ليس سوى خيمة الحلم يأوي اليها الشعراء ..
فيشدون إلى عمودها وحدتهم .. وإلى أطنابها يزرعون آمالهم الصغيرة في لقاء الحبيبة .. ويرون في
رواقها ظلاً لخطى الوصل.. ويشعلون في فنائها نار الوحدة بل التوحد بخيال الحبيبة الغائبة. الشاعر
عبدالله الصيخان* جمع لنا هذه العينة من أماني الشعراء وأحلامهم.
الأماني فراشات في فضاء الشعراء, إن تحققت نهلوا من معينها وإن غابت صاروا هم من أضاءت أرواحهم اللهب.. لهب الأماني المتأجج.. لتجد فيه فراشات الحلم الدفء والسلوى.. حيناً والاحتراق في أحيانٍ كثيرة.. فهل في المنى راحة أيها الشعراء؟
في المُنَى راحـةٌ وإنْ عـلّلْتَنا
من هـواهـا ببـعـض مـا لا يـكـونُ
ما دعانِي الهوَى إليك ولكنْ
باسْم داعِي الهوَى عَنَتْني المنونُ
أما ابن المعتز فيرى أن كذب المنى يحلو فكيف بها إذا ما تحققت:
أما في اللَّيالي أنْ تَعودَ ونَلتقي
بلَى في اللَّيالي سهلُها وحزونُها
إذا كانَ يحلُو فيكـمُ كذبُ المُنَى
إذا ما ذكرْنـــاكم فـكيف يـقيـــنُها
ولصوت ابن المعتز صدى يتردد عند شاعر مثل ابن ميَّادة:
أبِيتُ أُمنِّي النَّفس من لاعج الهوَى
إذا كادَ بَرْحُ الشَّوق يُتلِفها وجْدا
مُنًى إنْ تكنْ حقّاً تكنْ أفضلَ المنَى
وإلاَّ فـقد عِشنا بها زَمَـــناً رَغْـدا
أمانيَّ من سُعــــدَى عِذاباً كأنَّمـا
سقتْنا بها سُعدَى على ظمأٍ برْدَا
ألا حبَّذا سُعدَى على فـــَرط بُخلهـا
وإخْلافِها بعد المِطال لـنا الوعْـدا
أما العوام بن عقبة فيرى أن رؤية وجهها هي أمنيته في الدنيا، فلا يسأل الدنيا ولا يستزيدها:
رَفعتُ عن الدُنيا المُنَى غيرَ وجهها
فلا أسأل الدُنيا ولا أستزيدُها
أما دلالة الوجه عند ابن الدمينة وكثيِّر عزَّة فهو رقية السحاب وتميمة المطر .. يقول ابن الدمينة عندما أشرق وجه حبيبته ظمياء:
إذا ابتسمتْ ظمياءُ واللَّيلُ مُسدفٌ
تـجلَّى ظـلامُ اللَّيل حـين تُباشرُهْ
ولو سألتْ للنّاس يـوماً بوجهـهـا
سحابَ الثُّريّا لاسْتهلَّتْ مواطِرُهْ
ويقول كثير عزة:
رَمَتْني على فَوتٍ بُثينةُ بعدما
تولَّى شبابي وارْجحَنّ شبابُها
بعينَين نَجلاوين لو رَقْرقَتْهما
لـنوءِ الـثُّريّا لاستهلَّ سحابُهـا
ولكنَّما ترمين نفســــاً سقيمةً
لـعزّةَ منـها صـفوُها ولُبابُـهـا
ويستغرق الشعراء في أمانيهم.. وتأخذهم مجرة الأماني إلى فلك من خبال.. يتوحدون فيه بحبيباتهم.. وكأنما أرادوا للأرض أن تخلو من سواهم.. فهاهو ابن المعتز يتمنى له ولحبيبته كفاف البصر (العمى) منتشيا ببصيرة المحب:
ألا لـيتـنا نَـَعـمى إذا حـيـلَ بيـنـنا
وتَنْشا لنا أبصارُنا حين نلتقي
أضِنُّ على الدُّنيا بطرفي وطرفها
فهـل بعد هذا من فعالٍ لمشفقِ
