لا يعرف الكثيرون أن الموسيقار العالمي موزارت قد استخدم آلة البان الموسيقية في أعماله الموسيقية التي لا تزال تسحر العالم حتى اليوم. ورغم أن الدراسات تشير إلى أن تاريخ وجود هذه الآلة يعود إلى النبي شعيب -عليه السلام-، إلا أنها اختفت من منطقتنا العربية وانتقلت إلى دول كثيرة مثل بريطانيا وهنغاريا ودول أمريكا اللاتينية حيث ما زالت تستخدم، وحيث صنع الموسيقار المعروف زافير عليها ومن وحيها جملة من ألحانه الفريدة.
الكاتب بدر عبد الملك يشرح لنا في هذا المقال القصير تاريخ هذه الآلة والمواد التي تصنع منها والشعوب التي لا زالت تستخدمها.
لا نعرف لماذا اختفت هذه الآلة، آلة البان، من منطقتنا العربية وهي التي تمتد بجذورها إلى النبي شعيب، عليه السلام. من هنا جاء مصدر تسميتها «بالشعيبية» فكل المصادر التاريخية العربية تسميها بهذا الاسم كآلة هوائية من آلات النفخ.
وفي الوقت الذي اختفت من حياتنا الموسيقية مثل هذه الآلة احتفظت قارة أمريكا اللاتينية في الوقت نفسه بمثل هذه الآلة والتي تُعد هناك آلة شعبية شائعة الاستعمال. وتتكون آلة البان أو، الشعيبية، من أنابيب عدة، وتختلف من حيث الطول. وتتميز بأنها مفتوحة من الأعلى ومسدودة من الأسفل، والعازف ينفخ في الفتحات العليا. وتصنع الآلة من مادة القصب، غير أنها تندر صنعاً بمادة العاج والمعدن والخشب. وتتراوح أعداد القصبات في الآلة الواحدة ما بين 7 و9 قصبات إلا أن الشائع أكثر في يومنا هي ست قصبات كما نراها في الفرق الصغيرة أو عند العازفين منفردين.
وقد عثرت فرق التنقيب الأثرية على شواهد تدلل على قدم استعمال آلة «البان» أو الشعيبية، حيث تعود للعصور الإغريقية القديمة والحضارة الرومانية وحضارات البحر الأبيض المتوسط. وترتبط الآلة الهوائية القصبية بحكايات ميثولوجية في تاريخ اليونان القديمة إذ تستمد الآلة الموسيقية تسميتها من الآلهة الأسطورية الإغريقية «بان» فهو رب الرعي، وحامي فنون الرقص والموسيقى.
وتروى الحكايات الأسطورية الإغريقية أن الإله «بان» أولع بحورية المياه وكان يتابعها فما كان منها إلا أن قذفت بنفسها في نهر لاذون للتخلص منه وقد تحولت عروس المياه إلى إحدى قصباته وقد لاحظ كيف يمر الهواء من تلك القصبات فتولد أنغاماً عذبة فقطعها الإله «بان» وخلق منها آلة موسيقية ذات سبع قصبات وأخذ يعزف عليها ألحاناً. وتسمى آلة البان لدى الإغريق بآلة السيرنيكس تيمناً باسم حورية المياه. بينما نسميها نحن في العربية بالمصفر. وحسب آراء علماء الموسيقى والاثنوغرافيين التي مفادها أنه لا توجد في الآلات الهوائية آلة أقدم أو أكثر انتشاراً من آلة البان أو «السيرنيكس» أو «الشعيبية» كما سماها العرب قديماً. وهذه الآلة القديمة مازالت حتى يومنا هذا تستعمل بالطريقة البدائية الأولى في بريطانيا وهنغاريا وأمريكا اللاتينية ورومانيا التي منحت العالم عازفاً عبقرياً هو جورج زافير الذي أبدع أجمل الأنغام وعزف أعقد الألحان بآلة البان. وإذا ما استمعنا إلى زافير وهو يعزف فإننا بالضرورة نتخيل أصوات الطيور وهي تصدح في الغابات والسهوب والأودية وانبعاث أصوات الطبيعة وتنفسها من خلال تلك الثقوب القصبية وشفاه العازف تتحرك بمهارة وتنفخ من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين دون توقف. إنها آلة رخيصة الثمن، وشعبية الاستعمال في بعض البلدان غير أنها قادرة على أن تمنحنا قطعاً موسيقية رائعة. وقد استخدم تلك الآلة الهوائية القصبية الموسيقار الكبير موزارت في عمله الشهير «الناي السحري» وقد أشارت بعض الموسوعات الموسيقية إلى وجود لوحة في حدائق فاكس هول في لندن يعود تاريخها إلى سنة 1805 وتؤكد تلك اللوحة على استخدام آلة البان بصورة جماعية في فرقة خماسية إذ تحتوي اللوحة على خمسة أشخاص يعزفون على آلة البان بمستويات متعددة مع استخدامهم في الوقت نفسه آلات أخرى كالصناجات والطبول والدف.
وتحتفظ اليوم شعوب بلاد الأنديز مثل بوليفيا والأرجنتين وتشيلي والإكوادور وبيرو والأوراغواي والباراغواي باستخدامات عديدة لآلة البان الهوائية، بل تمتد استعمالاتها إلى قارة أمريكا اللاتينية برمتها، مع تميز بعضها عن بعض بكثافة استخدامها فالموطن الجغرافي الأكثر استعمالاً هو سلسلة جبال الأنديز وتكون بوليفيا وبيرو من أكثرها شيوعاً لاستعمال هذه الآلة الشعبية حيث نراها في الطرقات تباع بأثمان زهيدة إذ يصنعها الريفيون من القصب المتوافر بكثرة في الغابات وعلى حواف البحيرات كبحيرة أرتاتاكا.
وإذا ما زرنا دمشق فإن المتحف الوطني فيها يحتفظ بشواهد تاريخية على حضور الآلة في المنطقة. فقد عثر الأثريون على تمثال برونزي في محافظة حمص، يرجع تاريخه إلى القرن الأول وهو عبارة عن تمثال يمثل الآلهة بان وهو يعلم الشاب «اولمبوس» العزف الموسيقي وفنونه وبذلك يبقى أمامنا سؤال مهم، معنيين الاثنوغرافيين العرب بالإجابة عليه وهو لماذا لم يتم توارث الآلة واستمرار حضورها بين آلاتنا الموسيقية بحيث تتحول أو تبقى آلة شعبية أو نخبوية، في الوقت الذي أصبحت في منطقة البلقان آلة حية ومستعملة حتى الآن وبالذات في هنغاريا ورومانيا؟! لقد حان الوقت لتمرير الدماء في جسدها سواء في المناهج الموسيقية العالمية أو معاهدها لتصبح سيدة في فضاء الموسيقى دون حدود مكانية تسجنها.