في العام 1887م وصف الطبيب جون لانجدون داون – الذي تنسب إليه متلازمة داون المعروفة- ظاهرة محيِّرة وغريبة، وهي تلك التي لاحظها على بعض مرضاه المصابين باضطرابات في النمو والإعاقات العقلية الشديدة في المصحة التي يعمل فيها. فقد كان أحد هؤلاء «عبقرياً» في الرياضيات والحسابات الخاطفة، والآخر كان يحفظ كتاباً من 2700 صفحة، ومريض كان يبني مجسمات مدهشة لقوارب صغيرة، وآخر كان يحفظ جميع القطع الموسيقية التي يسمعها في حفل الأوبرا، وآخر كان يعرف الوقت بدقة دون أن ينظر إلى الساعة.
ومنذ ذلك التاريخ برز في الأوساط العلمية مسمى «متلازمة العباقرة» Savant syndrome ، وارتبط بوصف الأشخاص المصابين بالإعاقات العقلية و باضطرابات النمو – ومنهم مرضى التوحد – الذين تظهر لديهم قدرات ومهارات استثنائية ومثيرة مقترنة بذاكرة هائلة في مجال واحد أو أكثر، وعلى مستويات متعددة من الأداء.
بندر الحربي يسبر أعماق هذه الظاهرة ويقدِّم لنا قراءة فيها ونماذج من جزر العبقرية التي يتنادى الكثيرون في مجتمعنا لتقديم المزيد من الرعاية لهم ليتمكنوا من المشاركة مع سواهم في بناء الوطن.
واحد بين كل عشرة
وبعد الدراسات والأبحاث التي جرت منذ ذلك الوقت، كشفت الإحصاءات عن أن نصف المصابين بهذه المتلازمة هم من مرضى التوحد، والنصف الآخر من المصابين بإعاقات عقلية مختلفة؛ حيث تصيب هذه الحالة واحداً من كل عشرة من المتوحدين.
كما أوضحت هذه الدراسات أن أغلب القدرات والمهارات لدى المصابين «بمتلازمة العباقرة» تقع ضمن تخصصات الجانب الأيمن من الدماغ والتي تصنف على أنها مهارات غير رمزية، وفنية، ومتماسكة ، وتحمل تصوراً مباشراً، في حين يكون الجانب الأيسر من الدماغ منطقياً ومتتابعاً ورمزياً، ومتضمناً اللغة. وأشارت هذه الإحصاءات إلى أن مهارة حساب التقويم التاريخي تأتي كأكثر المهارات تكراراً وهي أكثرها غموضاً أيضاً؛ وهي القدرة على تحديد اليوم في الأسبوع حسب التاريخ المعطى، تليها القدرات الموسيقية، ثم تأتي بعدها القدرات الحسابية والرياضيات، ثم المهارات الميكانيكية والمكانية، وهناك مهارات أخرى أيضاً مرتبطة بالشم أو اللمس أو النظر أو الحس المتزامن والتخمين وغيرها.
ثلاثة مستويات من الأداء
وهذه المهارات تكون على ثلاثة مستويات من الأداء فأدناها مهارات يطلق عليها المهارات «المشتتة»، وهي مثلاً الانهماك في حفظ الأمور البسيطة في الموسيقى والرياضيات، أو أرقام لوحات السيارات، والخرائط، والمعلومات التاريخية، وتواريخ الميلاد، وأنواع السيارات وموديلاتها. ثم تليها المهارات التي ترتبط بموهبة بارزة ما وتكون فيها القدرات أوضح من المشتتة وأكثر إثارة للانتباه. أما المستوى الأعلى من بين هذه المستويات فهو المستوى «الاستثنائي» حيث تكون لهؤلاء قدرات على مستوى عالٍ من الإثارة لمن يشاهدها حتى ولو كانت من أعمال غير المعاقين عقلياً.