وكأن المعنى هنا كان شارداً من أوابد جميل بثينة الذي ضن بحبيبته عن العمى فتمناه لنفسه وحده إشفاقاً عليها:
ألا ليتني أعمى أصمُّ تقودُني
بثينةُ لا يخفى عليَّ كلامُها
ولابن الدمينة شوارد أحلام تلمها رغبة في التوحد إلاَّ من وجه حبيبته فيتمنى أن يكون وإياها مطلوبين في ثارات دم فيجدان في عرض البلاد وطولها حماية لهما:
أَلا لَـيـتَـنـا كُـنّـا طَـرِيدَينِ فِى دَمٍ
يُـطالِـبُـنـا قَـومٌ شَـدِيدٌ تُـبُـولُـهـا
فنَخفَى عَلَى حَدسِ العَدُوِّ وَظَنِّهِ
ويُحرِزُنا عَرضُ البِلادِ وَطُولُهَا
ثم تراه يتمنى أن يعيشا ويموتا في بلدة واحدة ليجدا في الموت معاً فرصة أخرى للتعارف والحب المتجدد:
أَلا لَـيـتَـنا نَـحيا جِـميعـاً بِبَلدَةٍ
وَتَبلَى عِظَامِى حَيثُ تَبلَى عِظامُها
نَكونُ كَما كانَ المُحِبُّونَ قَبلَنا
إِذا مـاتَ مَـوتـاهـا تَـعـارَفَ هامُها
ولعلك تجد الاستغراق في المنى عندما ترى بعض الشعراء يقدم إرثاً «سيريالياً» جديداً في شعريتنا العربية.. لا أعتقد بوجوده عند أمم أخرى.. فمنهم من تمنى أن يكون وصاحبته جملين أجربين مثلما الأمر عند الفرزدق الذي يقول:
ألا ليتَنا كنّا بعيرَينِ لا نَرِد
عـلـى مـنـهــلٍ إلاَّ نُــشَــلُّ ونُـقـذفُ
كلانا به عَرّ يُخاف قِرافُـه
على النَّاس مطليُّ المشاعر أخشفُ
ويـا لـيـتـنـا كــنّـا جـمـيعـاً بقفرةٍ
من الأرض لا يجتازُها المتعسِّفُ
ولا زاد إلاَّ فــضـلــتــان سُـلافــة
وأبيضُ من ماءِ المدامة قـرقَـفُ
وأشلاء لحمٍ من حُبارى يصيدها
إذا نـحـن شـئـنـا صـائـد مـتـألِّفُ
ومثله لشاعر آخر:
ألا لـيتـنـا والله مـن غير ريبةٍ
بعيرانِ نرعى القفر مُؤتلفانِ
إذا ما أتينا حاضراً صاح أهلُه
وقـالـوا بـعـيـرا عُرّةٍ جَرِبـانِ
فأمّا الَّذي أشبع هذا المعنى وتمنَّى فيه الأماني الطريفة.. فكُثيِّر عزة الذي أخذته الأمنية إلى التفاصيل فهو يقترح أن يكونا بعيرين أجربين لرجل غني يشغله ماله الكثير عن تعقبهما والبحث عنهما بقوله:
ألا ليـتنـا يـا عـزَّ كـنّا لذي غِنًى
بعيرَينِ نرْعى في الخلاءِ ونَعْزُبُ
نكونُ بعيرَي ذي غِنًى فيُضيعُنا
فـلا هـو يـرعـانـا ولا نحـنُ نُطلبُ
كـلانـا بـه عُـرٌّ فـمـن يـرَنـا يقُلْ
على حُسنها جرْباءُ تُعْدي وأجرَبُ
إذا ما وردْنا منهلاً صاحَ أهـلُـه
عـلينا فـما ننفكُّ نُـرْمـى ونُضـربُ
وددْتُ وبــيـتِ الله أنّـكِ بــكْــرَةٌ
هـجـانٌ وأنّـي مُـصـعـبٌ ثمَّ نَهْرب
يقول الخالديان في الأشباه والنظائر: «والذي دعا الشعراء إلى هذه المعاني حتَّى تمنَّوا أن يكونوا جِمالاً جرِبة وغير ذلك من الأماني الَّتي لا يريدها النَّاس التَّفرُّد وألا يأخذهم أحدٌ لوجود الجرب الَّذي بهم لأن العرب لا تبغض شيئاً بغضها الجرب ولا تحذر من شيء حذرها منه».
