المانغروف شجرة يعرفها البعض، خاصة سكان المنطقتين الشرقية والغربية في المملكة، ولكن فرادة هذه الشجرة وأهميتها على المستوى البيئي تبقى مجهولة بالنسبة إلى الكثيرين. فاتن عبدالرحمن أبَّا تحدثنا عن هذه الشجرة ومواصفاتها، وبعض جوانب أهميتها البيئية التي ازدادت وضوحاً بعد التسونامي الذي ضرب عدداً من البلدان الآسيوية قبل سنوات قليلة. في حين يتناول زكريا العباد الجهود التي تبذلها جهات عديدة في المملكة، ومن بينها أرامكو السعودية في الحفاظ على غابات المانغروف وتعزيزها على شواطئ الخليج العربي والبحر الأحمر.
حارس البر جذوره في البحر
شجرة المانغروف هي ذات جمال فريد يميزها عن باقي الأشجار. تبدو للوهلة الأولى من بعيد كشجرة خضراء عادية، ولكننا عندما ندنو منها، تفاجئنا بجذورها المتشعبة كأرجل العنكبوت، وما يفاجئنا أكثر هو أن هذه الجذور تغور في.. مياه البحر المالحة، فهي بذلك تنمو في بيئة يصعب على غيرها من النباتات أن تنمو فيها. فالملوحة الشديدة وتغير مستوى الماء في حركة المد والجزر المتواصلة، والعواصف القوية التي تهب على السواحل، تركت بصمة على تركيبة هذه الشجرة والغابات التي تضمها.
الاسم العلمي للمانغروف هو «أفيسينا-مارين»، أما الاسم الشائع فهو مركب من كلمتين: الأولى برتغالية «Mangue» وتعني الشجرة، والثانية إنجليزية «Grove» وتعني «منبت الأشجار».
وأشجار المانغروف معروفة عند العرب، أطلق عليها قديماً اسم «القرم». وقد أورد ذكرها ابن منظور في لسان العرب: «والقَرْمُ: ضرب من الشجر؛ حكاه ابن دريد، قال: ولا أدري أعربي هو أم دخيل. وقال أبو حنيفة: القُرْم، بالضم، شجر ينبت في جوف ماء البحر، وهو يشبه شجر الدُّلْب في غلظ سُوقه وبياض قشره، وورقه مثل ورق اللوز والأراك، وثمره مثل ثمر الصَّوْمَر، وماء البحر عدو كل شيء من الشجر إلا القُرْم والكَنْدَلي، فإنهما ينبتان به». ونقل عنه الجواليقي في كتابه «المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم»، وكذلك فعل الفيروز أبادي في «القاموس المحيط» عندما قال: «نبت كالدَّلب غلظاً وبياضاً ينبت في جوف البحر». وزاد عليه ابن سيده في المخصص قائلاً: «وهو مرعي للبقر والإبل تخوض إليه حتى تأكل ورقه وأطرافه الرطبة ويحتطب فيستوقد به لطيب ريحه ومنفعته».
المانغروف حول العالم
تنمو غابات المانغروف في مناطق عديدة حول العالم. وتضم إندونيسيا وأستراليا ونيجيريا والمكسيك حوالي %50 من إجمالي مناطق المانغروف في العالم. كما يوجد في بنغلاديش أكبر غابة للمانغروف في العالم وتعرف باسم غابات «ساندربانز».
ومن بين أكثر من ثمانين نوعاً من أشجار المانغروف حول العالم، فإن الوطن العربي تحديداً يحتضن أربعة أنواع منها، تتوزع ما بين ساحل البحر الأحمر الغربي (مصر والسودان) والساحل الشرقي (اليمن والمملكة العربية السعودية)، وانتهاءً بخليج العقبة (الأردن) والخليج العربي. والأكثر انتشاراً منه نوعان: أولهما يسمى بـ «القرم» أو «الشورى» (أفيسينيا مارينا)، وثانيهما بـ «القندل» (ريزوفور ماكروناتا) وينتشر في جزر فرسان. ويبلغ إجمالي مساحات غابات المانغروف في المملكة نحو 204 كيلومترات مربعة، أغلبها يغطي سواحل البحر الأحمر، وجزيرة تاروت في المنطقة الشرقية.
