قضية العدد

هل تسقط النظرية النسبية؟
هل يتقدم العلم أم يتأخر

  • faster-than-speed-of-light-neutrino-maybe_40699_600x450
  • GRB_photon_race_full
  • 02-0609D.hr
  • ev_21_e

ما هي الحكاية؟
الحكاية أن مجموعة من العلماء توصلوا في نتائج تجاربهم التي استمرت سنوات ثلاث، إلى أن هناك جسيمات فاقت سرعتها سرعة الضوء. ثم ماذا؟ ما تبعات ذلك؟ هل يستحق شيء من هذا أي اهتمام وكل هذه الأخبار والقلق والترقب؟ هذا ما سنجده في هذه المقالة، التي أعدها الكاتب فاضل التركي، ومن خلالها سنتعرف إلى تفاصيل هذه الحكاية، بما فيها علاقتها بسرعة الضوء والنسبية والتبعات والعواقب. ولكي نعي تماماً أهمية هذا الأمر، سنجول في عوالم ممتعة نتعرف خلالها إلى كيفية عمل العلم، والمنهج العلمي والتفكير النقدي. سنتعلَّم كيف تتحوَّل الأفكار إلى نريات وكيف نثبتها وكيف ننقضها؛ نتعرف إلى صرامة المنهج العلمي التي لا ترحم ولا تجامل. كيف كان لنظرية النسبية أن تبقى صامدة وعملية طيلة هذا الوقت (قرن من الزمان)، ثم جاء وقت قد تغدو خطأ. ماذا يعني ذلك وأين نحن وأين سنكون؟.

أغلب الظن أنك سمعت عن سيرن (المنظمة الأوروبية للبحث النووي)، التي نتداول أخبارها العلمية كثيراً هذه السنوات، رغم أنها تأسست منذ 1954م. سيرن، فيها 20 عضواً من الدول. وتعرف سيرن بأنها أكبر مختبر في العالم تُشغِّلهُ هذه المنظمة واهتمامه هو فيزياء الجسيمات. إنه مختبر يقع بين حدود سويسرا وفرنسا، يتكفل بمسؤولية تشغيل ستة من مسرعات الجسيمات و مبطئ واحد.

معظم نشاط هذا المختبر ينصبُّ على مصادم الهايدرون الكبير، وهو حلقة وضعت بعمق 100 متر تحت الأرض، ومحيط هذه الحلقة 27 كلم. ما يهمنها في أمر سيرن، هو أن مجموعة من علمائها بالتعاون مع مجموعة من علماء المختبر الإيطالي لفيزياء الطاقة العالية في جران ساسو، قاموا بتجربة استمرت سنوات ثلاث. التجربة أن يطلق العلماء في سيرن في جنيف في مسرع الجسيمات، جسيمات النيوترينو، لتسافر مسافة 730 كم، وتصل إلى جران ساسو، حيث تنتظرها أجهزة مستكشفة تستقبلها. بعد هذه السنوات من إرسال جسيمات النيوترينو هذه المسافة من سيرن إلى جران ساسو، واستقبالها هناك، بينت النتائج أن الجسيمات كانت تسير بسرعة أكثر من 300 كلم في الثانية!

لكن، ما هو النيوترينو؟
جسيمات النيوترينو، (أو اختصاراً، النيوترينو)، هي أحد الجسيمات تحت الذرية، تشبه الإلكترونات التي نعرف، غير أن النيوترينو جسيم معتدل الطاقة، ليس بسالب ولا موجب وكتلته تقترب من الصفر. إن جسيمات النيوترينو تعبر أجسامنا كل يوم وتخرج منها من غير ما نشعر ومن غير أن تتأثر أو أن يتبدل في هذه الجسيمات شيء. تنتج هذه غالباً بسبب الإشعاع أو التفاعلات النووية كتلك التي تحدث في الشمس لتمدنا بالطاقة والحرارة. تنطلق من الشمس إلى الأرض قرابة 65 مليار نيوترينو كل ثانية، وتعبر في كل سنتيمتر مربع تتعامد عليه أشعة الشمس. هذه معلومات قليلة نعرف غيرها الكثير عن النيوترينو منذ مدة ليست بالقصيرة. لكن، أن تجرؤ على أن تتجاوز سرعة الضوء، فهذا أمر غير عادي أبداً. هناك من صنَّف هذا الأمر بأنه أمر غير مقبول بتاتاً.

