أدب وفنون

هذا واقعي وذاك حلمي:
قراءة في روايتي «رحلة الفتى النجدي» ليوسف المحيميد و«الرسَّام شفيق» لطاهر أحمد


manتشهد المدونة السردية العربية، والمحلية على وجه الخصوص، عوزاً بيّناً في أدب الناشئة والأدب الموجَّه إلى الفئات العمرية عموماً. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار عام 2013م عاماً محظوظاً إذ نُشرت خلاله روايتان في هذا الجنس الأدبي، وهما رواية «الرسَّام شفيق» لطاهر الزهراني ورواية «رحلة الفتى النجدي» ليوسف المحيميد، أولاهما عن النشر المشترك بين نادي الباحة الأدبي ومؤسسة الانتشار العربي، والثانية عن الدار العربية للعلوم. ولهذا السبب تحديداً ينحو هذا المقال منحى احتفائياً وهو يقدِّم مراجعة للعملين آنفي الذكر، ويقرأهما على ضوء أعراف أدب الناشئة، المكتوب عن فئة عمرية تُحدَّد بما بين الثانية عشرة والثامنة عشرة، ولها.

يختلف أدب الناشئة جوهرياً عن المعتمَد الأدبي «الكلاسيكي»، وإن كنا لا نستطيع الحديث بثقة عن معتمَد أدبي في العالم العربي، الذي كُتب معظمه، إن لم يكن كله، لمجتمع المتعلمين البالغين، وبذا لا يفي باحتياجات المراهقين ولا يقدِّم إجابات لتساؤلاتهم ولا يخاطبها على أقل تقدير. ولعل أهم ما يميِّز أدب الناشئة في هذا الإطار أنه يستجيب لثلاثة عوامل متعلقة بفئته المستهدفة، هي أولاً احتياجاتهم ثم اهتماماتهم وأخيراً قدراتهم. وهذا ما يؤكد على مناسبة تقديمه إلى الصف الدراسي وإدراجه ضمن مناهج التعليم المتوسط والثانوي. هذا السبب يجعله أيضاً دائم الصلة بالمدرسة، وقد يتناوله التربويون أكثر مما يتناوله النقاد الأدبيون.

man2خصوصية أدب الناشئة
تعود أهمية أدب الناشئة إلى كونه خير معين للمراهقين في تلك المرحلة الحرجة من حياتهم التي تفرض بالضرورة عدداً من المشكلات الفسيولوجية والعقلية والاجتماعية والعاطفية. ولذلك تسعى الروايات، وهي أكثر أجناس هذا الأدب شيوعاً، إلى تقديم أحداث وشخصيات بوسع اليافعين التماهي معها بسهولة. إذ توظف منظوراً ينظر من خلاله البطل المراهق إلى نفسه وإلى العالم. يساعد هذا المنظورُ القرَّاءَ على إقامة صلات مع أحداث الرواية وشخصياتها تمكّنهم من استيعاب العالم استيعاباً أعمق. كما يضع أدب الناشئة رهانه في مخاطبة جملة من المفاهيم وثيقة الصلة بمرحلة المراهقة منشأها التجارب التي يتعرض لها، ويتفاعل معها، المراهقون. من تلك التجارب، على سبيل المثال لا الحصر، تجربة الانسحاب من حماية البالغين، وتجربة نشوء وعي جديد بالتفاعل مع الآخرين، وتجربة إعادة تقييم القيم والمبادئ، وتجربة حس المغامرة والتجريب. تعرضت لهذه المفاهيم روايتا «الرسام شفيق» و«رحلة الفتى النجدي»، ولعل في حرص ناشرَيها على توضيح أنهما موجهتين إلى الناشئة، من خلال كتابة عبارة «رواية للفتيان على غلافيهما، على خلاف ما جرت عليه العادة، تأكيداً على حضور جنسهما الأدبي. وما أطمح إليه هنا هو أن أثير اهتماماً وأعلِّق على عاتق المؤسسات المعنية مسؤوليةَ الاهتمام بالأدب الموجه للفئات العمرية كأدب الطفل وأدب الناشئة.

