قول في مقال

الانتخابات والإبداع في أنديتنا الأدبية

ما أجمل أن يكون المسؤولون في الغرف التجارية، والجمعيات الخيرية، وعمادة الكليات الجامعية، والنوادي الأدبية، مرشحين ومختارين بأصوات الأغلبية، إذ للانتخاب فلسفة ومسعى اجتماعي يرتبط بالشرعية المقبولة من الأغلبية، ويتوسم الأداء المعبِّر عن أولئك الذين منحوا أصواتهم، مع الشفافية والوضوح والمساءلة، مما يعني نتائج أفضل للمجتمع. د. أحمد مهدي الشويخات، يناقش هذه المسألة، ويتناولها من زوايا وأبعاد مختلفة.

من حيث المبدأ، انتخابات الأندية الأدبية وغيرها من المؤسسات ممارسة حضارية مطلوبة وضرورية. يتساوى في ذلك من حيث المبدأ الترشيح والتصويت والفوز المستحق في أية ناحية من نواحي العمل المؤسسي، الاقتصادي منه (الغرف التجارية)، والاجتماعي (الجمعيات الخيرية)، والتعليمي (عمادة الكليات الجامعية)، والثقافي (الأندية الأدبية)، حيث يكون المسؤولون ممثلين للأغلبية المصوتة وحسب برنامج عمل يقدِّمه الشخص الذي يرشح نفسه رجلاً كان أو امرأة.

الخطوة الأولى وتراكم التجربة
في مجالس النوادي الأدبية، أفرزت الانتخابات الأدبية أسماءً رابحة لعضوية مجالس الإدارة، لن تكون بالضرورة هي الأفضل أداءً من الأسماء التي عُيِّنت في السنوات الماضية. وسيظل الحكم معلقاً في ضوء الأداء الفعلي والنتائج التي يُرجى أن تكون أكثر حضوراً وأبعد أثراً. ومهما كان من أمر انتخابات أعضاء مجالس إدارات الأندية الأدبية، إلا أنه يجب القول منذ البداية إن خطوة الانتخابات جيدة من حيث العمل بتجربة الانتخابات، وهو المسعى الذي كان لي وزملائي أعضاء مجلس إدارة نادي المنطقة الشرقية الأدبي في الدمام شرف الإلحاح عليه ومطالبة وزارة الثقافة والإعلام بالتسريع بتنفيذه. وقد كان الانتخاب مطلباً لكثير من المشتغلين بالثقافة، وها قد تحققت الجولة الأولى.

من المتوقع، مع كل ذلك، أن تكون هناك سلبيات قبل أي انتخابات وأثنائها في مجتمعنا، فالانتخابات نفسها من حيث الفلسفة والتنظيم والممارسة هي ثقافة في حد ذاتها وتجربة تراكمية تحسن نفسها باستمرار في مجتمع يحترم المساءلة. نتذكر هنا الانتخابات البلدية الأولى حيث امتلأت الساحات بمخيمات القبائل والعشائر، وظهر على السطح أولاد الحمايل ورجال الأعمال والوجهاء والميسورون ينحرون الذبائح وينتخون سراً وعلناً بأهل العزوة والحمية. وحتى الصحافة والإعلام في بلادنا لم تهتم ببرامج المترشحين ووعودهم وتحليلها وتوثيقها بقدر ما ركزت على الإعلانات والصور الفارهة والاحتفالات.

في انتخابات النوادي الأدبية، لم تكن هناك مخيمات وذبائح كرم حاتمي وإعلانات فارهة، ربما لأن المشتغلين بالثقافة مفلسون مالياً معظم الوقت، أو دائماً. لكني لم أقرأ برنامجاً متكاملاً أو منظومة من عناصر النشاط الثقافي لأي عضو مترشح في النوادي الأدبية يعد بها مؤيديه المصوتين أو يلزم بها نفسه.

الثقافة الانتخابية الغائبة
وقد تظهر الامتدادات السلبية للمسألة الثقافية للانتخابات بعد فوز المرشح. فبعد الانتخابات البلدية، لم نقرأ تقييماً أو مساءلات علنية يوجهها الذين انتخبوا لأداء الذين فازوا بالأصوات، ولم نقرأ تقييماً للأداء ونقداً ذاتياً قام به الفائزون. ففي العمل الانتخابي المأمول، يتطلع الذين صوتوا إلى أداء الشخص الذي أكسبوه الموقع المهني بأصواتهم، كما يقدِّم ممثل المنتخبين (أي الشخص الذي فاز بأصوات شريحة من الناس) كشف حساب بالأداء والعقبات والنتائج. وهذه ثقافة انتخابية تتعدى طقوس صندوق الاقتراع، وتنطوي على الإعلاء من القيمة النظرية والعملية لمسائل الالتزام والشفافية والعلنية وتقييم الأداء الفعلي والنقد الذاتي الإيجابي والمتابعة عند كل من الشخص الذي منح صوته ولدى الشخص المترشح الفائز.