وإذا كانت سرعة النيوترينو أكثر من سرعة الضوء؟
إذا كان النيوترينو يسافر بسرعة أكثر من سرعة الضوء، فقد تجاوز حدود معرفتنا. فلقد كنا نظن في العلم، أن حدود السرعة في الكون هي سرعة الضوء لا أكثر، حسب النظرية النسبية التي كان آينشتاين قدَّمها في ورقته القصيرة الشهيرة عام 1905م تأسيساً على من سبقه من فرداي ولورينتز و ماكسويل. إن آينشتاين، قد بنى نظريته النسبية الخاصة على تثبيت سرعة الضوء و هي في حدود 300 كلم في الثانية. وبعد أن بنينا على ذلك الكثير من النتائج والتطبيقات في حياتنا، أصبحنا اليوم ونحن في معضلة قد تضطرنا لإعادة الحسابات والتعريفات والأساسات من جديد. إذا كان في الكون ما هو أسرع من من الضوء، فقط نسفنا بذلك نظرية النسبية ونحتاج أن نعدِّلها أو نأتي بغيرها بديلاً لا يخطئ في وضع قانون صارم كهذا. لكن، هل فعلاً أبطلت سرعة النيوترينو النسبية؟ لننتظر قليلاً.

ما قصة ثبات سرعة الضوء كأقصى سرعة في الكون؟
كان آينشتاين قد استند إلى ماكس بلانك ولورينتز وبونكاريه وسابقين آخرين من العلماء، واعتمد على تخيلات شغلت ذهنه منذ كان صبياً. ينقل عنه أنه فكَّر في أن يصعد على عمود ضوء، ويركض عليه في نفس الاتجاه، هل تزداد السرعة؟. لقد كانت كشوفاته تحتم عليه أن يرضى بألاَّ تزيد السرعة الكلية أبداً، مهما كانت سرعة السير على هذا العمود في اتجاه حركته. لقد توصل إلى أن هذه السرعة هي القصوى في الكون، ولا يمكن تجاوزها. حساباته في ورقته التي نشرها عام 1905م تذهب إلى أن سرعة الضوء في الفراغ لا تتجاوز 299,792,458م في الثانية، ويرمز لها بالحرف c. وهي سرعة لا يصل لها الضوء لو سرى في مادة أخرى كالماء أو في الهواء أو الزجاج مثلاً، إنما ستكون أقل سرعة من هذه التي في الفراغ. إن الجسيمات التي لها كتلة، لا بد أن تكون، حسب نظرية آينشتاين الخاصة، أقل سرعة من الفوتونات التي تكون الضوء وكتلتها معدومة؛ لا بد أن تكون أقل سرعة من الفوتونات بسبب كتلتها. ولكي تفوق سرعة جسيم ما سرعة الضوء، فيجب أن تكون كتلته معدومة نحتاج إلى طاقة هائلة إن لم تكن لا نهائية لكي يتجاوز هذه السرعة. لقد بنينا الكثير من الأساسيات بناءً، مستخدمين فكرة ثبات سرعة الضوء في الكون كحد أقصى للسرعة لا يمكن تجاوزه ولا تسريع الأجسام التي تتحرك لتصل إليه. هكذا يقول آينشتاين في ورقته و في كتابه الشهير، النسبية، الذي كتبه للعامة مبسطاً. من الأمور التي بنيت على استخدام ثابت سرعة الضوء هو وحدة المتر الذي نقيس به. لقد تم تعريف المتر بما يساوي المسافة التي يقطعها الضوء في واحد من 299,792,458 جزء من الثانية.

