تختلف تحديدات الأمية ومقاييسها اختلافات كبيرة بين كونها العجز عن القراءة والكتابة، وآخر تحديداتها القائلة إنها العجز عن استخدام الكمبيوتر. ولكن ما لا خلاف عليه هو أن الأمية بكل أشكالها تكاد أن تكون مرادفاً للتخلف والفقر، وأن مكافحتها شأن تعيه معظم دول العالم التي تعاني منها بنسبة أو أخرى.
فأين تقف الدول العربية بين دول العالم في هذا المجال؟ وما هي العوامل التي تحول دون القضاء على الأمية فيها؟ وكيف يمكننا أن نقرأ هذا التفاوت الكبير ما بين نجاحات ملحوظة في مكافحة الأمية في بعض هذه الدول ومراوحتها عند مستويات مختلفة في دول أخرى؟
مصادر الأميّة
يكون المرء أمياً أو لا يكون، طبقاً لظروف مختلفة. فمن الأميين من لم يَرتَدْ مدرسة ابتدائية لتعلّم القراءة والكتابة، في قواعدها البسيطة، بسبب الفقر وعدم توفير التعليم المجاني والإلزامي في بلده. ومنهم من يتسرّبون من المدرسة الابتدائية باكراً فلا يصيبون من العلم نصيباً مقبولاً يُخرجهم من تصنيف الأميّة. وتقول الدراسات إن ثمة فئة من الأميين تضم الذين أنهوا المرحلة الابتدائية من الدراسة، لكنهم لم يمارسوا قدرتهم على الكتابة والقراءة، ففقدوها وعادوا أميّين.
ولا شك في أن ثمة علاقة مباشرة بين الفقر والأميّة، ذلك أن العائلات الفقيرة التي لا تستطيع إعالة نفسها تلجأ إلى تشغيل أولادها فيما نسمّيه عمالة الأطفال، وتحرم بذلك أطفالها من ارتياد المدرسة وكسب نصيب من العلم. ففي منطقتنا العربية، قدّرت دراسة «لليونيسيف» سنة 2011، أن نسبة الأطفال الذين يعملون، بين سن الخامسة والرابعة عشرة، في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بنحو %9. صحيح أن هذه النسبة تقل عن النسبة في جنوب آسيا (%12) أو إفريقيا جنوب الصحراء (%27) أو النسبة العالمية (%15)، إلا أن الدراسة تنسب انخفاض النسبة في منطقتنا إلى أن بلاداً عربية عديدة لا تجمع أرقاماً وبيانات عن عمالة الأطفال، أو تجمع بيانات غير دقيقة أو وافية. والمؤكد أن عمالة الأطفال منتشرة بكثافة في مصر والمغرب واليمن على الأقل.
ومنذ العام 2011، تغيرت الأوضاع، نحو الأسوأ. فقد أضافت الاضطرابات التي نشبت في عدد من البلدان العربية (ليبيا وسوريا والعراق واليمن والصومال) منذ العام 2011 على الخصوص، إلى عوامل انتشار الأميّة بسبب عمالة الأطفال، سبباً قوياً، لا يمكن قياس اتساع أثره في هذه الأوضاع المضطربة. لكن حتى قبل ذلك، وعلى سبيل المثال ليس الحصر، أدت الحرب على قطاع غزة في ديسمبر 2008، إلى تدمير 18 مدرسة، وتضرر 262 مدرسة أخرى. وفي اليمن، أدت اضطرابات عامي 2009 و2010، إلى إغلاق أكثر من 700 مدرسة في خمسة أشهر.