بيـن الروايتين
تصوِّر رواية «رحلة الفتى النجدي»، كما يقترح عنوانها، رحلة صالح الخراز ذي الخمسة عشر عاماً من «خبّ المنسي»، قرية في قلب نجد، لا يعرفها الناس بأبعد من رطبها القليل ومائها العذب، إلى الهند ثم عودته إليها. لم يكن دافعه في تلك الرحلة سوى رؤيا رآها في المنام، وأصرَّ على أن يجد تفسيرها، مهما كلف الأمر. منذ البدء نعلم أننا أمام حكاية مكتوبٌ لها التنقل عبر الأزمنة والأمكنة، تسرد كيف ترك صالح العمل في دكان أبيه المشتغل في صناعة الأحذية وسافر إلى الهند في رحلة طويلة اكتسب خلالها قدراً كبيراً من المعرفة والحكمة والتجربة أهّله لأن يعود إلى قريته محمّلاً بالمغنم. أما رواية «الرسام شفيق» فتقدم سيرة ذاتية لشفيق الذي يتمتع بشخصية تتسم علاقتها بمجتمعها بالتوتر والنفور. وتتتبّع الرواية تنقلات شفيق المتعددة بين ماليزيا، حيث تقيم عائلته المنحدرة من أصل عربي، والسعودية، حيث يقيم خاله فريد، وتسرد التجارب التي يمر بها في البيت والمدرسة والعمل. ويتبيَّن لنا من خلال النظر إلى حبكتي العملين تمايزاً مهماً في محفزات الحدث السردي، حيث تنسج الرواية الأولى أحداثها حول مغامرة تستند كثيراً إلى الخيال والسحر، يحادث فيها البطلُ المخلوقاتِ كاليرابيع والأسماك، ومن ذلك أيضاً وضع أحداثها في منتصف القرن الماضي تقريباً، بينما تُوثِق الثانيةُ أطنابها إلى أرضية صلدة ترتهن إلى الواقع المادي بكل تناقضاته وصعوباته.

drawing2aدور ضميـر المتكلم
ركن طاهر أحمد في «الرسام شفيق» إلى ضمير المتكلم لسرد البطل أحداثَ الرواية التي وقعت في البيت والمدرسة ومقر العمل. ودائماً ما يبرهن استخدام ضمير المتكلم في روايات الناشئة على فاعليته، لأنه يوفر شخصية يمكن التعرف إليها بسهولة، وبإمكان القارئ الشاب، الذي هو مشغول في الأساس بالبحث عن صوته وهويته الخاصة، التماهي معها. زد على ذلك أن استخدام السارد ضمير المتكلم يقصِر اللغةَ، وبالتالي المنظورَ، على تعبير البطل الشاب، مما يحقق مقروئية تلائم السواد الأعظم من الناشئة. لكن هذا بالطبع لا يعني أفضلية دائمة لاستخدام هذا التكنيك، إذ إن له «مواطنَ ضعف طبيعية» بحسب تعبير إليزابيث شومان، التي تعتقد أن استخدام ضمير المتكلم في رواية الناشئة يفرض عدداً من القيود على تجربة القارئ. هذه القيود تتعلق إما ببناء الشخصيات أو باللغة أو بالحبكة في الرواية. إنه، أي استخدام ضمير المتكلم، يحدّ أحياناً من بناء الشخصية التي تعجز، وعلى الرغم من نباهتها في الملاحظة والرصد مقارنة بسنها وتجربتها، عن إدراك حقيقة ما يدور في خُلد الشخصيات الأخرى. وهكذا، إضافة إلى حرمان القراء من فرصة معرفة الأفكار الذاتية والمواقف التي تنبئ عما تشعر به تلك الشخصيات حيال أنفسها، فإنهم يُحرمون من رؤية كيف تشعر به الشخصيات حيال بعضها البعض رؤية مباشرة. نلمس هذا في «الرسَّام شفيق»، إذ تنكشف للقارئ شخصية البطل بوضوح، فيما لا نتعرف إلى باقي الشخصيات إلاَّ من خلال شفيق الذي تبدي شخصيته انحيازاً لذاتها في مواطن كثيرة من الرواية. أدى هذا الانحياز إلى اختزال باقي الشخصيات إلى شخصيات منمَّطة غالباً، مثل شخصيتَي زوجة الخال القاسية ورب العمل المستغِل. هكذا إذن يجد القارئ نفسه أمام شخصية واحدة تتفرد بالعمق بسبب قصورها عن استكناه أفكار الآخرين، ناهيك عن التعاطي معها. يفرض استخدام ضمير المتكلم في رواية الناشئة أيضاً بعض القيود على اللغة، حين يحرم القارئ من السجل اللغوي لشخصيات ربما تتمتع بتجارب أثرى من شخصية البطل. وتشكل هذه النقطة تحديداً مأزقاً يواجهه كتاب أدب الناشئة، يدفع بعضهم إلى استخدام «ريجستر» لغوي عال يتطلب نمواً مفاجئاً في أفكار الشخصية مما يؤثر سلباً على مصداقيتها. ينطبق الشيء نفسه على الحبكة أيضاً لأنها ستبنى تبعاً لتحركات شخصية واحدة تروي القصة. وعلى الرغم من أن «رحلة الفتى النجدي» لم تذهب بعيداً في الاستفادة من الفرص الإضافية التي يتيحها استخدام الراوي العليم لإثراء العمل والتجربة الأدبية، إلاَّ أن المحيميد نجح في استثمار زاويةِ نظر أكثرَ موضوعية ينظر من خلالها بطله إلى نفسه وإلى العالم. وجهات النظر المختلفة التي فرضتها المواجهات مع الآخرين جادت بمستويات لغوية وأنماط تفكير غنية. فوالد صالح، مثلاً، يتوقع أن الزواج ربما كان حلاً للوساوس التي يظن أن ابنه غدا ضحية لها. يقول الأب: «هل ترغب أن تكمل نصف دينك؟ نشوف لك بنت الحلال؟» (31). وكذلك يمدّه بالحكمة والفلسفة الشيخ الأشيب الذي لقيه على ضفة نهر في الهند يرمي الطعام إلى السمك تكفيراً عن كونه صياداً سابقاً. «ستموت يوماً ما»، يقول الشيخ، «وستضطر أن تستيقظ من الموت كل فجر مثلي، كي تكفّر عن سوأتك» (77). هذه السعة في النطاق اللغوي ساعد في توفيرها تحرير الرواية من قيود تفرضها المفردات التعبيرية لدى المراهق.