لقد كان يخطر ببال الطفل ألبرت أنه لو ركب سيارة، و حاول التسابق مع قطار، فهل سيصل لسرعته؟ ماذا لو كان يتسابق مع عمود ضوء؟ هل لو وصلت سرعة السيارة إلى سرعة الضوء، فسيرى أمواجاً متجمدة بجواره هي الموجات الضوئية؟ لقد قضى آينشتاين من عمره قرابة الخمسين عاماً مع هذا السؤال الذي قاده لبديهية مدهشة هي ثبات سرعة الضوء c التي لا يمكن تجاوزها في الكون حسبما وصف باستخدام معادلات فرداي ومعادلات ماكسويل في الكهرومغناطيسية. هذا ما قاده إلى ما سمي فيما بعد بالنظرية النسبية الخاصة وثم تبعها بالنسبية العامة. إن سرعة الضوء لا تتأثر بحركة من يقيسها (حركة المراقِب أو الملاحِظ) ولا تتأثر ولا تتغير تأثراً بالزمان ولا بالمكان. إن سرعة الضوء لا تتأثر، سواء كان مصدر بث الضوء ثابتاً أو متحركاً.

لقد أثبتت التجارب صدق هذا الثابت بحيث لم يبت تجاوز هذه السرعة منذ نشر الورقة حتى سمعنا بتجربة نيوترونو سيرن وجران ساسو. إن النيوترينو جسيم في الذرة ذو كتلة معتبرة، وفي نفس الوقت، أثبتت التجارب خلال هذه السنوات الثلاث وبالحسابات الدقيقة والتريث، أنها تصل من مكان إطلاقها إلى استقبالها أسرع قليلاً من الضوء.

العلماء في مشروع أوبرا، لم يعلنوا هذا الخبر متأكدين من خرق النظرية النسبية التي كانت عتيدة عالية التصديق، ومستخدمة في تطبيقات شتى. جسيمات النيوترينو تقترب من الكتلة المعدومة، لكنها ذات كتلة في كل الأحوال. ولهذا يفترض بها حسب النسبية أن تتحرك على الأقصى بسرعة تقترب من سرعة الضوء، ولكن لا تصل إليها ولا تتجاوزها. لقد أثارت نتائج هذه التجربة الطويلة المدة، استغراب علماء مشروع أوبرا أنفسهم. بحيث تجاوزت سرعة هذه الجسيمات سرعة الضوء بمقدار 20 متراً لكل ألف كيلو متر. هذا الرقم في العلم ليس رقماً هيناً، رغم أن فارق الزمن في الوصول بين النيوترينو والضوء هو زيادة 60 نانو ثانية.

العلماء الذين خرجوا بهذه النتائج، يشكون أنفسهم فيما ظهر عندهم رغم كل الصرامة والمراجعة والشك والحرص على إيجاد خطأ ربما وقعوا فيه. لقد جعلهم يعلنون عن النتائج وينشرون بحثهم على المجمتع العلمي لعلّ غيرهم من العلماء والزملاء يجرون نفس الاختبار والتجربة و يتفحَّصون الخطوات والأرقام والمجريات تأكداً من خطأها أو تأكيداً لصحتها؛ ثم تبين الخطوة التالية.

وإذا ظهر أن النظرية النسبية سقطت؟ ماذا يعني ذلك؟
كل ما ثار هذه الشكوك حول النتائج، ليس دفاعاً عن النظرية النسبية، ولكن شئ من الصدمة التي جاءت تهدم معرفة معتمدة كانت نتيجة متفحصة لعقود من الزمن والتجارب والبراهين المادية والرياضية. المعارف المعتمدة، جاءت نتيجة عمل مضنٍ من التجريب والإثبات والبرهان، عجز عن أن يؤتى بمثال واحد ينقضها. لكن، ها قد جاء الوقت، وظهر ما يبدو أنه قد يكون السبب في تحويل النسبية إلى ماضٍ أو علماً من علوم الأولين. إن كثيراً من العلماء، يعتقدون حسب الدليل والبرهان وثبات هذه البديهة العلمية، أن تهدماً يُعد هدماً للفيزياء الحديثة، ونقضاً لكثير من النتائج والتبعات والاستنتاجات التي بنيناها على هذا الأساس.