محو الأميّة في المملكة
بعد توحيد المملكة العربية السعودية، التفتت الحكومة باكراً إلى ضرورة بذل جهد في محو الأميّة، فكان إنشاء إدارة مختصة بمحو الأميّة وتعليم الكبار سُمّيت: إدارة الثقافة الشعبية في عام 1374هـ (1954م).وقد توالت التنظيمات والتشريعات التي تؤكد أهمية هذا البرنامج بصفته حقاً من حقوق المواطن وواجباً التزمته الدولة، فصدر نظام محو الأميّة وتعليم الكبار ووثيقة سياسة التعليم والنظام الأساسي للحكم وغيرها من التشريعات.لم تشدد تلك التشريعات على حقوق المواطن والمواطنة في التعلم فقط، بل جعلته واجباً وطنياً كما نصت المادة الثالثة عشرة في نظام محو الأميّة، إذ جاء فيها: «العمل من أجل محو الأميّة بين المواطنين واجب على كل مواطن حسب قدراته، وعلى الأميين واجب التخلص من الأميّة في حدود الوسائل المتاحة».واليوم تنفق وزارة التعليم على هذا النوع من التعليم نحو 190 مليون ريال كل سنة.وفي النتيجة تقلصت نسبة الأميّة لتصبح %7 بين الذكور و%19.8 بين الإناث والنسبة الإجمالية %13.4 خلال العام 1429هـ، وفقاً لأرقام وزارة التعليم، وحازت المملكة عدداً كبيراً من الجوائز الدولية في مجال محو الأميّة، نظراً لسرعة تقدمها في هذا المجال.
جودة التعليم
إذا كان الالتحاق بالمدرسة الابتدائية ضرورياً ليتعلّم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة، فإن هذا الالتحاق ليس كافياً بالطبع، إذ لا بد لهذا التعليم من أن يكون على مستوى من الجودة، وإلا كانت نسبة التسرّب والرسوب عالية. ولمستوى جودة التعليم أو عدم جودته علاقة مباشرة بنوعين من أنواع الأميين: المتسرّبون من المدارس، والعائدون إلى الأميّة بعد المدرسة.
ولا يصوّر تقرير المعرفة العربي لعام 2010 – 2011 (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، UNDP) مستوى التعليم الابتدائي في عديد من الدول العربية في صورة زاهية، لا سيما في القراءة والعلوم والرياضيات، وهي عناصر أساسية في التعليم. وثمة «تفاوت حاد» في مستويات التعليم الابتدائي وجودته، بين البلدان العربية. وهذه مسألة مرتبطة بالفقر، ذلك أن كثيراً من البلدان العربية لا تولي مدارسها الابتدائية المجانية، ما تحظى به المدارس الخاصة، المدفوعة الرسوم، من اهتمام بمستوى التعليم وجودته. والعائلات الميسورة تستطيع أن تدفع رسوماً لتعليم أولادها في المدارس الخاصة، التي قد توفر تعليماً أفضل. ناهيك عن القدرة لدى الميسورين على توفير حصص الدروس الخصوصية، في المنازل. وهذا ما لا تستطيعه العائلات الفقيرة. بل إن ثمة فروقاً بين مستوى التعليم الابتدائي في المناطق الحضرية، والمناطق الريفية، في تسع بلدان عربية.
وهذا يعني أن ثمة حاجة إلى تعليم الكبار، حتى في بعض الدول العربية التي تعتمد التعليم المجاني الابتدائي للأطفال، لأن بعض التعليم لا يبلغ مستوى يسمح بتصنيف المتعلم على أنه غير أمي.
التعريف الدقيق للأميّة
لا تستطيع الدول التي تخطط حكوماتها لمكافحة الأميّة من أجل محوها، أن تضع الخطط السليمة والشاملة، إذا لم تستند إلى تعريف دقيق للأميّة.
ذلك أن التعريف الشائع للأميّة، هو أنها عدم معرفة القراءة والكتابة والحساب، وهو على أي حال تعريف صحيح، لكنه ناقص. فثمة غموض في رسم الخط الفاصل بين معرفة الكتابة وعدم معرفتها. وهل معرفة القراءة دون الكتابة يُصنَّف أميّة أم لا؟ وأي مستوى من المهارات مطلوب حتى يُقال إن المرء غير أمي؟
لقد تطوّر تعريف الأميّة، فصارت له ثلاث صيغ. في العام 1958، وضعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو»، تعريف الأميّة على النحو الآتي: «يُعدّ الشخص غير أمي عندما يستطيع – بفهم – قراءة وكتابة عبارة قصيرة وبسيطة تتعلّق بالحياة اليومية». وتُرجمت عبارة Literacy، أي عدم الأميّة في الأدبيات العربية العلمية، بكلمة: القرائية. وبذلك أوحت الترجمة بالتركيز على القراءة في التعريف، أي إن محو الأميّة مقتصر على الجانب الأبجدي في المعرفة.