بيـن نقد القيم الاجتماعية والوثوق
Calligraphyبها في «الرسَّام شفيق» يجد شفيق نفسه أمام معضلة حقيقية، هي غياب تقدير المجتمع، بل ازدراؤه واستغلاله، للفن. شكلت هذه المعضلة مأزقاً لبطل الرواية، لأنها حرضت على مواجهات مصيرية بينه وبين شتى مؤسسات المجتمع اتخذت تمظهرات مختلفة، كان لكل منها دوافعها ودلالاتها الخاصة. فمثلاً لم يكن والد شفيق التاجر يريد لابنه أن يصبح فناناً تشكيلياً كما كان الأخير يحلم، بل كان يريده أن يعمل معه في التجارة. لا ينطلق الأب في هذه الرؤية من منطلق تجاري فحسب، ولكن من منطلق جندري، حيث يصف ممارسة الفن بأنها «اهتمامات تافهة لا تليق بالرجال» (13). ثم يعاقب ابنه لممارسته الفن بإجباره على العمل في مصنع الأخشاب الذي يمتلكه، وهناك تحدث كارثة احتراق مستودع الخشب بسبب السجائر التي يدخنها شفيق مع هادي، مما أثار حنق الأب ودفعه إلى تحطيم لوحات ابنه، الأمر الذي علق عليه شفيق قائلاً إن «احتراق المصنع كله يهون أمام تحطيم لوحاتي ورسومي» (17). المدرسة أيضاً كان لها نصيبها في احتقار الفن واستغلال الفنان، ففي آخر سنته الدراسية رأى شفيق حارسَ المدرسة يرمي جميع اللوحات في صندوق النفايات ويضرم النار فيها. يعلق شفيق على هذه الحادثة قائلاً: «أُحرقت بعض أجزائي وأصبح رماداً داخل برميل النفايات» (38). أما في موضع آخر فيقول إن «هذا المجتمع لا يقدِّر الفن ولا الفنانين، ويُعد نتاجهم مجرد عبث لا فائدة فيه» (39). وأخال أن هذا الجانب يمثل أكثر جوانب الرواية نجاحاً، أعني قدرة الكاتب على بناء الملمح الواعي والإبداعي لشخصية شفيق بناءً منطقياً وحيوياً. إذ أظهر شفيق بمرور الوقت وعياً كبيراً فيما يخص موهبته الفنية ورؤيته. فحين يفسر مدير المدرسة، على سبيل المثال، إقدام المدرسة على إتلاف الأعمال الفنية برغبة المدرسة في منع التكدس، يقترح شفيق «إرجاعها لأصحابها فهي تعني لهم الشيء الكثير» (41). ولأن هذا الوعي لم يتوفر لباقي الطلاب المشاركين في مسابقات الرسم استمرت المدرسة في حرق لوحاتهم، أما شفيق فيتساءل بحرقة: «هل يستحق الفن كل هذه القسوة؟» (44).