لأغراض متابعة الأداء في الساحة الأدبية، أقصى ما هو موجود هو قوائم الإصدارات الأدبية من كتب الشعر والقصة والنقد والرواية وغيرها، وقوائم الفعاليات من أنشطة منبرية كالمحاضرات والندوات، مجرد كشف بالعناوين والنصوص في أفضل الأحوال. ولم نجد قراءات نقدية معمقة من أي نوع لهذا النتاج كأضمومات لها منطق خاص من حيث صدورها أو تحققها في الزمان والمكان. لم نجد، مثلاً، أي رصد لنوعية النتاجات وكميتها في نادٍ أدبي معيَّن على مدى فترة زمنية معينَّة وخطوطه البيانية النوعية والكمية والتغيرات ذات الصلة عبر المكان والزمان. وأخطر من هذا، أننا لم نجد أية مقاربة لعلاقة هذا النتاج بالحركة الاجتماعية من حيث التأثير والتأثر. إن مقاربة النتائج على الصعيد الثقافي والفكري والسلوكي في المجتمع بعد غائب أو ضعيف لاسيما في مقاربة العمل التربوي والعلمي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي بشكل عام، وليس في مقاربة النشاط الأدبي الإبداعي فحسب.

تمرد المبدع على المؤسسة
الحديث هنا عن العمل الأدبي الثقافي المؤسساتي، بما هو عنوان وممارسات في المؤسسة. ولا بد أن الباحث المدقق، المشتغل بسيسيولوجية الثقافة والإبداع، سيشير إلى أن الإبداع الفريد والاستثنائي المؤثر في العلوم والفنون والآداب وشتى نواحي المجتمع والثقافة لم يكن مرتبطاً ذات يوم في التاريخ بمسألة الانتخابات، أو منطق المؤسسة. فالإبداع العبقري الذي يختط طرقاً جديدة في التفكير والعمل والتأسيس المعرفي والجمالي الجديد، والتأثير الاجتماعي الملموس هو في الغالب فعل معرفي ينبثق من حوار نقدي صارم واحتجاجي على المفاهيم والممارسات السائدة في أي حقل معرفي أو جمالي. وخذ مثلاً أي مبدع له تأثير مستمر في العلوم والفنون والآداب، وستجد أن أعماله المؤثرة هي غالباً اجتراحات لا تتقيد بمنطق المؤسسة في لحظة تاريخية ما، لا على صعيد الرؤية، ولا صعيد المنهج أو الطريقة، ولا على صعيد مقاربة المادة المعرفية أو إعادة بحثها أو اكتشافها، ولا على صعيد اللغة أو التقنيات أو الأدوات. هذا الشذوذ المتفرد هو شرط الإبداع، وهو إشكال دائم بين المؤسسة الضابطة والفرد المبدع، ولا علاقة مباشرة له بالانتخابات كعمل مؤسساتي.

ضرورة العمل المؤسساتي
كيف يمكن لمجتمع متغير كمجتمعنا أن يموضع مسألة الخصوصية الفردية للإبداع وشروط الحرية للمبدع ويوائم بين كل ذلك وبين العمل المؤسساتي الثقافي المنظم والضابط لإيقاع العمل الثقافي، ومن مقتضياته الانتخاب أو الشورى الثقافية الجماعية؟ تلك مسألة في غاية الأهمية والتعقيد، وأظن أن المسألة برمتها تحتاج إلى مقاربات صريحة من المسؤولين والمبدعين على السواء، ولو أن مبدعاً واثقاً من أدواته ورؤاه ومعارفه فلن ينتظر مداولات المسؤولين والتنفيذيين بخصوص الانتخابات، ولن يلتفت كثيراً إلى هذا الإشكال المتصل بسيسيولوجية الإبداع وسيكولوجيته. المبدع أو المبدعة مدفوع إلى العمل فحسب. وفي كل الأحوال، يبقى العمل المؤسساتي الثقافي ضرورة عملية في مجتمع اليوم القائم على التنظيم وتوزيع العمل والأدوار. وعلى المرء الاعتراف بأن تلك المعادلة ( معادلة المؤسسة- المبدع- الإبداع) معادلة عويصة، لكن المبدعين الحقيقيين لا ينتظرون الإجابات ولا الانتخابات.

إذاً، لا بد من التعبير عن السرور ولأكثر من سبب بخطوة الانتخابات الأدبية عملاً مؤسساتياً، ولا بد – إلى جانب ذلك- من الإشارة، ولو من بعيد، إلى المسألة الثقافية المتصلة بالانتخابات، فلسفةً وممارسة ونتائج في مجتمعنا، وإلى أن الانتخابات لا تقدِّم ولا تؤخر عند المبدع المسكون بقلق الإبداع والعمل المتفرد.

أضف تعليق

التعليقات