الأميّة الوظيفية
غير أن تعريف الأميّة (Illiteracy) تطوّر فيما بعد، ولم يعد مقتصراً على الأميّة الأبجدية، أي معرفة القراءة والكتابة فقط. ففي العام 1978، لم يعد التعريف التقليدي للأميّة كافياً، وبدأ تطويره حين تبيّن للدارسين أن القيمة الحقيقية لمهارة القراءة والكتابة، لا تكتمل في غرضها، إذا لم تحقق القدرة على توظيفها من أجل فائدة الفرد والمجتمع. وبدأ التمييز على هذا الأساس، بين الأميّة الأبجدية، أي عدم معرفة القراءة والكتابة، وما سمّي «الأميّة الوظيفية»، أي عدم القدرة على توظيف معرفة القراءة والكتابة في أداء المهام الضرورية في الحياة. فالقراءة والكتابة ليستا هدفاً في ذاته، بل يجب أن تكونا وسيلة للدور الاجتماعي والاقتصادي الذي يلعبه الشخص المتعلم.
على هذا الأساس، وعلى الرغم من أن «الأميّة الأبجدية» لم تعد موجودة في معظم الدول المتقدمة تقريباً، إلا أن تعريف «الأميّة الوظيفية»، بمعناه الواسع المناسب للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات المتقدمة، يشير إلى وجود نسبة من الأميّين حتى في هذه المجتمعات. إذ يقدر تقرير اليونسكو: «التعليم للجميع» 2006، أن في المملكة المتحدة بين 6 و8 ملايين أمّي، بالتعريف الوظيفي للأميّة. وهذا الأمر يكلِّف الاقتصاد البريطاني 81 مليار جنيه استرليني كل سنة.
اليونسكو: مراوحة في مشروع العلم للجميع
تشير إحصاءات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو»، إلى أن مشروع العلم للجميع، الذي يرمي إلى خفض عدد الأطفال الذين لا يرتادون مدارس للتعلّم، يراوح مكانه. فقد تبين أن عدد الأطفال في سن المدرسة الابتدائية سنة 2012، قد بلغ 58 مليون طفل في العالم، وعدد الأطفال الذين في سن بداية المدرسة الثانوية، وهو 63 مليون طفل، لم يتناقص. وأشارت المنظمة إلى أن التقدم باتجاه تعميم التعليم الابتدائي يتباطأ، وأن الهدف الذي وُضع لتحقيقه قبل نهاية العام 2015، لن يتحقق، إذا ظلت الأمور على اتجاهها الحالي.
ويعمل معهد اليونسكو للإحصاء (UIS) ومنظمة اليونيسف الدولية للأطفال (UNICEF)، منذ سنوات، لخفض عدد الأطفال في العالم، الذين لا يرتادون المدرسة. وعزت اليونسكو عدم تحقيق الهدف إلى أن السياسات والبرامج لمعالجة مشكلة عدم ارتياد المدرسة، ولتضييق الفروق بين أطفال العالم في هذا المجال، ليست مناسبة في عدد كبير من البلدان. وفوق هذا لم يكن ثمة تحليل منهجي لتشخيص «عنق الزجاجة» الذي يعترض طريق تحقيق التعليم الابتدائي للجميع، أو لشرح السبب الذي جعل بعض السياسات «الحسنة النية»، لا تحرز نتائج جيدة.
