا قال أجدادنا، حين كانوا يريدون أن يصفوا شارعاً خاوياً تماماً من الناس والمارة: «ما فيه ولا دومري». أي ان الأمر أشبه بخلو الشارع في ساعات الفجر الأولى، حين يكون الناس جميعاً نياماً… حتى الدومري.