خصائص المانغروف وأهميته
تنمو أشجار المانغروف في المناطق الاستوائية المدارية وشبه الاستوائية، وتحديداً في البيئات الساحلية المالحة أو قليلة الملوحة، وقليلة التعرض نسبياً للأمواج العنيفة، كالخلجان الصغيرة المنتهية إلى السواحل كونها تساعد في كسر قوة الأمواج المدمرة للنباتات الصغيرة، والبحيرات ومصبات الأنهار، أو المناطق الضحلة في الجزر القريبة من السواحل، وتزرع عند الحدود الفاصلة ما بين البحر واليابسة، وتحتاج مستنقعات مائية غنية بالمواد العضوية لتنمو بشكل صحي. إذ يمكنها العيش كذلك في الرمال الخشنة قليلة المسام، ولا يضيرها أن تكون هذه الرمال مكسوة بالطين. كما أنها تنمو من غير مشكلات في بعض المناطق التي يقل تركيز الملوحة فيها.
والمانغروف شجرة دائمة الخضرة، يتراوح طولها ما بين 3 و5 أمتار، وفي بعض الحالات يصل طولها إلى عشرين متراً. أوراقها رقيقة متقابلة الشكل هودجية، أو سميكة خضراء اللون مدهامَّة، متصالبة الشكل، ينتشر على سطحها العديد من الغدد الملحية التي تساعد النبتة على إفراز الأملاح الزائدة عن حاجتها وترشيحها، فتقاوم بذلك الملوحة الزائدة. وللنبتة قدرة على تحمل درجات الحرارة والرطوبة العالية ودورات المد والجزر، وحين تزهر فإن لأزهارها لوناً برتقالياً زاهياً أو أصفر محمراً رائحته مميزة جداً. وأما ثمارها فإما قلبية الشكل أو مخروطة، يتراوح طولها ما بين 0.5 و2.5 سنتيمتر. ويلاحظ أن هناك العديد من الأشجار التي تنمو تحت تأثير الظروف نفسها، وتشبه في شكلها شجرة المانغروف وتسمى خطأ بذلك، ولكن التشابه الفيزيولوجي لا يعني أنهما تنتميان للجنس نفسه.
تتميز شجيرات المانغروف بأنها تنمو كمجموعة صغيرة ممتدة من الغابات الصغيرة، تشبه في شكلها شجرة كبيرة متشابكة. ويمكن العثور على هذه الغابات في البيئات الساحلية حيث الرواسب الدقيقة الناعمة ذات المحتوى العضوي، والمتشكلة في المناطق المحمية من حركة الأمواج وديناميكية المد والجزر، بحيث تترسب من دون أن تنجرف بعيداً.
وهناك ثلاثة أنواع من المانغروف وهي: المانغروف الأحمر والمانغروف الأبيض وأخيراً المانغروف الأسود. ويسهل التمييز بين هذه الأنواع لوجود اختلافات بينها. فبعض أصناف المانغروف هي أكثر مقاومة للأملاح من الأصناف الأخرى، كما أن كل صنف يتميز بآلية خاصة تمكنه من التخلص من الأملاح الزائدة. فالمانغروف الأحمر يتخلص من الأملاح عبر جذوره، كما أنه يقوم بتخزين الأملاح في الأوراق الهرمة الآيلة للسقوط. أما المانغروف الأبيض فإنه يقوم بطرح الملح على شكل بلورات بواسطة غدتين ملحيتين موجودتين في قاعدة كل ورقة، وقد سمي المانغروف الأبيض بهذا الاسم نسبة إلى بلورات الأملاح التي تتراكم على أوراقه. في حين يتميز المانغروف الأسود بلحاء خشبي ذي لون بني غامق مائل إلى الأسود، ومن هنا جاءت التسمية. فالمانغروف الأسود يمكن التعرف إليه بسهولة عن طريق الأنابيب العديدة التي تشبه أقلام الرصاص والتي تستخدم بغرض التنفس، وتسمى (pneumatophores)، وهي تنمو عمودياً من الوحل إلى الأعلى بحيث تكون بمستوى أعلى من مستوى المياه.