وسبب قصور السياسات عادة، هو نقص المعلومات وأدوات الإحصاء والمناهج لتعريف الأطفال الذين لا يرتادون المدرسة، ووسائل رصد التقدم في مشروع المدرسة للجميع، وقياس مدى عدم الارتياد، وتحديد أسبابه، إلى جانب قصور في تبليغ المعلومات والتخطيط.
وقبل كل شيء، لا بد من الاتفاق على تقديرات دقيقة لعدد الأطفال الذين هم خارج المدارس. ويتطلب هذا الأمر تحسيناً للجودة وللاتساق، في المعلومات التي تُجمَع في البيانات الإدارية، أو المسوح الفردية.
الأميّة «المعرفية»
دخل العالم في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين مرحلة جديدة في تاريخه، يسمّيها البعض «العصر الرقمي»، والبعض الآخر «العصر المعرفي». وكان العامل الأول في هذا التحوّل التاريخي، هو المبتكرات الحديثة والخدمات العامة القائمة على الشبكة الدولية «الإنترنت» والكمبيوتر الشخصي والهاتف الجوال، وما إليها من وسائل الاتصال والمعرفة. وقد أصبح اكتساب مهارات الاستفادة من هذه الأدوات الرقمية وتوظيفاتها البسيطة، ضرورة مُلحَّة، جعلت الذين لم يكتسبوا هذه المهارات جزءاً من «أميّي المعرفة»، في عصرنا الحديث. ففي المجتمع الحديث، لا بد من تطوير نوع التعليم وأساليبه، ومحتوى برامج محو الأميّة، من أجل تمكين «المتعلمين» التلاميذ، صغاراً وكباراً، من استخدام الوسائط الرقمية للاتصال والمعرفة. وهذا يضيف تعريفاً جديداً للأميّة، هو «الأميّة المعرفية» لمن لا يحسنون استخدام الوسائط الحديثة هذه.
الحالة في البلدان العربيّة
تدل الأرقام الإحصائية على أن معظم البلاد العربيّة أحرزت تقدماً ملموساً في محو الأميّة. إذ انخفض عدد الأميين في الوطن العربيّ الذي كان سنة 1990م نحو 52 مليون أمي، إلى نحو 48 مليوناً سنة 2011، على الرغم من زيادة عدد السكان. ومع ذلك يُعدّ هذا الإنجاز متواضعاً، إذا ما قارنّاه مع التطور الذي حدث في العالم. ولا تزال نسبة الأميّين العرب من الأميّين في العالم تبلغ %6.2 سنة 2011، وهي تزيد على النسبة التي بلغت %5.9 سنة 1990. كذلك ارتفعت نسبة الأميّات العربيّات بالمقارنة مع الأميّين، عن نسبتهن منهم في العالم.
تحتل مصر المكانة الأولى بين الدول العربيّة، في عدد الأميّين لديها، إذ يبلغ عددهم 15.6 مليوناً، أو %31 من عدد الأميّين العرب. وهي تحتل في العالم المكانة السابعة في هذا المجال. ويلاحظ في الأرقام الإحصائية، أن ست دول عربيّة، هي مصر والمغرب والسودان والجزائر واليمن والعراق، كانت سنة 2010 تضم %96.2 من مجموع الأميّين العرب. وهي في الوقت نفسه أكثر الدول العربيّة اكتظاظاً بالسكان. أما الدول العربيّة القليلة السكان نسبياً، قطر والبحرين والإمارات وفلسطين والأردن، فلا يزيد عدد الأميّين في كل منها على بضع مئات فقط.
لكنَّ ثمة أسلوباً آخر للمقارنة بين الدول في مجال الأميّة والقرائيّة، هو نسبة الأميّين أو المتعلِّمين، من مجموع سكان الدولة المعنيّة. وثمة بلدان عربيّة أحرزت في مجال القرائيّة، نسبة تزيد على النسبة العالمية أو تساويها. وتحتل قطر والأردن وفلسطين القمّة بين الدول العربيّة الثماني التي أحرزت نسبة قرائيّة تزيد على %95، أي تزيد على نسبة القرائيّة في العالم.
