ديوان اليوم

حنينٌ مثل قوس المطر

  • A
  • scan3
  • scan4

نستضيف في هذا العدد الشاعر إبراهيم حسين زولي، ليقرأ لنا نماذج من الشعر العربي، يطل من خلالها على إمرئ القيس وغزلياته، وينتهي بأبي تمام ووصفياته، مروراً بأبي نواس وأبي الطيب أبي العلاء. والشاعر زولي من مواليد مدينة ضمد، أصدر عدداً من الأعمال الشعرية، منها: رويداً باتجاه الأرض، 1996م؛ أول الرؤيا، 1999م؛ الأجساد تسقط في البنفسج، 2006م؛ تأخذه من يديه النهارات، 2008م؛ رجال يجوبون أعضاءنا، 2009م؛ قصائد ضالة، 2010م.

تقول العرب: أشعر الشعراء إمرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وهو، أعني الأعشى، سُمّي صناجة العرب.

من الأبيات التي تلذّ لي، قوله في معلقته التي مطلعها:
ودّع هريرة إن الركب مرتحلُ
وهل تطيق وداعاً أيها الرجلُ
لنستمتع معه فيما بعد بتوصيفه النادر لمحبوبته:
غراء فرعاء مصقول عوارضها
تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحلُ
كأن مشيتها من بيت جارتها
مر السحابة لا ريث ولا عجلُ
تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت
كما استعان بريح عشرق زجلُ
ليست كمن يكره الجيران طلعتها
ولا تراها لسر الجار تختتلُ
يكاد يصرعها لولا تشددها
إذا تقوم إلى جاراتها الكسلُ
إذا تقوم يضوع المسك أصورة
والزنبق الورد من أردانها شملُ
ما روضة من رياض الحزن معشبة
خضراء جاد عليها مسبل هطلُ
يضاحك الشمس منها كوكب شرق
مؤزر بعميم النبت مكتهلُ
يوماً بأطيب منها نشر رائحة
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصلُ
علقتها عرضاً وعلقت رجلاً
غيري وعلق أخرى غيرها الرجلُ
إلى أن يقول ذلك البيت الذي يصدق عليه (يتمنَّعن وهن الراغبات)
قالت هريرة لماجئت زائرها
ويلي عليك وويلي منك يارجلُ

ونحن مازلنا في الشعر الجاهلي يطيب لي أن أذكر بيت لبيد بن ربيعة:
ولقد سئمت من الحياة وطولها …
وسؤال هذا الناس: كيف لبيدُ
ما أدهشني في هذا البيت هو كسر الأنساق النحوية في قوله (هذا الناس) والطبيعي أن يقول هؤلاء الناس. من التأويلات لمثل هذا التعبير هو: مثلما أن السؤال مكرر من الناس وكأنه من رجل واحد فاستحسن أن يضع له كلمة هذا لأنّ السؤال واحد وكأن قائله واحد. إلى غير ذلك من الاعتبارات البلاغية التي ليس هنا محل ّذكرها.

كذلك يحضر في ذاكرتي الآن أبو الطيب المتنبي الذي وصل به الاعتداد بالذات ما وصل في هذه الأبيات:
أي مكـــــــان أرتــــــقـــــــــــــــــــــي أي عظــــــــــــــــــيـــــــم أتقـــــــــــي
وكل ما قد خلــــــــــق اللـــه وما لــــــم يخــــــــــــــلــــــــــــــــــــــــــق
محتقر في همــــــــــــــتــــــــــي كشعرة في مفــرقـي
حتى وهو بين يدي الممدوح لا يفتأ يمدح نفسه من ذلك قوله:
وما الدهر إلا من رواة قلائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمرا
وغنى به من لا يغني مغردا
أجزني إذا أنشدت شعرا فإنما
بشعري أتاك المادحون مرددا
لكنه مع هذا الشعور بعظمة النفس له أبيات في وصف المحبّ قمة في الطرْح:
أرقٌ علـــــى أرقٍ ومثــــلي يــأرقُ
وجوىً يزيــدُ وعَبـــــرةٌ تترقْــرقُ
جُـهــدُ الصَّبابـةِ أن تكـونَ كـــــمـا
أرى عَــيـْنٌ مُسَهّـــدةٌ وقــَلْــبٌ يَخْــفـــقُ
مـــا لاح بــرقٌ أو تـَـرَنّــــَم طــــائرٌ
إلا انْـثـَنَـيـــتُ ولي فـــؤادٌ شيـِّــقُ
جَرَّبتُ مِـنْ نـارِ الهَــوى مــا تَنطفـي
نارُ الغََـضى وتَكِــلُّ عَـمـَّـا تـُحرِقُ
وعَـذَلتُ أهـلَ العشقِ حـتّـى ذقْــتـُـهُ
فعَجِـبْـتُ كـيْـف يَموتُ مَـنْ لا يَعْشَـقُ