كيف تكيفت مع بيئتها؟
لأشجار المانغروف جذور هوائية متوسطة الطول، تنمو من «السوق الريزومية» المغمورة بالماء تحت سطح الأرض، إلى ما فوق سطح الماء. فحاجة أشجار المانغروف إلى بيئة بحرية مالحة قليلة الأكسجين لتنمو أوجد لديها هذه الجذور التنفسية الهوائية النامية من أسفل إلى الأعلى بعكس ما هو متعارف عليه لنمو جذور النباتات الأخرى. وظهور هذه الجذور فوق سطح الماء هدفه أن تتمكن من توفير الأكسجين اللازم للعمليات الحيوية كافة. بعض الأنواع تنمو جذوره على فروع النبات وتتدلى في الهواء. وعن طريق خاصية الجذور المتحورة تتمكن هذه النباتات من العيش في الرمال الخشنة قليلة المسام المكسوة بالطين. والتصاق هذه الجذور بالطمي يساعد على تهدئة التيارات المائية المتدفقة، مما يوفر بيئة أنسب لنمو النباتات وتكاثرها.
وبسبب ندرة المياه العذبة في التربة المالحة الناتجة عن المد والجزر، تقوم أشجار المانغروف بتقليل كمية المياه التي تفقدها من خلال أوراقها، وذلك بالحد من فتح المسام على سطح الورقة (التي يتم من خلالها تبادل غاز ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء خلال عملية التمثيل الضوئي). ويختلف أيضاً اتجاه أوراقها لتجنب شمس الظهيرة القاسية وتقليل تبخر الماء من خلال الأوراق.
أما المشكلة الأكبر التي تواجه غابات المانغروف فهي امتصاص المغذيات. فتربتها مغمورة دائماً بالماء، وتعاني من قلة الأكسجين. فمن خلال جذورها، تمتص المواد العضوية من بيئتها وتربتها البحرية الطينية، وتمتنع عن امتصاص الملح الذائب بشكل فائض، وتخرج منها الملح الممتص الزائد على شكل بلورات تتشكل على سطح الورقة. والجدير بالذكر أن تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2) الناتج عن العمليات الحيوية التي تقوم بها البكتيريا اللاهوائية أثناء تحلل النباتات الميتة يجعل التربة ذات رائحة تشبه العفن لا يمكن احتمالها. لذا، فإن تركيبة جذور أشجار المانغروف تسمح بامتصاص الغازات مباشرة من الغلاف الجوي، والمواد المغذية الأخرى مثل الحديد من التربة. ويتم تخزين الغازات داخل الجذور، ومن ثم معالجتها حتى عندما تكون الجذور مغمورة بالماء أثناء المد.
وتظل الثمار والبذور متصلة بالشجرة الأم، تنمو وهي متصلة بها. فإذا نضجت (في أغسطس وسبتمبر غالباً) تسقط على الشاطئ وتنفصل عن الشجرة الأم. لتنمو بعد ذلك من جديد مكونة شجرة جديدة. وتنغمس الجذور الأولى لهذه البذور في التربة بحيث تمنعها من الانجراف بعيداً وتجنبها عوامل المد والجزر.
دورها البيئي
لأشجار المانغروف دور مهم جداً في المحافظة على النظام البيئي متزناً ومتماسكاً، فتقوم جذورها بحماية الشواطئ من الانجراف والتآكل، لأنها تمتد في التربة حتى عمق يصل إلى المترين.
وتوفِّر هذه الأشجار بمختلف أنواعها الحماية للعديد من الطيور المهاجرة، التي تبني أعشاشها فوقها وتترك بيضها بأمان هناك. كما أنها تشكل بالنسبة إلى العديد من المخلوقات البحرية والبرمائية بيئة مناسبة للعيش وللتكاثر كالأسماك والقشريات والجمبري وسرطان البحر والسلمون. وتُعد زيادة على ذلك مصدراً رئيساً لغذاء العديد من المخلوقات البحرية، إذ توفر «الطمي» والعناصر العضوية الأخرى للشعاب المرجانية، فالطمي الذي يساعد في نمو الطحالب هو ذو قيمة غذائية عالية ويكون مفككاً عادة، وجسيماته أكبر من جزيئات الطين، ويحتوي على العناصر الرئيسة اللازمة لتغذية العديد من النباتات والمزروعات، ويزيد من خصوبة التربة. ولكن تراكمه في مكان ما خطأ قد يؤدي إلى حجب الضوء اللازم الذي تحتاجه الكائنات للقيام بالعمليات الحيوية بسهولة ويسر، مما يضعفها وينهكها أو يتسبب بموتها في بعض الحالات. أما أوراق شجرة المانغروف فغنية بالبروتين العضوي. ولذلك، فهي الغذاء الأنسب للكثير من المخلوقات البرية النباتية، ولكن هذه النقطة بالذات تحولت إلى أحد الأسباب التي أسهمت بشكل كبير في تناقص عدد أشجار المانغروف، وبشكل متواصل.