أما نسبة القرائيّة في المغرب واليمن وموريتانيا فتقلّ عن %70، أي إن نسبة الأميّة فيها تزيد على %30. ففي موريتانيا تبلغ نسبة القرائيّة %58.6 فقط، أي إن نسبة الأميّة فيها تبلغ %41.4.
ألكسو: الأميون العرب 97 مليوناً
يتعذّر في الأوضاع العربية الراهنة حساب عدد الأطفال الذين يرتادون المدارس الابتدائية والثانوية، وعدد الذين يحجمون عن التعلم، بسبب الحروب في عدد من البلدان، ومنها: العراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال، بالإضافة إلى أن عدداً من الدول العربية التي لا تشهد نزاعاً، إلا أنها قلما تنظّم إحصاءات دورية بأساليب علمية ومعايير سليمة، فلا تنشر أرقاماً يمكن الركون إليها تماماً.لذا كانت الأرقام التي نشرت سنة 2011 أقرب إلى التعبير عن واقع الحال آنذاك، من أية أرقام قد نجدها في التداول اليوم.لكن منظمة أليكسو، النظير العربي لمنظمة اليونسكو، تقدّر أن نسبة الأمية اليوم في البلدان العربية، تزيد على %19، أي إن عدد الأميين في الوطن العربي يبلغ نحو 97 مليون أمي. ولذا تدعو المنظمة الحكومات العربية إلى بذل جهد أكبر لمكافحة الأمية، وتعزيز برامج تعليم البالغين.
http://www.sharethis.com
الجهود العربيّة لمحو الأميّة
إن محو الأميّة يكسر الحلقة المفرغة، التي تشاء أن يؤدي الفقر إلى انتشار الأميّة، وانتشار الأميّة إلى تفشّي حالة الفقر في المجتمعات. ولا شك في أن تكلفة الأميّة في المجتمع الفقير، أعلى وأفدح من تكلفة الجهد الذي يمكن بذله لمحوها. ففي المغرب مثلاً قُدّرَت تكلفة الأميّة كل سنة بما يبلغ نحو مليار درهم مغربي، أي بما يوازي %1.3 من الناتج المحلي الإجمالي. ولا بد من بذل الجهود الحثيثة من أجل الخروج من حال التخلّف، وإلا ظلت الحلقة المفرغة مستحكمة في حاضر الشعوب ومستقبلها.
لهذا السبب، تحوّلت مشاريع محو الأميّة، في أدبيّات الإدارة والحكم، إلى أمر لا يناقَش، من حيث الحاجة إليها. وقد بدأ التنبّه إلى هذا الأمر باكراً في البلدان العربيّة، وإن كانت الجهود التي بُذلت لا تزال قاصرة عن بلوغ الهدف النهائي: محو الأميّة.
ففي المؤتمر الإقليمي الذي عُقد في الإسكندرية، في أكتوبر 1964، في شأن تخطيط وتنظيم برامج محو الأميّة، صدر ما سمّي «ميثاق الإسكندرية»، الذي تقرر بموجبه إنشاء جهاز خاص لمحو الأميّة، في المنظمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم «ألكسو»، واستُحدِث صندوق عربيّ لهذا الغرض، تتناسب الحصص فيه مع حال الأميّة في كل بلد من البلدان العربيّة، وعدد الأميّين والحاجة والإمكانات فيه. وقرر المؤتمر في غضون سنة بدء حملة عربيّة شاملة لمحو الأميّة، على أن يكون الهدف محو الأميّة تماماً في البلدان العربيّة، في خلال 15 عاماً على الأكثر. وفي عام 1970، أعلنت جامعة الدول العربيّة يوم 8 يناير، يوماً عربيّاً لمحو الأميّة، أسوة باليوم العالمي في 8 سبتمبر. ثم أصدرت الدول العربيّة عام 1976 استراتيجية محو الأميّة، ثم الخطة العربيّة لتعميم التعليم الأساسي عام 1990، والاستراتيجية العربيّة لتعليم الكبار، عام 2000.