من الشعراء الفلاسفة أبو العلاء المعري. شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء صاحب الرسالة الأشهر (رسالة الغفران) وصاحب اللزوميات وهو رهين المحبسين، البيت والعمى. له أبيات في مساءلة الوجود، والحياة قلّ مثيلها في قديم الشعر العربي:
رَغِبْنا في الحياةِ لفرط جهلٍ
وفقدُ حياتِنا حظٌّ رغيبُ
شكا خُزَز حوادثها، وليثٌ
فما رُحمَ الزّئيرُ، ولا الضغيبُ
شَهدْتُ، فلم أُشاهد غيرَ نُكرٍ
وغيّبني المنى، فمتى أغيبُ؟

وقصيدته الأشهر التي مطلعها:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شادي
ومنها:
تعب كلها الحياة فما أعجب
إلا من راغب في ازدياد

وفي هذا الصدد لابدّ من الوقوف على نماذج لشاعر مهمّ في المدونة الشعرية العربية وهو أبو نواس. هذا الشاعر الذي تمرد على السائد والمألوف لغة وواقعاً. وهو لم يكن منبتاً من جذوره كما يعتقد فقد ذكرت الأقوال أنه حفظ الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، وحفظ ألف أرجوزة من شعر العرب. ثمّ فتح آفاقاً جديدة في سياق الشعر العربي بعد ذاك. يقول:
دَعْ عَنْكَ لَوْمي فإنّ اللّوْمَ إغْرَاءُ
ودَاوني بالّتي كانَتْ هيَ الدّاءُ
صَفراءُ لا تَنْزلُ الأحزانُ سَاحَتها
لَوْ مَسّها حَجَرٌ مَسّتْهُ سَرّاءُ
قامْت بِإبْريقِها، والليلُ مُعْتَكِرٌ
فَلاحَ مِنْ وَجْهِها في البَيتِ لألاءُ
فأرْسلَتْ مِنْ فَم الإبْريق صافيَةً
كأنَّما أخذَها بالعينِ إغفاءُ
إلى أن يقول في آخر النصّ:
فقلْ لمنْ يدَّعِي في العلمِ فلسفةً
حفِظْتَ شَيئًا، وغابَتْ عنك أشياءُ
ويقول في قصيدة أخرى:
عَيْني! ألومُكِ لا ألو مُ القلبَ، لا ذنبٌ لقلبي
أنْتِ التي قد سِمْتِهِ ببَلِيّةٍ وضَنىً وكرْبِ
وسقيْتِهِ منْ دَمْعكِ الـسّفّاكِ سَكْباً بعد سَكْبِ
فنما الهوى فيهِ وشبَّ، و صار مَألفَ كلَّ حِبِّ
ويْلي على الرّيمِ الغَرِيـرِ الشّادِنِ الأحْوَى الأَقَبِّ
تتْرى لديَّ ذنوبهُ ، ويجِلّ في عينَيْهِ ذَنْبي
إن زار رَحّبْنا ، وإن زُرْناهُ لم نَحْلُلْ بِرَحْبِ
وإذا كتبتُ إليهِ أشْـكو لم يجُدْ بجوابِ كتْبي