تناقض حيّر العلماء والأطباء
ظل هذا التناقض المثير بين صعوبات العجز وقدرات المعجزة يحيِّر العلماء والأطباء منذ ذلك الحين و حتى الوقت الحالي الذي تطورت فيه الوسائل الطبية الحديثة و أجهزة الفحص البصري للدماغ مثل جهاز التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي (MRI)، وجهاز الأشعة المقطعية بالانبعاث البوزيترني (PET)، وجهاز التصوير الطبي بأشعة جاما (SPECT)، وجهاز التصوير ممتد الانتشار أو تتبع الألياف (DTI) وغيرها، وبدأ العلماء محاولاتهم لفهم هذه الظاهرة الغريبة والتي يُعد فهمها نافذة للولوج إلى الدماغ البشري والإحاطة به بشكل كامل.
خمسون عاماً من البحث والدراسة
يُعد الدكتور دارولد تريفيرت، الذي أمضى ما يقارب من 50 عاماً من حياته المهنية يدرس هذه الظاهرة من أشهر العلماء في هذا المجال. وقد بدأ اهتمامه بهذه الظاهرة في العام 1962م عندما لفت نظره في جناح الإعاقات العقلية التي يعمل فيها أربعة أطفال من المصابين بإعاقات عقلية شديدة، ممن ظهرت عليهم مهارات فريدة واستثنائية؛ فقد كان أحدهم يستطيع إعادة تركيب أحجية لصورة من 500 قطعة مقلوبة على الطاولة من خلال النظر إلى الإشكال الهندسية فقط، دون النظر إلى الصورة، والآخر كان يستطيع قذف كرة السلة بالطريقة والمسار نفسيهما في كل مرة. أما الثالث فقد كان يعرف ما «حدث في مثل هذا اليوم» في كل يوم من أيام السنة، والرابع كان يحفظ نظام الحافلات في المدينة. وقد صدر لتريفيرت مؤخراً كتاب حديث وشامل بعنوان Islands of Genius سرد فيه رحلته الاستثنائية التي امتدت على مدى 50 عاماً من البحث والدراسة المتأنية في عقول وعالم «العباقرة».
لماذا تزداد حالات التوحد لدى الذكور؟
وفيما يرتبط بالعلاقة ما بين التوحد وجنس المصابين به، فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن نسبة المصابين بالتوحد من الذكور إلى الإناث تساوي 1:4، وإن نسبة المصابين «بمتلازمة العباقرة» من الذكور إلى الإناث 1:6. وقد أثبتت الدراسات أيضاً أن القشرة الدماغية في الجانب الأيسر من الدماغ تتكون بعد الجانب الأيمن في مرحلة الجنين، فهو بالتالي معرض طوال فترة التكوين إلى مؤثرات ما قبل الولادة والمرتبطة بعوامل الذكورة، ومن ضمنها زيادة هرمون التستوستيرون الذي يمكن أن يبطئ من نمو القشرة الدماغية ويصيب الشبكات العصبية بالضرر، ونتيجة لذلك تنتقل الخلايا العصبية من الجانب الأيسر إلى الجانب الأيمن. أما في حالة الجنين الأنثى فإنها معرضة أيضاً لزيادة هرمون التستوستيرون أثناء الدورة الدموية للأم ولكن يتحول أغلبه إلى هرمون الاستيراديون في المشيمة، وبالتالي لا يكون له الآثار السيئة نفسها على القشرة الدماغية مثل الذي يحدث لدى الذكور، وهذا الخلل في وظائف الجانب الأيسر يظهر كثيراً في اضطرابات التوحد.
