الرحلة معا

على هامش ملتقى المثقفين الثاني:
هل تتقدَّم الثقافة دون خطة استراتيجية؟

لم يكن يسيراً على وزارة الثقافة والإعلام أن تنظِّم ملتقاها الثقافي الثاني، الذي حضره قرابة ألف مثقَّف ومثقَّفة ينتمون إلى مختلف الشؤون الفكرية والأدبية. فالشريحة المثقَّفة عندنا كما في كل المجتمعات، هي إحدى الفئات الاجتماعية الأقل رضىً والأشد نقداً والأكثر ثقة بأنها الأقدر على فهم حاجات المجتمع وإصلاحه.

وأقول منذ البداية إن التقاء المثقفين سنوياً، أو كل بضع سنوات هو عمل إيجابي وخلَّاق ينبغي أن يتواصل، فكل أصحاب المهن والتخصصات في العالم لهم مؤتمراتهم السنوية محلياً أو إقليمياً أو دولياً، ومن خلالها تُطرح كل قضايا المهنة ومستجداتها وسبل الارتقاء بالمنتسبين إليها، ومعالجة مشكلاتها وطرق تمويلها ونشر وتفعيل رسالتها، واستقطاب أعضاء جدد لها وفحص آفاق مستقبلها. لكن ما نتفق عليه هو أن الآليات والضوابط والمناخات التي تعمل فيها تلك المؤتمرات مختلفة عما يحدث هنا.

أول المعضلات، التي واجهها منظمو المؤتمر، تمثلت في الوصول إلى تعريف جامع مانع للمثقف المطلوب حضوره إلى الرياض. فالمملكة تعجُّ بكل أصناف الثقافة والأدب والنقد والفنون، ثم إن الوزارة تكتشف أن عليها أن تخاطب كل الأعمار بدءاً بمن هم في خريف العمر، وانتهاءً بالشباب الذين يتمترس عملهم وراء وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة. والمشكلة التي تلحق بذلك هي أن محاور النقاش عامة لا تنحصر في علم أو فن يمكن أن يخفِّف عدد المشاركين، أو يقلص سيل المحاور وموضوعات الندوات.

أما ثاني المعضلات: فتكمن في غياب استراتيجية محددة الملامح، تختصر الهدف من جمع هذا الحشد الكبير على صعيد واحد. لقد تملك الكثيرون شعور بأنهم يعيشون أجواء مهرجان الجنادرية للثقافة. الضيوف يتوزعون على الحافلات الذاهبة والعائدة من مركز الملك فهد الثقافي، لكي يقضوا الساعات تلو الساعات مستمعين إلى سلسلة من المحاضرات والندوات دون أن يكونوا طرفاً فاعلاً فيها، سوى ما يسمح به مديرو تلك اللقاءات من فسحات قصيرة للمشاركة، وكما تجري العادة فهناك نفر يهيمن على كل الندوات بأسئلته أو بمداخلاته دون أن تطرف له عين.

وملاحظتي هنا: أن الوزارة كانت تستطيع استثمار هذا الحشد لفتح نقاش حر وحقيقي حول البرامج والمشاريع والخطط الثقافية التي تنوي الوزارة تفعيلها إن على مستوى الداخل، أو على مستوى فعلها الثقافي الخارجي. وكان في مقدور المنظمين أن يفتحوا حديثاً حول المعوقات التي تعترض الحراك الثقافي، خاصة وأن معالي الوزير عبد العزيز خوجة طلب في كلمته عون المثقفين ومقترحاتهم لتطوير الأداء الثقافي. وكان من الضروري أن تكون تلك المشاريع والخطط بين أيدي المثقفين قبل حضورهم إلى المؤتمر لدراستها أو اقتراح بدائل أكثر فاعلية وجدوى، وأجزم أن في جعبة بعض من حضروا عشرات الأفكار والمبادرات الابتكارية لرفع مستوى العمل الثقافي وفتح آفاق لتجديده.

لم يكن هذا الملتقى بحاجة إلى محاضرين وخطباء، بقدر حاجته إلى أن يكون حاضناً لسلسلة من ورش العمل المخصصة لمناقشة باقة من المشكلات التي تواجهها جهود التنمية الثقافية ولنضع بعض الأمثلة:

كيف نصنع ثقافة حديثة ومواكبة في مناهجنا ومدارسنا؟ وما الدور المفترض للمثقفين في نشر ثقافة حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني؟ وكيف نتخلص من معوقات تنقل الكتاب وقنوات المعرفة إلى بلادنا؟ لماذا تغيب الثقافة والفنون من خارطة وزارة الاقتصاد والتخطيط؟ أين المسرح والسينما وأين صالات الفنون؟ كيف نبني متاحف جاذبة للمواطنين والزوار؟ وما عناصر ثقافتنا التي نعرضها للعالم؟ وما دور الرأسمال الوطني في صناعتنا الثقافية (قدَّمت الشيخة مي آل خليفة، وزيرة الثقافة البحرينية عرضاً مهماً لقائمة طويلة من المتاحف والمواقع الآثارية، والبيوت التقليدية التي أسهم فيها رجال أعمال وتجار وبنوك ومؤسسات تجارية وصناعية بحرينية).