غير أن الزيادة المطّردة لعدد السكان، وانتشار الفقر، وانعدام التخطيط في عدد من البلدان، ثم حدوث حروب متلاحقة، حالت دون بلوغ الأهداف الواحد بعد الآخر.
إذاً… ما العمل؟
لا بدّ من العودة إلى بعض المبادئ والأرقام والأصول، إذا كان الوطن العربيّ مصمماً على محو الأميّة.
والبداية هي تعديل التعريف الذي لا يزال شائعاً للأميّة، أي «الأميّة الأبجدية». فهو لم يعد ملائماً لعصرنا هذا. ولم يعد مقبولاً اعتماده في إحصاء الأميين. فالتعليم ينبغي له أن يزوّد التلميذ بالمعرفة التي تؤهله لأداء دوره ولو في الحدود الدنيا، داخل المجتمع.
ويستتبع هذا التعديل في تعريف الأميّة، تطوير الأساليب المعتمدة في جمع البيانات، حتى لا تكون هذه البيانات غطاء لأميّة مبطّنة، حين يصنَّف الأمي متعلماً، بسبب عدم اعتماد التعريف الملائم. فهناك «أميّة أبجديّة» و«أميّة وظيفيّة» و«أميّة معرفيّة»، ولا بد من التمييز بينها.
أما عن العمل العربيّ المشترك، فلا شك في أن البلدان العربيّة أحرزت تقدّماً ملحوظاً في خفض نسب الأميّة فيها، في العقود الماضية. إلا أن نسبة الأميّة في الوطن العربي اليوم تفوق النسبة في العالم النامي، باستثناء أقل الدول تقدّماً. وقد يكون العمل العربيّ المشترك مفتاحاً في متناول اليد لمعالجة هذه الحال. وليس من حاجة إلى إنشاء مؤسسات عربيّة لهذا الغرض، بل الحاجة إلى تنشيط المشاريع في «ألكسو» والجهاز العربي لمحو الأمية وتعليم الكبار، وغيرهما.
وفي النهاية يبقى العلم وانتشاره باباً إلى التقدّم والازدهار، وصنع المستقبل المنشود.
الرافد الكبير للأمية.. التسرب المدرسي
عرّفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسيف» التسرّب المدرسي على أنه عدم التحاق الأطفال الذين هم في سن الدراسة في مرحلة التعليم الابتدائي بمدرستهم، أو ترك المدرسة في ساعات التدريس، لعدم الانتظام وضعف الرقابة أو لعدم الرغبة أو عدم القدرة، لا سيما في حالات الفقر الشديد. بعبارات أخرى، التسرب المدرسي هو امتناع الطفل عن الدراسة، فيما يُفترض أو يُظَن أنه يرتاد المدرسة.في عام 2012م، كشفت تقارير اليونيسيف أن نسبة التسرب في مرحلة التعليم العام تصل إلى حوالي %30 على المستوى العربي. ومما لا شك فيه أن هذه النسبة ارتفعت خلال السنوات القليلة الماضية بفعل الاضطرابات والاقتتال الذي عصف بأكثر من دولة عربية. ونذكر على سبيل المثال إعلان وزير التربية التونسي السابق إلى أن عدد الأطفال في شوارع تونس، خارج المدارس، بلغ نحو 50 ألف طفل عام 2015م.ويُعد التسرب المدرسي رافداً رئيساً من روافد الأمية. لأن تلميذ المرحلة الابتدائية مثلاً، وإن تعلَّم القراءة والكتابة، فلا بد وأن يفقد مهارتيهما بمرور الوقت لقلة استعمالهما، فيلتحق بذلك بصفوف الأميين الذين لم يطأوا مدرسة يوماً.تتعدّد وتتفاوت أسباب التسرّب بين البلدان، وفي البلد الواحد بين مجتمعات الريف ومجتمعات المدينة، وحتى باختلاف الجنس بين الصبية والبنات. وقد تتضافر في بعض الحالات أسباب متعددة معاً.• الأسباب التربوية: في كثير من بلدان العالم الثالث يفتقر النظام التربوي إلى رياض الأطفال، وهي مخصصة للسن قبل المدرسية، فلا توفر للطفل مواد تعليمية مثل القراءة أو الكتابة، بل غالباً ما يتضمن منهاجها ألعاباً اجتماعية، وغيرها، تعوّد الطفل على روح الجماعة، وتحبّبه بالمدرسة والمدرِّسين، بفضل الألعاب وأسباب التسلية التي تتوافر له، فلا يدخل مرحلة المدرسة الابتدائية إلا وقد صار يألف جماعة أقرانه التلاميذ، ويأنس لكل المواد التعليمية التي يبدأ في تعلّمها.