محاولات عديدة لتفسير حدوث المتلازمة
لقد كانت هناك محاولات عديدة لإماطة اللثام عن خبايا متلازمة العباقرة، ومنذ عام 1887م وحتى اليوم، ظهرت في الأوساط العلمية محاولات ونظريات تحاول تفسير هذه المتلازمة، فهناك نظرية مطروحة لتفسير لغز متلازمة العباقرة من الناحية العصبية تعرف بالتسهيل الوظيفي المعاكس Paradoxical Functional Facilitation والتي تتكون من ثلاث مراحل: إعادة الربط، والتشغيل، والإطلاق، وهي بمعنى أن تقوم منطقة معينة في الدماغ بتعويض ذلك العجز في مناطق أخرى، أي أنه بسبب العوامل الضارة الموجودة على القشرة الدماغية فإن هناك إمكانية لإصابة دوائر القشرة الطرفية Cortico-limbic circuit في الدماغ والتي تتضمن الذاكرة المعرفية واللفظية وبالتالي يكون الاعتماد على دوائر القشرة المخططة Cortico-striatal circuit التي تتضمن ذاكرة العادة و الذاكرة الإجرائية.
وهناك آخرون تطرقوا إلى نظريات أخرى مثل نظرية استحضار المشاهد، وذاكرة الصورة البصرية المعروفة بالذاكرة الفوتوغرافية، ونظرية الوراثة، وعامل الحرمان الحسي، ومفهوم التفكير المحسوس وعدم القدرة على التفكير التجريدي. وهناك من تحدث أيضاً عن طريقة الكشف الجينية. وبعض الباحثين أشاروا إلى نظرية تدعى نظرية «ميكانيكا الكم» لقدرات متلازمة العباقرة، وذكروا أن هناك نموذجين في طريقة معالجة التفكير في الدماغ، أحدهما يسمى الطريقة الكلاسيكية وهي ذات بعد واحد وتتسم بالبطء، وتتعامل مع عدد محدود من المعلومات، وهناك الطريقة الكمية التي يستخدمها «العباقرة» وهي التي تتعامل مع عدد هائل من المعلومات وسريعة جداً وتعمل خارج الإدراك الشعوري وهي تقترب من مفهوم «الحاسبات الخارقة» التي تستخدم مبادئ ميكانيكا الكم.
الذاكرة الوراثية
ومع هذا فإن السؤال المهم والمحير يبقى دون إجابة حتى الآن وهو: كيف يعرف «العباقرة» أشياء لم يتعلموها من قبل؟ لذا فقد أثبت الدكتور تريفيرت بالأدلة على وجود ما سماه «الذاكرة الوراثية»؛ وهي الذاكرة المعنية بنقل المعرفة إلى الأجيال التالية مع السمات الجسدية الأخرى، مثل المميزات، والميول، والمواهب، والسلوك التي تحملها جيناتنا في فترة الحمل. كيف يكون ذلك؟
إن علم التخلق Epigenetics هو الآلية التي تقوم على نقل مثل هذه المعرفة ويعمل باعتباره «برنامجاً» يعدل الجينات من دون التأثير على الحمض النووي، وقد تحدث عدة علماء عن هذه الظاهرة بمصطلحات مختلفة، فقد استخدم كارل يونج (1936م) مصطلح «العقل الباطني الجمعي» وذكرها وايلد بانفيلد (1978م) في كتابه سر الدماغ، وميتشل غزانغا (2000م) في كتاب ماضي الدماغ، وبتروورث (1999م) في كتاب كيف يعالج الدماغ الرياضيات؟ وقال عنها ستيفن بينكر (2003م) «السلوك الوراثي»، وعزاها كيث شندلر (2004م) إلى «الظاهرة الوراثية».
حالات ذُكرت في
وسائل الإعلام العربية
• خالد
عرض موقع جمعية المعاقين بالإحساء الشاب خالد الكبش المصاب بالتوحد، الذي يرسم بطاقة فنية هائلة ويتحدث اللغة الإنجليزية دون سابق تعليم منذ أن كان في عمر الرابعة. كما أنه يتمتع بذاكرة قوية تجاه الأشياء المرئية والأسماء.
• صالح
في 8 أبريل 2010م تطرق تقرير لقناة mbc إلى الطفل صالح الذي يبلغ من العمر عشر سنوات والمصاب بالتوحد والتخلف العقلي، والقادر على منافسة الحاسب على تحديد أي تاريخ خلال ثوان، وعلى إجراء العمليات الحسابية بسرعة فائقة.