إذا سقطت النظرية النسبية، فإننا بحاجة لمراجعتها أوالرجوع إلى الوراء قليلاً، كي نبني من جديد نظرية نحتاجها لتحل مكانها وعليها نبني التطبيقات والنتائج والتنقيات التي هي أحد أسس التقدم والحياة الحديثة. المرعب في الأمر، أن المنهج العلمي و عملية إنتاج العلم لا ترحم. فنحن نحتاج لكي نبني معرفة معتمدة، جهداً وعملاً على وضع البراهين والإثباتات والتجريب المضني. ولكن، لكي تسقط هذه المعرفة المعتمدة وتصبح بلا قيمة وليست قائمة على البرهان والدليل، نحتاج إلى مثال واحد فقط. مثال يمكن إعادة إنتاجه مراراً وتكراراً على يد علماء مختلفين في ظروف مشابهة أو مختلفة، وإذا استطعنا إعادة تنفيده، سقطت النظرية وذهبت المعرفة المعتمدة هباءً ولن يشفع لها طول العهد ولا الشهرة ولا كثرة التطبيق.

تسقط بمثال واحد، حالة واحدة وحسب، هكذا. يذهب قرن كامل من المعرفة العلمية المعتمدة و آلاف الأوراق العلمية والنتائج والتطبيقات والتقنيات، التي لم تعد مبنية على أسس سليمة كما كنا نظن. لكن ذلك، ليس سيئاً البتة. إنه نافذة جديدة و معرفة جديدة .. تُعبِّدُ طريقاً لم تقع عليها العين. طريق إلى بلاد جديدة، أراضٍ جديدة .. قد تطل بنا على عوالم و سهول و بحيرات و وديان وجبال وسماء أعلى وأحلى. هكذا هي تصورات العلم والمنهج العلمي.

كيف تنشأ و كيف تسقط النظرية العلمية؟ هل نتعرَّف إلى المنهج العلمي قليلاً؟
المنهج العلمي يمكن أن نصفه بعملية نستخدم فيها مجموعة من الطرق لكي نستكشف بها ظاهرة أو فكرة نخمِّنها أو نتخيلها، عملية ننتج بها معارف معتمدة (يمكن أن نعتمد عليها)، سواء كانت جديدة أو تصحيحاً وتكميلاً لمعارف سابقة أو نتجت من تركيب معارف سابقة. المعارف تكون معتمدة إذا قامت على الدليل والبرهان التجريبي العملي. قد نطلق على المنهج العلمي في تداولنا اليومي اسم التفكير العلمي أو التفكير النقدي. يعمُّ هذا المنهج السؤال الدائم والاستقصاء والشك والإبطال والبناء، حتى نصل لمعارف عجزنا عن هدمها.

ولكي يكون هذا المنهج أكثر تريثاً وصرامة، فإنه لا يعتمد على فرد واحد ومكان واحد وتجربة واحدة وفريق واحد؛ ولكنه منهج يتعاطى فيما ينتجه المجمتع العلمي المكون من العلماء والمشتغلين بالعلم، حيث تنشر الأوراق العلمية وتفاصيل التجارب والأفكار وتوثق وتعرض على الزملاء والأعداء (المنافسين) لتراجع و تختبر وتجرب وتعاد الحسابات والأسئلة والجهود وأساليب جديدة ورؤى جديدة حتى نصل لمرحلة نكون كمجمتع علمي قد عجزنا عن إيجاد ما يبطلها أو ينقض البرهان، فنكون وصلنا لجديد معتبر.