وتعمل عروق الشجرة المتشابكة كمصفاة تجمع المواد الملوثة وتمنعها من الانتقال إلى البحر. قد يضرها هذا ولكنه يشكل فائدة أساسية في إبقاء المياه نقية. كما وأن هذه النباتات مفيدة للإنسان نفسه، إذ يستخدم مســــتخلص أوراقـــــها في عــــــلاج أمراض اللثة وأمراض الكبـــــد، وهي مصدر طبي لبعـــض الهرمونات المهمة بســــبب وجود مركب «كيومارين» في أجزائها، وهو ما يدخل في صــناعة العديد من العقــاقير الطبية.
من ناحية أخرى، فإن تواجدها عند حدود اليابسة والبحر يحد من انجراف التربة ويقلل من حالات تكوين الكثبان الرملية.
تتمتع أشجار المانغروف بمناظر ساحرة وخلاَّبة، ويمكن اعتبارها مصدر جذب سياحي ممتاز. ولكنها باتت من الأشجار النادرة الآن، لتعريضها لعوامل سلبية كثيرة أدت إلى الحد من انتشارها، وعرَّضت الكثير منها للجفاف التام، والسكوت على ذلك يعني انقراضها. فهناك عوامل بيئية ليس للإنسان يد فيها، كتعرض الأشجار خلال السنتين الأوليتين إلى ما يعوق نموها، كالعواصف الرملية والأمواج البحرية الشديدة التي قد تغمر المناطق التي نبتت فيها هذه الأشجار، لأنها تحتاج إلى رعاية خلال هذين العامين قبل أن تصير قادرة على الثبات في وجه التغيرات البيئية المختلفة وحدها. ويمكن القول أن حاجتها إلى سياج يوضع حولها لمنع انجرافها أو موتها في هذه المرحلة يُعد من الحلول الضرورية والمطالب الرئيسة التي تحميها وتقيها من المخاطر. ومما يهدد حياة الشجرة بعد نموها هو تراكم الطحالب الخضراء والمخلفات العالقة عليها، والتي تحول ما بينها وبين إتمام عملية البناء الضوئي. كما أن ارتفاع منسوب البحر بسبب ارتفاع حرارة الأرض المتزايدة يهدد وجود هذه الأشجار بشكل ملحوظ.
المانغروف أقوى من تسونامي
غداة وقوع كارثة التسونامي الشهير، الذي ضرب عدداً من دول المحيط الهندي قبل سنوات، أعلن الباحثون الذين درسوا هذه الكارثة وأسباب عنفها في بعض المواضع أكثر من غيرها أن أشجار المانغروف قادرة على مقاومة أمواج التسونامي وتخفيف اندفاعها نحو اليابسة.
وأشارت الأبحاث إلى أن أشجار المانغروف تستطيع أن تستوعب ما بين 70 إلى %90 من قوة الأمواج. لذا قام الاتحاد الدولي لحماية البيئة (IUCN) بتسليط الضوء على الدور الذي لعبته أشجار المانغروف الاستوائية في حماية الشواطئ من خلال دراسة هذه الظاهرة في اثنتين من القرى الساحلية في جنوب سري لانكا. ومن هذه الدلائل التي أشار إليها الاتحاد أن شخصين فقط لقيا حتفهما في قرية «كابوهينوالا» في سري لانكا، التي تحيط بها 200 هكتار من غابات المانغروف الكثيفة، في حين أن قرية أخرى تدعى «واندوروبا» ومحاطة بغابات مانغروف متدهورة عانت من خسائر كبيرة قدرت بحوالي 5,000 إلى 6,000 قتيل. وعلى الرغم من عدم وجود دراسات علمية قاطعة تشرح كيف تتمكن أشجار المانغروف من مقاومة المد الزلزالي، فإن الأبحاث السابقة أسهمت في تعزيز المشاريع الرامية إلى حماية غابات المانغروف في مختلف دول العالم.