موقع «ويكيليكس» وخزائنه الأسطورية المفتوحة، هو حديث العالم اليوم …!
وهكذا .. فحين يتفق الساسة والعلماء والإعلاميون والتقنيون، والأبرياء المتابعون – أمثالنا – على أن هذا الموقع الإلكتروني، قد أصبح هو عنوان النشرات الإخبارية المتتابعة، فيما يحتشد من ورائها المحللون والاستراتيجيون، فإن هذا يعني أن أمراً جللاً يحدث على خريطة الاتصال الإلكتروني..!.
لم يكن لأحد ليصدق أن جوليان أسانج، المواطن الأسترالي الذي لم يتجاوز الأربعين من عمره، صاحب القدرة الفائقة على فك رموز التشفير الحاسوبي، وحفنة من أصدقائه يمكن أن يعملوا مشتركين لحيازة مجموعة ضخمة من الوثائق السرية والعسكرية والسياسية والقانونية، وأن يهددوا بها رصانة التقاليد الدبلوماسية المعهودة، وأن تصبح غذاءً يومياً لجميع الوسائل الإعلامية العالمية.
والحقيقة أن ما حدث ليس إلا أحد منتجات الشبكة العنكبوتية، ففي هذه الدولة الرقمية (الإنترنت) تبدّدت الحدود المعهودة بين القارات والدول والعواصم، بل وبين الأفكار والقيم والفضاءات. إننا على نحو ما، نعيش في عالم عصيّ على الانضباط، عالم يتنافس فيه الجميع على الانفتاح، والنشر والتواصل، لا على السرية والمنع والغلق. إن حمى الفيضان المعلوماتي المعاصر لا يسهم فيه الأفراد والمؤسسات والمنظمات الخاصة، بل تسهم فيه أيضاً الحكومات والمؤسسات الرسمية على صعيد واحد، فالجميع معنيّون بأن يكونوا جزءاً من هذا العالم المعلوماتي الضخم.
ورغم هذه الثياب الزاهية التي ترتديها شبكة الإنترنت، فإن العالم المادي المحيط بها لن يفلت من بعض أشكال الحروب والصراعات، التي قد لا تنشأ بفعل احتلال أراضي الدول الأخرى، أو بفعل المكونات الجغرافية والتاريخية للدول، ولكن بفعل التهديدات التقنية التي تقترفها دولة ضد أخرى، وإذا كانت قوة المعلومات إيجابية وتعكس مستوىً متقدماً من حرية التواصل وتشاطر المعرفة، فإنها تضع عبئاً على القوى التي تبدأ درسها الأول في الشفافية.
وإجمالاً فإننا لا نعرف حقاً ماذا ستكون ردود أفعال الدول المعنيّة لو كان «ويكيليكس» قد انطلق من إحدى قرى العالم الفقير العالم ثالثي، لا من أحد شوارع مدينة ريكجافيك في أيسلندا، حيث الحريات مصانة، وحيث القوانين قادرة على ضبط نزعات الناس.
يقول مؤلف كتاب «ثورة الأنفوميديا»، فرانك كيلش، إن الخصوصية التي تتعرَّض للتهديد المستمر ستتصدر الأولويات، فالمعلومات هي أحد مصادر القوة، وسوف تنساب كميات كبيرة من المعلومات عن طريق المعلومات فائقة السرعة، ولذا فإن الشركات التي يمكنها الحصول على تلك المعلومات وتحليلها وتصنيفها سيكون لديها قوة هائلة، وستصبح بالنسبة لها سلعة ثمينة ومريحة». ويضيف: «إن محاولة فرض الخصوصية ستكون بمنزلة تجميع المياه في مصفاة، فالتحكم في السرية والخصوصية على شبكة دولية تحتلها ملايين الكمبيوترات، هو ضرب من المستحيل، وستتسرب من فوق أعلى الأسوار كضباب الصباح».
إذن فإن الحديث عن أن التقنية المتجددة قد جعلت العالم قرية صغيرة بل منزلاً، يتشارك فيه سكانه المشاعر والأصوات والانفعالات، هي حقيقة مركزية تحدث في كل لحظة من حياتنا، بل إن الاختراعات العظمى التي أسست للتقارب بين البشر مثل: الكتابة والطباعة والسفن التي تمخر المحيطات وقاطرات السكك الحديدية كلها لا تقارن بما تحدثه طرقات المعلومات السريعة في حياتنا الراهنة.
إذن فإن ما يقوله لنا موقع «ويكيليكس» بكل حمولاته الضخمة، وأسراره، وفضائحه ليس سوى إشارة صغيرة لما يحمله المحيط المعلوماتي الهادر من حولنا، بل إن بعضهم يذهب إلى حد القول إن فضيلة «أسانج» لا تزيد عن أنه اصطاد سمكة في ذلك المحيط، وألقى عليها ضوءاً إعلامياً متوهجاً، فيما يعجّ المحيط نفسه بما لا يحصى من الأسرار والأعاجيب.
خلال فترة من الزمن سينسى العالم كل هذه الضجة حول « ويكيليكس» لتحل محله مواقع أخرى تتقمص الأدوار نفسها، فنحن إجمالاً محكومون بظاهرة «الإفراط» في ضخ المعلومات التي اعتبرها صاحب (اسم الوردة) الكاتب الإيطالي، أمبرتو إيكو، تعادل الضجيج، فالدول لم تعد تمارس الرقابة عبر الاحتجاز أو القضاء، بل عبر الإفراط المنتظم، فاليوم يكفي أن تدمر تأثير خبر ناري ما بإرسال حزمة من الأخبار الشبيهة أو المغايرة وراءه فلا تعود تتذكره، بل تلهث لمطاردة ما يستجد بعده. يضيف إيكو: «في الماضي كنت أذهب إلى المكتبة لتدوين ملاحظاتي حول الكتب التي تهمني، والآن أحمل إلى منزلي كل هذا المخزون الإلكتروني المعرفي لكنني لا أفتحه، فالمشكلة بنظري هي في كيفية التوصل إلى تصفية ما لهذه المعطيات التي تلقى أمامنا».
عندما ولدت شبكة «الإنترنت» قال أحدهم: «الآن لقد ولدت الدولة التقنية». في تلك الأيام كان يمكن الحدّ من آثارها بالمنع أو الإيقاف أو برفع أسعار الخدمة. أما اليوم، فكيف يمكن لدولة أو فرد أن يسيِّر مصالحه الحياتية دون أن يرابط أمام الحواسيب المتصلة بغابة من الشبكات، المعقَّدة التي لا يعرف منتهاها، فنحن مثلاً نقرأ أن مرتادي (الفيس بوك) الذين بلغ عددهم حتى وقت قريب 500 مليون مشترك، يغامرون بفضح أسرارهم الشخصية التي يمكن توظيفها بشكل سلبي؟ ولكن ما يحدث الآن هو أن مرتاديها يتضاعفون كل يوم..!
خلاصة القول إن ظاهرة «ويكيليكس» تفيد أن القوة المهيمنة على العالم هي قوة المعلومات، وهي قوة ليست سيئة بالضرورة، فعبرها يمكن لطالب نبيه يعيش في إحدى قرى الهند النائية، على بضع دولارات، أن يتواصل مع أرقى المعاهد العلمية المتخصصة في بريطانيا أو أمريكا. واستطراداً فإن النهوض الهندي يُعزى في جانب منه إلى أودية التقنية الإلكترونية التي صنعت وجهاً جديداً للهند في آسيا.
إنها الظاهرة التي تفرط من السيطرة ولا يبقى أمام الدول سوى أن تصل إلى طريقة لفهمها والعيش معها.