يمكن تلخيص خطوات المنهج العلمي كالتالي: نطرح سؤالاً ذا قيمة وأهمية. ثم نشرع في جمع المعلومات والملاحظات ذات العلاقة بسؤالنا المطروح ونطالع ما سبقنا به آخرون من جهود قد تكون ذات صلة. نجمع هذه المعلومات ونصنفها ونفهمها و ندرسها. نحاول قدر الإمكان أن نصوغ فرضية قد تكون جواباً عن السؤال المطروح، مستمدين العون من كل ما جمعنا وصنَّفنا من معلومات ومعارف وجهود قد سبقنا بها آخرون. هذا الجواب يكون محاولة لشرح أو تفسير الظاهرة أو الفكرة التي نحن بصددها في السؤال. بعد صياغة الفرضية الشارحة هذه، نجري التجارب ونجمع المعلومات والنتائج ونصنفها بدقة ونصفها. هكذا نضمن إن حدثت مفاجئة سارة أو غير سارة، أن نتذكر ماذا كنا نفعل لنعيد إجراء تلك التجربة بالذات أو نتبادلها مع آخرين لكي يعيدوا إجراءها. نحاول أن نتنبأ ببعض النتائج ونجري مزيداً من التجارب في نفس خط تنبؤاتنا، إذا حدث ما نتوقع، فهذا يدعم الدليل أكثر. هكذا نجمع الملاحظات عن هذه الفرضية ونحلل وندقق ونصف ونوثق. هكذا نستخرج من عملنا هذا نتائج و تبعات وننشر ما توصلنا إليه في المجلات العلمية والمنشورات ونترك الفرصة للآخرين ولنا، لنبني على نتائجنا (التي انتقلت من كونها فرضيات إلى نظريات). ثم نبني فرضيات أخرى نشتغل عليها و يعيد اختبارها الآخرون ليفشلوها أو ليبنوا عليها ويطوروها ويوسعوها. هذه هي ببساطة، خطوات المنهج العلمي، الذي يطبَّق بشكل أو بآخر في مختلف العلوم الحديثة، وينتج لنا أفضل معارفنا الإنسانية التي تعود علينا بحياة جديدة ورؤية وفهم جديد للكون للعالم الذي نحيا فيه.

كيف يعمل المنهج العلمي في المثال الذي نحن بصدده، سرعة الضوء و تجاوز النيوترينو ثابت حد السرعة في الكون؟

في حالتنا التي نحن بصددها، نعالج قضية أصبحت بديهية علمية قام عليها الدليل منذ بدايات القرن الماضي، وبنيت عليها نتائج كثيرة أخرى وحسابات و نظريات وتطبيقات. ثم ها نحن في حلقة خطوات المنهج العلمي، وربما دون أن نشعر، بدأنا نقذف بنيوترينوات من سيرن إلى جران ساسو، فإذا بها تصل قبل وقتها المتوقع. إننا إذا حسبنا سرعتها، أصبحت أكثر من سرعة الضوء، وهذا ما لا يمكن قبوله حسب نظرية النسبية الخاصة المعتمدة والتي أقمنا عليها الدليل والبرهان والتجريب الطبيعي. قبل أن يسارع العلماء في سيرن و جران ساسو إلى إعلان هذه المفاجأة كفكرة مقبولة معتمدة، كانوا قد أعادوا الحسابات والتجريب فيما يقارب 16 ألف مرة، على مدار أكثر من سنوات ثلاث، وبطرق مختلفة. لكن النتائج لا تتغيَّر. إنها تصل مبكرة إلى جران ساسو وإنها تسير أسرع من الضوء. حتى بعد محاولة عزل التجربة عن مؤثرات خارجية كمنع حركة المرور فوق حيز التجربة، لم يتغير شيء. حسب معادلة آينشتاين، ولأن للنيوترينو كتلة، فلكي يفوق سرعة الضوء، وجب توافر طاقة لا نهائية لذلك، وهذا ما يكون في عرف النسبية غير ممكن.

