لا أظن أن هناك كاتباً عالمياً لاقى عند رحيله كل هذا التبجيل والاحتفاء كما لقيهما، غابرييل غارسيا ماركيز، الذي غادرنا في إبريل الماضي.
واتسعت مساحة التغطية، بنزول وسائل الإعلام الاجتماعي إلى الميدان، فقد أسهمت في تداول كل صغائر حياته وكبائرها، فلم يعد الحديث محصوراً داخل النخب الأدبية والأكاديمية، بل إن القارئ العام أصبح على منصة العرض يقدِّم كتب ماركيز ومقولاته وحواراته وصوره على هيئة هاشتاقات (وسوم) لتصل إلى كل قارئ مهتم بأعمال هذا الكاتب السخي الذي جعل من قريته النائية «أراكاتاكا»، قرية عالمية نعيش معه في خرافاتها وطقوسها وعزلتها.
وعلى الرغم من أن الذاكرة العربية قد احتفظت بأسماء عريقة من هذه القارة مثل: بورخس، ونيرودا، وآمادو، وفوينتس، وكويلهو وغيرهم، إلا أن رباطاً سحرياً ظل يغذّي وجداننا وذاكرتنا ونحن نطارد أعمال هذا الكاتب.
يعتقد ماركيز أن قارته هي قارة الوحدة والعزلة، وهو يعنون كلمته في حفل تسليمه جائزة نوبل بـ «العزلة في أمريكا اللاتينية»، ويرى أن أبناء قارته غرباء عن عالمنا وهم دائماً أقل حرية وأكثر وحدة، بل إن روايته الخالدة، «مائة عام من العزلة» التي اعتبرت النص الكلاسيكي الذي يحلّ مباشرة بعد ملحمة «دون كيخوته» لسيرفانتس، هي نص الحياة في قريته الحقيقية، لكنه استعار لها اسماً هو «ماكوندو» في الرواية وهي قرية نائية في شمال كولومبيا تعيش في عزلة عن العالم وتصارع البقاء عبر ستة أجيال متلاحقة من العائلة التي أسسها خوسيه بوينديا. القارئ العربي وجد في تلك القرية الخرافية نموذجاً يصلح للتماهي مع قريته، بل إن سيل الخرافات والوقائع الخيالية، وتلك الحكايات الغائمة التي تسردها الجدات أو الأجداد في الليالي المظلمة، هي على نحو ما أرض مشتركة لسرد ليالينا وحكاياتنا وخرافاتنا. إن ماركيز الذي يعترف بأنّ نصف الحكايات التي أسست تكوينه الأدبي سمعها من أمه وجدته التي كانت تملأ المنزل بقصص الأشباح، وتقص الحكايات الخيالية كما لو أنها حقائق طبيعية وحياتية، يتقدم هنا ليرفع أقفال الصمت والعيب والحرام عنها، ويحيلها إلى مادة طازجة قابلة للاستلهام والحكي والإحياء.
كان تماهي القارئ العربي مع ماركيز يعني أن خرافاتنا التي تعطلت عن الحياة، قابلة، بعد الحفاظ على خصوصيتها الثقافية ومرجعيتها المكانية، أن تكون أدباً ساحراً يضيف إلى آداب العالم، بل لعل هذا القارئ يوجه إدانة رمزية لكاتبه العربي الذي تنكر لأدبه الخرافي والعجائبي، وأساطيره وسردياته الشعبية، ورضي بالبقاء أسيراً للمدارس الأدبية الغربية في الكتابة والفكر إجمالاً وفي الرواية والقص خصوصاً.
لكن هناك سبباً آخر يختفي وراء علاقتنا الحيّة بأدب ماركيز وهي: إقدام هذا الكاتب على تعرية الحياة السرية للديكتاتور في نموذجه اللاتيني، وخاصة حين يغادر وهج السلطة وبذخها، ليصبح أسير منزله الخالي إلا من بعض الطيور والحيوانات التي تُركت لتؤنس وحدته. وبما أن قارته قد عرفت نماذج للطغيان التاريخي الفريد، فقد خصص جملة من كتاباته لتفكيك هذه الشخصية، ومكوناتها لتبرز بين أعماله روايتي «خريف البطريرك» و«ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، وفيهما يسجّل ماركيز ملامح الزمن الرتيب والقاتم الذي يعيشه ذلك السلطان الجائر بعد أن يغادر السلطة والمجد، أي «وحدة الطاغية الذي يدفعه تداعي نفوذه إلى الجنون» كما يقول ماركيز في حديث معه.
كان ماركيز أيضاً نموذجاً للأديب المتصل بروح مجتمعه وبالقضايا التي تصطخب فيه. وفي سبيل ذلك غادر وطنه كولومبيا مكرهاً، لكن دون أن يتوقف عن حلمه الكبير بدفع القارة نحو الإصلاح وتعزيز المكاسب الديمقراطية لشعوبها، وعاش في بلاد عديدة من كوبا إلى فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة، لكن المكسيك بقيت الحاضنة الأهم بعد وطنه، وحين غادر الحياة هناك رثاه الرئيس المكسيكي كما يرثي كاتباً عالمياً اختار وطنه مكاناً للعيش والكتابة والحلم. وهو تقليد لا نعرف ما إذا كنا سنشهده في دولنا العربية يوماً ما. وهكذا فقد كان تمثّل الكاتب لأحلام مواطنيه والذود عنها يؤسس لعلاقة حيوية تمس مشاعر أي مواطن عربي أو عالمي.
يبقى التأكيد أن ماركيز هو أحد سادة الرواية الحديثة منذ نصف القرن الماضي وحتى اليوم، كان صانع أسلوب وطريقة، وهو على خلاف كثير من الروائيين الذين صُقلت مواهبهم من خلال مرجعياتهم القصصية والشعرية فقد تبلورت موهبته عبر كواليس الصحافة التي اعتبرها أفضل مهنة في العالم وأتاحت له كتابة ما لا يحصى من التحقيقات الصحفية الاستقصائية وأعاد بناء بعضها ليصنع منها روايات لامعة مثل «حكايات بحَّار غريق» و«حادثة اختطاف».
تمكن ماركيز بصحبة أصوات لا تعدّ من إنعاش الآداب والفنون في تلك القارة التي كانت غارقة في الفساد والمرض، ونجح في إخراجها من عزلتها الكونية لتصبح لاعباً حقيقياً في العالم المعاصر اليوم..