الأسئلة تطول، لكن حالتنا الثقافية تحتاج إلى حوارات جادة، وإلى تفعيل حقيقي لنتائج تلك الحوارات، وأن يوضع الفعل الثقافي في سياق شفاف يتيح للمجتمع والنخب أن تكون شاهدة ومندمجة مع ما يجري تنفيذه على الأرض.

أما ثالث تلك المعضلات التي خاض الملتقى فيها فكان موقع المرأة في حياتنا الثقافية، وفرص تمكينها من المشاركة الفاعلة ثقافياً واجتماعياً بدلاً من تحجيمها لتكون عنصراً منفذاً لقرارات الرجل.

في هذا السياق فقد اكتسبت ورقة سمو الأميرة عادلة بنت عبد الله بن عبد العزيز أهمية بارزة، فقد اعتبرت أن المثقفة هي أداة الحراك الاجتماعي وأن عليها أن تتعرف إلى احتياجات المجتمع وأن تنفتح على العالم الخارجي مع الحفاظ على الهوية الثقافية. واستعرضت الأميرة عادلة قائمة التحديات الإدارية والاجتماعية والتنظيمية التي تحيط بتمكين المرأة السعودية ثقافياً، واستشهدت بأن تقارير التنمية البشرية لعام 2010م تظهر أن عدم توازن الفرص بين الجنسين قد أنتج ما نسبته %76 من الخسائر في التنمية البشرية، وهي من أعلى النسب في العالم العربي..!.

لكن الورقة المهمة الأخرى التي لاقت صدىً لافتاً هي ورقة د. لمياء باعشن، فقد درست بشكل منهجي عقدة الشرخ الثقافي بين الرجل والمرأة والتي أدت إلى حجب دور المرأة الثقافي عن صنع ثقافة الأجيال المتعاقبة في مجتمعنا. تقول الباحثة: «إن ما يسمى بملف المرأة هوعبارة كاشفة عن مضمر نسقي مضلل، فاهتمامها يجب أن يحصر في بحثها كقضية وليس لها أن تتدخل في قضايا الرأي العام، كما أنها غير معنية بتنمية المجتمع الذي تعيش فيه، ولا ينبغي أن تهتم بشيء خارج بيتها وأسرتها، وهكذا فإن وجودها يُطرح كإشكالية اجتماعية مستعصية لا ذات مستقلة» وتذهب باعشن إلى أن التمثيل النسائي في المجال الثقافي لا يزيد على كونه ممثلاً لدور الرجل ومنفذاً لقراراته، وهذا الوضع التهميشي لموقع المرأة قد أعاق فرص إسهاماتها وحدّ من تعميق خبرتها وتجاربها الحياتية والثقافية معاً»، فيما ترى
د. ثريا العريض أن إدخال المرأة كعضو فاعل في المؤسسات الرسمية لا يتحرك إلا بقرار حاسم من صانع القرار، رغم أن الشواهد تدل على أن النخبة النسائية أثبتن تميزهن عبر إنجازاتهن في الميادين المهنية والتخصصية رغم العقبات.

هناك ملاحظة ذكرها بعض المعلّقين، وأعيدها هنا، لماذا تم تجاهل الفئة الشبابية بين الرجل والمرأة.الشرخ الثقافي بين الرجل والمرأة. نسب في العالم العربي. 2010م تظهر أن نسبة عدم توازن الفرص بين الجنسين تشكِّل قرابة %70 من مجتمعنا؟ هل يخفى أن النصيب الأكبر من الحراك الثقافي لدينا يصنعه الشباب، وأن أبسط حقوقهم علينا هو دعوتهم لكي نقترب منهم لنعرف ما إذا كانوا ينتمون إلى لغتنا وخطابنا وهواجسنا أم أنهم يصنعون فضاءً ثقافياً آخر، لا تؤثر فيه مؤتمراتنا ولا تسيطر عليه حِكَمُنا ولا أحكامنا..!

أضف تعليق

التعليقات