ويذهب شاعر آخر لعله آنَقُ من سابقيه إلى أن يتمنى أن يكون وحبيبته (التي لا تحبه) غزالين في صحراء خلت من الناس:
ألا لـيـتَ أنِّـي والَّـتـي لا تُـحـبُّـنـي
وحـبِّي لـها بـاقٍ إلـى يـوم أُرمسُ
غزالانِ جوالانِ في صحنٍ مهمهم
وليس به من سائرِ النَّاس مُؤنسُ
ويتبعه شاعر آخر تمنى أن يكون ومن يهوى طيرين في رأس شاهق:
ألا ليتنا يا مَيّ في رأس شاهـقٍ
من الطَّود لا يعلُوه كلُّ سحابِ
ويُسدي لنا ربُّ السَّمواتِ رزقنا
فـأرزاقُـه تـأتـي بـغيـر حسابِ
أما مجنون ليلى فقد وضع أمانيه كلها في سلة واحدة:
أَلا لَـيـتَـنـا كُـنّـا غَـزالَـيـنِ نَرتَعي
رياضاً مِنَ الحَوذانِ في بَلَدٍ قَفرِ
أَلا لَـيـتَـنـا كُـنّـا حَـمـامَـي مَـفازَةٍ
نَطيرُ وَنَأوي بِالعَشِيِّ إِلـى وَكـرِ
أَلا لَيتَنا حوتانِ في البَحرِ نَرتَمي
إِذا نَحنُ أَمسَينا نُلَجِّجُ في البَحرِ
وَيـالَـيـتَنـا نَـحـيــــــا جَـمـيعـــــــاً وَلـيــــــتـَنـا
نَـصـــــيرُ إِذا مِـتنا ضَـــــجيعَـينِ فـــي قَبــــرِ
ضَجيعَينِ في قَبرٍ عَنِ الناسِ مُعزَلٍ
وَنُقرَنُ يَومَ البَعثِ وَالحَشرِ والنشر
ولام بعض الحكماء الهوى، فقال: لو كان لذي هوىً اختيارٌ لاختار ألاَّ يهوى.
وأنشد لمجنون ليلى:
أصلّي فلا أدري إذا ما ذكرتها
أثـنـتيـن صـلّـيـت الضّحى أم ثـمانيـا
ومـا بـي إشـراكٌ ولـكـنّ حـبّها
وعظم الجوى أعيا الطّبيب المداويا
وإلى البيت الأول نظر ابن الأحنف ليقول:
أُصلِّي فأهْذي في الصَّلاةِ بذكرِها
ليَ الويلُ ممَّا يكتبُ الملَكانِ
أُريــدُ لأنْـسَــى ذكـرَهــا فـكــأنَّـما
تـمثَّـل لِـي فَـوز بـكـلِّ مكانِ
ولعله أخذ البيت الثاني من كثير عزة الذي يقول:
أُريدُ لأنْسَى ذكرَها فكأنَّما
تمثَّلُ لِي ليلَى بكلِّ سبيلِ
وما ندري ما دعا العبَّاس مع ظرفه وأدبه وعلو شعره إلى أخذ بيت كثيِّر بأسره من غير تضمين ولا جهل منه .. ولكن لعل تماثل الهم جعل ذلك ممكناً عند العباس ابن الأحنف.
لو لم تغب الحبيبة عن أنظار هؤلاء الشعراء .. فهل كان في إمكانهم أن يجترحوا هذه الأماني الموغلة في غرابتها ولمعتها الشعرية .. وهل كان لهم أن يحلموا؟