يقول أنطونيو إريديتاتو، الفيزيائي في جامعة بيرن، و أحد العلماء الذين أجروا هذه التجربة، إنهم يقيسون المسافة والزمن، و يقسمون المسافة على الزمن فيحصلون على السرعة، هكذا بكل بساطة. لكن، لا تظهر النتائج إلا متجاوزة سرعة الضوء. لكنهم تطبيقاً للمنهج العلمي، لا يستطيعون أن يجزموا بخطأ النسبية هكذا، تسرعاً، رغم كل هذا التأني. ها هم ينشرون النتائج التفصيلية لكي يتلقفها الزملاء و يواصلون الاختبار والتدقيق و التدعيم أو التقيل من قيمة ما قدم أنطونيو ومن معه.

ردود الفعل وانطباعات العلماء والآفاق المشرعة
ردود الفعل الأولية لدى العلماء والمهتمين بالعلم، غير تلك التي حملتها الصحف والمواقع العامة. هناك من يعتز كثيراً بالنظرية النسبية لدرجة أنه بدأ يُأوِّل بدل أن يشتغل ويتأكد من النتائج، هذا لو كان بإمكانه ذلك. التأويل طال المعادلة وطال كلام آينشتاين. إنهم يقولون إن آينشتاين لم ينف أن تكون هناك جسيمات يمكن تسريعها لتفوق سرعة الضوء، أو إن آينشتاين لم يعمم لدرجة ألاَّ تكون هناك سرعة تفوق سرعة الضوء. الحقيقة أن التأويل لا يغني ولا يقدِّم ولا يؤخر. نحن أمام حالة اختبار، ويجب أن نعمل المنهج العلمي ليخبرنا بالصواب والخطأ، يخبرنا إن كانت هذه المعرفة مازالت معتمدة، أم أننا يجب أن نتخطاها إلى ما هو خير منها، أو نتخلى عنها ونبدأ من جديد.

من العلماء من يميل إلى أن هناك خطأً في الحسابات، وكثيراً يكون هناك هامش للخطأ في الحسابات ولو كان قليلاً، لكنه يكون بالغ الوضوح في تجارب تعنى بالدقة كهذه. المثير للدهشة، أن العلماء الذين قاموا بالتجربة ليسوا حديثي العهد بالعلوم ولا بإجراء التجارب، حتى يقعوا في مثل تسرع كهذا. في نفس الوقت، النسبية ليست نظرية (لم تقم إلا بالدليل التجريبي والرياضي)؛ ليست نظرية حديثة العهد. لقد مضى عليها قرن من الزمن أصبحت فيه من المعارف الراسخة.

البعض يقول إنه ربما تصبح النسبية مثلما أصبحت نظريات نيوتن، نظريات تقريبية، وتأتينا نظريات أكثر دقة في الحسابات واستخراج النتائج و وصف الكون. أما البعض الآخر، مثل مورفي و جون ويب، فيظنون أن الضوء كان أسرع مما هو عليه اليوم في الفراغ وتناقصت سرعته مع تقدم عمر الكون. هكذا يبحثون عن تبرير من هنا وهناك.

العلماء الذين خمنوا صدق نتائج تجارب النيوترينو، توقعوا فتحاً جديداً. إنهم يتصورون أنها فرصة جيدة للتأكد من الفرضيات الفيزيائية الجديدة التي بنيت على أبعاد أخرى قد تصل إلى 11 بعداً، و قد اعتدنا على الأبعاد الثلاثة، الطول والعرض والعمق، إضافة إلى بعد رابع هو الزمكان الذي جاءت به النسبية.

