من الحقائق التي تكشفت للإنسان أنه ملزم بالبحث عن حلول للمشكلات البيئية التي كان هو نفسه سببها الأول والأخير. ومياه الصرف الصحي التي يُنتج منها العالم مئات الملايين المكعبة من المياه سنوياً، واحدة من المشكلات التي كانت نتائجها السلبية مزدوجة: فهي من ناحية إهدار للثروة المائية، ومن ناحية ثانية مصدر تلوث للبيئة وللمياه الجوفية. والحل الذي أثبت جدواه على غير صعيد، يكمن في محطات المعالجة، التي تُعيد المياه نقية وتنتج سماداً للزرع وغازاً للتشغيل الذاتي. الخبير في المياه ومياه الصرف الصحي د. سمير إيدير، يسلِّط في هذه المقالة الضوء على أهمية معالجة مياه الصرف الصحي وطريقة عمل المحطات وسبل استخدام ما تنتجه، إضافة إلى أهمية التوعية بترشيد الاستهلاك.
تكمن أهمية معالجة مياه الصرف الصحي في الدور الذي تؤديه في حماية البيئة والموارد المائية والصحة البشرية، كما أنها تُعد مؤشراً إلى مستوى تطور المجتمع ومستوى وعي الحكومة والشعب بأهمية إدارة الموارد المائية وجودة البيئة لأنها من عوامل تحسين مستوى المعيشة والتنمية.
فالتنمية والاستقرار في المجتمعات يستندان إلى مدى توافر الموارد المائية واستدامتها، خصوصاً في المناطق القاحلة من العالم، إلا أن ما شهده القرن الحادي والعشرون من متغيرات مناخية واختلافات في فصول السنة ألقى بظلاله على توافر الموارد المائية. وهذا ما رفع تكلفة إنتاجها وتوزيعها على السكان في التجمعات العمرانية لا سيما في البلدان القاحلة. ونظراً إلى تزايد الطلب المستمر على المياه الآن وفي المستقبل في ظل النمو السكاني، وجب ترشيد استهلاك المياه واتباع سبل كفاءة استخدامها لحمايتها وتفادي إهدارها.
فالإنسان يستخدم المياه بكل سهولة عندما تكون متوافرة لديه، لكنه يكون أحياناً هو نفسه مصدر تلوثها، خصوصاً المياه الجوفية من خلال مياه الصرف الصحي، غير مكترث بالمخاطر الصحية التي تنجم عن ذلك، لا سيما أن مياه الصرف تحمل كثيراً من الملوثات العضوية والكيميائية الناجمة عن النشاط البشري مثل الكربون والنيتروجين وغيرها. ومن هنا وجبت معالجة مياه الصرف الصحي وإعادتها إلى البيئة الطبيعية.
ومعالجة مياه الصرف الصحي تطوَّرت بشكل أفضل في الدول الغربية في منتصف القرن العشرين، من خلال عملية بيولوجية و / أو فيزيائية كيميائية حسب نوع التلوث، ويجمع حالياً 370 مليون متر مكعب سنوياً من مياه الصرف الصحي في جميع أنحاء العالم، يعالج أقل من %50 منها ويستخدم %2 منها فقط.
أهمية المعالجة
تكمن أهمية معالجة مياه الصرف الصحي في الدور الذي تلعبه في حماية البيئة والموارد المائية والصحة البشرية. ويمكن إعادة استخدام المياه المعالجة والمخلفات البيولوجية الصلبة المتبقية من المعالجة، في الري الزراعي من أجل الحد من استهلاك المياه العذبة وخصوصاً في المناطق الجافة.
وتعتمد معالجة مياه الصرف الصحي بشكل رئيس على عملية بيولوجية ترتكز على النشاط البكتيري للقضاء على الملوثات العضوية، مما يحد من التلوث «الكربوني» و«النيتروجيني»، من خلال البكتيريا الموجودة بشكل طبيعي في المواد العضوية الموجودة في مياه الصرف الصحي.
ولزيادة فاعلية البكتيريا في معالجة المياه، تضاف إليها كمية معيَّنة من الأكسجين. كما يجب التحكم في عوامل أخرى مثل معامل الحموضة ودرجة الحرارة من أجل تنشيط عمل البكتيريا في المخلفات الصلبة. وبعد المعالجة، يتم فصل المخلفات الصلبة المنشطة عن المياه الصافية عن طريق ترسيبها في حوض. ويجب اتباع كل هذه المراحل والخطوات لمعالجة المياه ومراقبتها في محطات معالجة مياه الصرف.
كيف تعمل المحطة؟
تُجرى في محطة معالجة مياه الصرف ثلاثة أنواع من العمليات:
•
المعالجة الأولية – الأساسية: يتلخص دور المعالجة الأولية في إزالة المخلفات الخشنة عن طريق الفرز، والرمال عن طريق الترسيب، والمواد الزيتية عن طريق التعويم. وتهدف هذه المرحلة التي يجب أن تركب فيها عدادات لقياس كمية المياه الواردة، إلى حماية معدات مراحل المعالجة اللاحقة من التلف وتحسين كفاءتها.