وله:
حامـــــــِلُ الهَــــوى تَعِــــــــــبُ يَستَخِفُّهُ الطَرَبُ
إِن بَـــكـــى يُحَـــــــــــــــــــقُّ لَــــــــهُ لَيسَ ما بِهِ لَعِبُ
تَضـــحَكــــيــــــــــنَ لاهـــــِيَــــــةً وَالمُحِبُّ يَنتَحِبُ
تَعجَبــــينَ مِن سَــــــــــقَمـي صِحَّتي هِيَ العَجَبُ
كُلَّمـــا انقَضــــــــى سَبَـــــــــبٌ مِنكِ عادَ لي سَبَبُ

وهناك أبو تمام ذو التجربة المدهشة، والتراكيب الجديدة في عصره، والسياقات التي لم يكن لها وجود قبله، له بيتان لهما فرادة على الأقلّ في ذاكرتي.
مطرٌ يذوب الصحو منه وبعده
صحو يكاد من النضارة يمطر
غيثان: فالأنواء غيث ظاهر
لك وجهه والصحو غيث مضمر
لا تعليق على هذه الأبيات!! فالصورة هي التي تتحدّث، والكلام عنها قتل لها.
فقلْ لمنْ يدَّعِي في العلمِ فلسفةً
حفِظْتَ شَيئًا، وغابَتْ عنك أشياء

قصائد
شِعر: إبراهيم حسين زولي

تطلّ عليه شياطينه

عاد سرب العذارى
أًعدُّ الحقيبة كنت
أزيّنها بالأغاني
لقد بشّرتني الطيور
بهذا الحنين الذي
مثل قوس المطرْ
٭٭٭
كان يصحو على
معصم الورد
متّقداً بالرماد
يمدّ له العمر خنجره
مترعاً بالجهات
يغني على
ظله ويعيد
يلوّن بالغيم
أجنحة للحمامْ
٭٭٭
غاب سرب العذارى
تذكّر يوم
استبحْنَ براءته
كان يمشي
على الدرب
مستهدياً بالربيع
تطلُّ عليه
شياطينه ثمّ
يغمض عينيه
في فرح ٍ
ليس يعرف
من سترافقه
في المنامْ؟

قلق يستعيد السكينة

تطلّ عليّ القصائد
في آخر السنوات
أرى
ظلمة
الأرض
تغرق في
الجسد الرحب
تطفئُ مصباحها
قمماً من خرائب
مأهولة بالجنون
فما عاد في الشعر
شعر لننشدهُ..
٭٭٭
فوق أيّ الدروب
سننصب جثتنا؟
قلقٌ قاحلٌ
يستعيد السكينة
تلك طرائده
دونما بطلٍ
يتسلّل بين السطور
يلوّن زنزانة المفردات
كأنك تنكرني
آخر العمر
هل ستودّع
نجمة خيباتهم؟
ثمّ تجلس منتصراً
في ضباب الطريق
٭٭٭
عليّ الجهات
أبعثرها في المرايا
لئلاّ يداهمها
فيلق النزوات
متى يفق العابرون
ولا تتوارى
الحياة عن الناس
مطرودة مثل
ذئب جريح
كأنك للتوّ تخرج
من شبق الأولين
كأغنية تتعثّر
شهقتها في الوجوهْ.

مطر لاحدود له

أيها المتألق كالنهر
هل تسْتعيد
البهاء الذي
في الملامح,
أنشودة
لاقتياد
النداءْ
لاتقل إنه البرد
في هودج الشعراء
الكلام يبدّل وحشته
ويعيد إلى
الناس أسماءهم
٭٭٭
أيها المتآكل
وقت الحداد قريب
أصابعك السمر
ظمأى إلى مطرٍ
لاحدود له
المدى فيك
معتصم بالضياءْ
أنت لا تشبه الآخرين
تبوّأت فيء الخصوبة
هذا دم يرشق الشمس
يصقل حافّتها
أنجبتك القصائد ثانية
من رماد أليفٍ..
٭٭٭
كمن يتمدّد
في شجرٍ يتوالد
كالكبرياء
تعود إلى البدء
مفتتحا
صفحة
من
هباء.

أضف تعليق

التعليقات