ومن الأسباب التربوية أيضاً الافتقار إلى النشاطات المسمّاة «لا صفّيّة» في المرحلة الابتدائية، وانقطاع الصلة بين إدارة المدرسة وذوي التلاميذ، فلا يحدث أي تعاون بين الفريقين لتفهّم حال الطفل، إذا كان يشكو مشكلة ما يمكن حلها بالتعاون. وفي كثير من الحالات قد تؤدي قسوة المدرّسين على الأطفال، إلى جعلهم يكرهون المدرسة. وقد تجد حالات تكون فيها العائلة غير مكترثة بمواظبة الطفل على الالتحاق بمدرسته، لأسباب متباينة، أكثرها شيوعاً هو الفقر.
ففي كثير من البلدان العربية، لا يستطيع ذوو الأطفال، بسبب الفقر المدقع، أن يوفروا على الدوام المبالغ المطلوبة رسوماً لتعليم أبنائهم، أو لشراء حوائج التعليم أو الكتب واللوازم والنفقات الأخرى. وحتى حين يكون التعليم إلزامياً ومجانياً، تجد كثيراً من الأهل يغضون الطرف عن تسرّب أطفالهم، من أجل العمل.
نتائج التسرّب المدرسي
تنشأ عند الطفل المتسرّب من الدراسة، مشكلات نفسية لشعوره بالابتعاد عن رفاقه في المدرسة، لعدم قدرته على مجاراتهم في دراستهم. وقد يؤدي هذا إلى شعوره بالدونيّة وإمكان ظهور عقدة نقص لديه، قد يعوضها بالأعمال التي يظن أنه يقدر عليها، وقد لا تكون من الأعمال المحمودة، لا سيما إذا اقترن تسرّبه بتأنيب لا يعالج سبب المشكلة.
وإذا تسرّب الطفل من المدرسة، فما الذي يفعله؟ منهم من ينخرط في عمالة الأطفال، وقد تكون هذه أهون الشرور، لأن البعض من المتسربين قد ينخرط تدرّجاً في أعمال الانحراف والجنح أو حتى الإجرام. وهذا أمر ممكن في بيئة سيئة.
معالجة حالات التسرّب
إذا كانت الصلة مفقودة بين المدرسة وذوي التلاميذ، أو إذا كان موقف الأهل والمدرسين غير مبالٍ بما يحدث للتلاميذ، فإن معالجة حالات التسرّب تصبح صعبة للغاية. ولا بد في البداية من إنشاء علاقة تنسيق وتفاهم بين الفريقين، حتى يشعر التلميذ بالاهتمام، وبأن ثمة سلوكاً مطلوباً منه، وأنه ليس حراً في التفلّت من النظام المتفق عليه بين عائلته ومدرسته. وعليه إذاً أن يمضي وقته، إما في البيت، أو في المدرسة. وإذا تغيّب عن المدرسة، فلا بد من أن يعرف ذووه متى وكيف ولماذا وإلى أين تسرّب.
كذلك يحسن بالمدرسة أن تراقب سلوك التلاميذ الذين «يقودون» الآخرين إلى التسرّب، لتعزلهم عن التلاميذ، حتى لا ينتشر «الوباء»، وتعالج قضيتهم بما يُقتضى من معالجة نفسية وتربوية وإدارية.