•
المعالجة الثانوية (البيولوجية): هي قلب محطة معالجة مياه الصرف البيولوجية، وتتطلب مستوى عالياً من السيطرة على مراحل المعالجة الفيزيائية والكيميائية. وتتم المعالجة البيولوجية عن طريق المخلفات الصلبة المنشطة (البكتيريا المنشطة) في حوض التهوية، حيث تتم تغذية البكتيريا بالأكسجين والمواد العضوية. ويتم التحكم في الأكسجين المذاب ودرجة الحرارة ودرجة الحموضة بشكل مستمر لزيادة نشاط البكتيريا مما يزيد من القدرة على إزالة الملوثات. كما يتم التحكم في مزيج المواد الصلبة العالقة في السائل بدرجة عالية.
والمعالجة البيولوجية تتيح القضاء على نحو %95 من الملوثات الكربونية و%85 من الملوثات النيتروجينية. وبعد ذلك، تصفى المياه في حوض الترسيب، حيث يفصل مزيج المواد الصلبة المعلقة عن المياه الصافية.
•
المعالجة الثلاثية: هي المسؤولة عن إزالة المواد الصلبة العالقة أكثر من المعالجة الثانوية والمواد الصلبة الذائبة والفوسفور والجراثيم المسببة للأمراض عن طريق التخثر والتلبد والترشيح والتطهير، وذلك من أجل إعادة استخدام المياه أو عند الحاجة إلى مياه معالجة عالية الجودة.
وقبل 20 عاماً استحدث في فرنسا تصميم جديد لمحطات معالجة مياه الصرف المنزلية، تعتمد على تقنية صديقة للبيئة هي نبات اﻟﻌﻘﺮبان الذي يستخدم كمرشح في مرحلة المعالجة الثانوية والمراحل الأكثر تطوراً في المدن والقرى الصغيرة.
فنبات اﻟﻌﻘﺮبان يتميز بقدرته على زيادة مسامية التربة مما يسمح بتكاثر البكتيريا في الجذور، وبالتالي زيادة تخلل مياه الصرف في التربة ومعالجتها بالبكتيريا. والأنشطة البيولوجية والبكتيرية، هي المسؤولة عن تمعدن المادة العضوية المتراكمة في الجزء السفلي من التربة. وتُعد عملية الترشيح باستخدام نبات العقربان مثالية لمعالجة مياه الصرف المنزلية في المناطق الريفية للمحافظة على طبيعية هذه المناطق.
سماد وغاز
تنتج المعالجة البيولوجية كميات كبيرة من المواد الصلبة البيولوجية تسمى الحمأة، والتي ينزع الماء منها من خلال عملية التجفيف الميكانيكي ثم يتم التخلص منها عن طريق الحرق أو تجفَّف تجفيفاً مكثفاً (تصبح صلبة) وتلقى في مواقع ردم النفايات المعتمدة. بيد أن عملية حرق الحمأة ليست وسيلة تحافظ على البيئة لأنها تحتاج إلى حرق كثير من الوقود فينتج كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون تتسبب في تلوث في الهواء، إلا أن هذه التقنية اختفت في أوروبا بعدما استخدمت سنوات.
ففي فرنسا على سبيل المثال، ألزمت الحكومة محطة معالجة مياه الصرف الصحي بتطوير عملية مختلفة لإعادة تدوير الحمأة، فأصبحت تجفف بالشمس وتستخدم في التسميد، وأصبح هناك طلب متزايد على الحمأة ذات الجودة المطابقة للمعايير الدولية، لناحية تركيز المعادن الثقيلة والمواد البكتيرية والهيدروكربونات العطرية المتعددة الحلقات.
ويُعد تحلل الحمأة إحدى الخطوات المهمة في معالجتها التي غالباً ما تتم في محطات معالجة مياه الصرف الصحي الضخمة. والتحلل هو عملية تخمر ميكروبيولوجية طبيعية للمادة العضوية في ظروف منعدمة الهواء (بمعزل عن الأكسجين في برج التحلل). والغرض من عملية التحلل هو تقليل كمية الحمأة بنسبة %40، وإنتاج غازات حيوية، أي غاز الميثان الذي يستخدم في المقام الأول لتعويض استهلاك الطاقة في محطة المعالجة. ويبلغ إنتاج الغاز الحيوي في محطة معالجة مياه الصرف الصحي في ستراسبورغ (فرنسا)، نحو 2.5 مليون متر مكعب سنوياً، تستخدم في إنتاج طاقة كهربائية توصف بـ «الطاقة الخضراء» لأنها لم تنتج بواسطة وقود أحفوري علاوة على أنها تحد من تلوث الهواء بثاني أكسيد الكربون. وفي بعض بلدان أوروبا، يستغل الغاز الحيوي في التدفئة.