فيزياء النسبية كفيزياء نيوتن، تهتم بالعوالم الكبيرة التي نراها ونلمسها وبالكون والمجرات والكواكب. أما فيزياء الكم التي جاء بها علماء في العشرينيات من عمرهم، هايزنبرغ و باولي و ديراك وشرودنجر ومن معهم، أطلق عليها حينئذ بفيزياء الفتيان، فتهتم بعوالم تحت الذرية. لقد ظل آينشتاين يعمل طيلة عمره بعد النسبية، و علماء آخرون، على المجئ بفيزياء جديدة تربط بين العوالم الكبيرة والصغيرة وتصنع معادلة موحدة. لقد مرت عقود على محاولات من أجل هذا الحلم من قبيل نظرية الأوتار التي لم نصل فيها بعد إلى نتيجة مرضية. و ها هو ستيفن هوكنغ في كتابه الأخير «التصميم العظيم»، يكتب للعامة عن نظرية «إم» التي هي في طور العمل وتشي بأمل نحو التقدم.

ستيفن واينبرغ الفيزيائي الشهير والبروفيسور في جامعة تكساس في أوستن، أدهشه الخبر. إن ما أكثر ما أدهشه أنه على مر سنين من التجارب، لم تجرؤ أي جسيمات على تجاوز سرعة الضوء إلا هذه النيوتريوات .. التي تشبه الأشباح التي لا ترى في الحديقة إلا في الظلام. أما لورنس كراوس من جامعة أريزونا و مارتن ريز من جامعة كامبردج، فيقولان إن ما حدث هو فضيحة محرجة. كيف يمكن لتجربة أن تنشر قبل التحكيم وتنتشر في الإعلام العام قبل أن تنال قسطاً من الاهتمام في المجتمع العلمي. إن هذا بالنسبة لكراوس لمحرج وخصوصاً أن النتائج خرجت بلا تفسير ولا شرح لما تم ملاحظته. والأخطر في الأمر، أنها بمجرد أن ينكشف خطأها، فستسقط الثقة عن العلماء الذين اشتغلوا عليها ونشروها قبل التريث وتذهب مصداقيتهم العلمية. إن تجربة قياس سرعة النيوترينو في 1987م، كانت قد حملت نفس الإدعاءات هذه، وحين تمت مراجعة النتائج والتجارب، تبيَّن أن الخطأ كان بسبب أجهزة القياس التي كانت تتأثر بالحرارة والمحيط.

بالنسبة لكثيرين، كانت هذه الأخبار مبعث مسرة، أن يسمع بعض العلماء عن مشكلة كهذه، خرقت فيما يبدو قانون تثبيت سرعة الضوء. إنها إعادة نظر في الفيزياء الحديثة. هل هي ابتسامة لن تطول أو دمعة صغيرة و تعود الأمور لمجاريها، أي نواصل فيها فهمنا الحاضر لما حولنا، ونواصل المسير في خير طريق نعرف حتى الآن؟ أم هل سينقلنا هذا إلى طريق جديدة للبحث، بزوج من عينين طريتين نحو آفاق أوسع .. هي أكثر تفصيلاً وشرحاً و أعمق جواباً عن أسئلتنا في الكون الذي نعيش فيه، نتفكر فيه كيف يعمل وكيف نحسن التعامل معه؟ هل هو بصيص نور لجهة أشحنا عنها النظر قرناً كاملاً، هي كنز مفقود يحسن أن نفتحه ونقلبه استكشافاً و تقديراً لكل ثمين قد يضمه؟ هل نقلب صفحة عظيمة زينتها قصص أبطال و و بطولات وأفكار عظيمة، ألهمتنا وعلمتنا و فاضت علينا خيرات وتطبيقات وتقنيات، إلى صفحة أكثر إدهاشاً وأعمق معرفة وأوسع آفاقاً. لنحسن الإنصات، النتائج على صفيح ساخن من السؤال والتجربة وإعادة الحسابات. وقبل أن يستجد جديد، فقد فتحت أبواب التفكير في كثير من موضوعات الخيال العلمي كالسفر عبر الزمن والتجول بين الماضي والحاضر والمستقبل.

أضف تعليق

التعليقات