• بدر في مسلسل «وراء الشمس»
المسلسل السوري «وراء الشمس» الذي قام فيه الممثل بسام كوسا بدور «بدر» المصاب بالتوحد وغير القادر على الحياة دون مساعدة الآخرين، والذي أدهش الجميع «بمعرفته» لمهنة دقيقة وهي إصلاح الساعات. كان مسلسلاً واقعياً في وصفه لقدرات هؤلاء الأشخاص.
• رانيا
عرضت قناة mbc في 9 مايو 2011م تقريراً عن الفتاة رانيا البالغة من العمر 15 عاماً، المصابة بمتلازمة داون وعمرها العقلي لا يتجاوز السنوات الأربع، والحائزة جوائز عديدة في برمجة الحاسب الآلي.
• فِلم رجل المطر
يعد فِلم رجل المطر Rain man الذي عرض في العام 1988م ، أول فِلم تنتجه هوليوود عن شخصية رئيسة لمصاب بالتوحد. لقد كان فِلماً واقعياً وجميع المشاهد في الفِلم لأناس حقيقيين، فمشهد عد أعواد الأسنان وحساب الجذر التربيعي وغيرها، كلها كانت حقيقية.
• توم الأعمى
كان أعمى ومعاقاً عقلياً، ولد عام 1849م، وبعد عام بيعت أمه في مزاد الرقيق إلى أحد الجنرالات في كولومبس. كان توم من ضمن الصفقة ولكن بلا ثمن لأنه معاق وغير مستفاد منه كما كان يعتقد. أجاد العزف على البيانو حتى أصبح من أشهر عازفي العالم في ذلك الوقت وأغناهم مالاً بسبب ذاكرته الهائلة وقدراته المثيرة.
• كيم بيك
ولد كيم عام 1951م برأس كبير وبقيلة دماغية Encephalocele، مع اختفاء الجسم الثفني Corpus-callosum في رأسه. أصدقاء كيم يطلقون عليه (كيم – بيوتر) فهو يمتلك ذاكرة هائلة ويحفظ عن ظهر قلب أكثر من 12,000 كتاب، وهو قادر على قراءة صفحتين في الوقت نفسه خلال ثوان. اهتمت به وكالة الفضاء الأمريكية ناسا وأجريت دراسات على دماغه، ومع ذلك فقد كان لا يستطيع أن يقوم بأبسط الأمور مثل ارتداء ملابسه.
• ستيفن ويلتشر
مصاب بالتوحد، في أحد أعماله حلَّق بالمروحية فوق مدينة لندن لمدة 15 دقيقة، وبعدها رسم في خمسة أيام وبشكل مدهش التفاصيل الدقيقة جداً للمناظر التي رآها في المدينة والممتدة إلى سبعة أميال مربعة.
• تامبل جراندين
أثرت أفكار هذه المرأة المصابة بالتوحد على صناعة بقيمة 80 مليار دولار وهي التي صممت نصف منشآت المواشي في الولايات المتحدة التي قامت بتصميمها. صنفتها مجلة التايم في 2010م كواحدة من أهم 100 شخصية ذات تأثير في العالم.
• ألونزو كليمونز
تقف منحوتات ألونزو كليمونز -وهو الذي لم يأخذ درساً واحداً في حياته في النحت- جنباً إلى جنب مع أعمال كبار النحاتين، ولكنها بالطبع لا تحمل لافتة مكتوب عليها أنه «معاق عقلياً». ولد ألونزو طفلاً عادياً بجهاز عصبي سليم إلى أن سقط في أحد الأيام على جانب رأسه الأيسر بقوة مما سبب له إعاقة عقلية شديدة وأصبح غير قادر على الكلام أو الاتصال مع الآخرين بالكتابة أو حتى بالقراءة.