إعادة الاستخدام
تُعد المياه المعالجة مورداً دائماً من نتاج الجهد البشري ويمكن استخدامها في ري المحاصيل الزراعية أو ري المساحات الخضراء العامة (الحدائق والأستادات الرياضية وملاعب الغولف) أو مكافحة الحرائق أو في العمليات الصناعية (الغسيل، التبريد، …إلخ). وينبغي أن تكون إعادة استخدام المياه المعالجة متوافقة مع مستويات الجودة الكيميائية والميكروبيولوجية وفقاً للمعايير الدولية. والهدف من هذه العملية هو سد الحاجة المتزايدة للمياه في الزراعة وحماية موارد المياه الصالحة للشرب. وإعادة استخدام المياه تعد وسيلة فعالة لتطوير الاقتصاد الزراعي للدول التي تعاني نقصاً في الموارد المائية الطبيعية.
وتظهر بعض المناطق في العالم ممارسات مثالية في إعادة استخدام المياه المعالجة، خصوصاً في بعض دول حوض البحر المتوسط، ومنها إسبانيا التي تعيد استخدام 408 ملايين متر مكعب من المياه المعالجة كل عام، بينما تقوم تونس بإعادة استخدام %75 وقبرص %100 من مياه الصرف الصحي.
أما في الولايات المتحدة، فيعاد استخدام %63 من المياه المعالجة في ولاية كاليفورنيا لأغراض الزراعة، بينما يُعاد استخدام %13 منها في ولاية فلوريدا للغرض نفسه.
أما في المملكة العربية السعودية فيعاد استخدام 0.26 مليون متر مكعب يومياً، ويتوقع أن ترتفع الكمية إلى 2.2 مليون متر مكعب يومياً بحلول عام 2016م. وتُعد الطائف من أفضل الأمثلة في المملكة في هذا المجال، لا سيما أن محطة معالجة مياه الصرف الصحي فيها مزوَّدة بنظام معالجة ثلاثي المراحل ويلبي حاجات البلدية من المياه المعالجة.
تكلفة باهظة
تحتاج مياه الشرب إلى طاقة كهربائية عالية ومواد وموارد بشرية كبيرة من أجل إنتاجها وتوزيعها على السكان، ولهذا فإن تكلفتها باهظة ويجب تغطيتها. وفي البلدان الغربية، تُعد مياه الشرب غالية الثمن وعلى العملاء دفع المقابل المناسب في سبيل رعاية هذا المورد الطبيعي والمحافظة عليه. ويبلغ سعر المتر المكعب من مياه الشرب في فرنسا نحو 3 يورو (15 ريالاً)، وفي إنجلترا 3.58 يورو، أما في ألمانيا فيرتفع إلى 5.16 يورو. وارتفاع سعر مياه الشرب في أوروبا مستمد من تكلفة معالجة مياه الصرف الصحي التي تحتاج إلى استثمارات هائلة وتقنية متقدمة لإعادة المياه المعالجة إلى الوادي أو النهر وتجنب إحداث خلل في التوازن البيئي، إضافة إلى تشغيل وصيانة شبكة مياه الشرب وشبكة الصرف الصحي ومحطة معالجة مياه الصرف الصحي لتوفير الإمدادات للعملاء على مدار الساعة.
توعية وتوصيات
لا يعرف معظم الناس بصفتهم المستهلكين لمياه الشرب في المدن الكبيرة كثيراً عن إنتاج مياه الشرب وتوزيعها، ولا تجميع مياه الصرف الصحي ومعالجتها. ففي المدن المزوَّدة بالمياه دون انقطاع، عندما يفتح العميل الصنبور في منزله يحصل على الماء بكل سهولة. لكن وراء هذا الفعل جهداً جباراً تبذله شركات المياه.
ففي الدول التي يكون الماء فيها رخيصاً، لا يعبأ الناس بهذا المورد النفيس ولا يتوخون الحرص في التعامل معه. ولتغيير هذا الفكر والسلوك تجاه المياه، يجدر بالحكومات التعريف أكثر بدورة الماء (الإنتاج والتوزيع والتجميع والمعالجة) وتثقيف السكان بطريقة استخدام المياه دون إهدار، والمحافظة على هذا المورد الطبيعي الثمين. ويجب أن يدفع العميل ثمن المعالجة عندما يستخدم ماء الشرب؛ فهذه هي الطريقة الأمثل لتحفيزه على تغيير نمط تفكيره. وينبغي أن تبدأ التوعية في المدرسة لأن الطلبة هم صانعو القرارات في المستقبل. وكذلك، يجب نشر أفضل الممارسات لاستخدام المياه في المناطق العامة.
وعلى الحكومة أن تستثمر في الوسائل التقنية للمعلومات والاتصالات (التلفاز والراديو والإنترنت) لتوضيح خطر هدر المياه وتكلفة استهلاكها. فالسعر بالتأكيد هو الوسيلة الأمثل لتغيير سلوكيات المستهلكين فيما يتعلق باستخدام المياه. وعند تحديد سعر مياه الشرب، ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار التكلفة الإجمالية لاستثمار الشركة وتشغيل وصيانة شبكة مياه الشرب وتجميع مياه الصرف الصحي ومعالجتها. إن مسؤوليتنا اليوم هي تلبية حاجات السكان الحاليين دون الإضرار بحاجات الأجيال المقبلة.