لشفيق شخصية مشاكسة تمتح من الفن قدرتها على المواجهة والتأثير، على عكس ما نجده في شخصية صالح الخراز في «رحلة الفتى النجدي» التي تميل إلى الهدوء والوثوق إلى القيم المجتمعية متمثلة في رؤية الأب والحكيم الهندي مثلاً. وهنا نجد أنفسنا أمام تمايز آخر بين الروايتين، حيث تقابل الشخصيةَ التي تعتمد في هويتها على تنافرها مع المجتمع في (الرسَّام شفيق) شخصيةٌ مطبوعة على حب الخير تحقق ذاتها من خلال انسجامها بمحيطها وفعل الخير، كما تسخر التجربة الفردية لصالح المجتمع. ولذلك فإن صالح الخراز، إضافة إلى مساعدته للفقراء والمحتاجين، يكشف منذ وقت مبكر في الرواية عن نواياه التي ربما كانت أحلامه أيضا، ويعقدها باحتمالية المنفعة التي يعده بها تفسيرُ رؤياه. لقد كان يريد أن يجعل قريته «من أجمل قرى العالم، بل سأجعلها مدينة، سأبني فيها مدرسة وجامعاً ومستشفى ومركز شرطة» (39). تلك النيات خيرية بالكامل، الهدف منها تطوير قرية خبّ المنسي إلى مدينة تتمتع بكافة المزايا التي تضمن لسكانها حياة رغيدة، ولربما كانت الرياض اليوم نموذجاً للمدينة التي كان صالح يحلم ببنائها. ولا داعي للتذكير بأن صالح عمل مع أهل قريته على تحقيق تلك الأحلام مستعينا بالثروة التي نالها بعد عودته من رحلته الشاقة. وكما كانت قراءته رحلة في الكتب من مثل تفسير الأحلام لابن سيرين وألف ليلة وليلة ثم الأسفار الممتلئة بعوالم السحر والدهشة كملحمة المهابهارتا، أمدّته رحلته إلى الهند بالتجربة والحكمة التي كان مهرها المغامرة والكدح، إذ فقد خلالها اثنين من أصابع يسراه.

Calligraphy_2أمام النقاط المفصلية في الحياة
يشكل البحث عن الذات الدافع الأكثر صداماً في المراهقة، حيث الانتقال المضطرب من الطفولة إلى البلوغ، الذي يسائل أثناءه المراهقَ القيم ويستجيب لانسجامها مع شخصيته من عدمه. ويسم التوتر هذه المرحلة لأنه في الوقت الذي تكون لدى المراهقين حاجة ماسة في الانتماء فإن لديهم رغبة متأصلة في التمحور حول ذواتهم بأنانية لأنهم يرون في أنفسهم تفرداً. وهنا تنشأ أزمة هوية يطور فيها المراهق مفاهيمه ويبحث عن استقلاله عن كل أطواق الاعتماد. وتأتي الشخصيات في روايات الناشئة مستقلة تماماً، وإنْ بدا هذا الشيء غير واقعي بالنسبة للكبار فإنه بالنسبة للمراهقين واقعي جداً. من ذلك تكرُّر ثيمة العمل والوظيفة فيها، لأن الوظيفة جزء من التحضير الاجتماعي لانخراط المراهقين في عالم البالغين. في «الرسَّام شفيق» يعمل البطل في مصنع الأخشاب حسب رغبة أبيه، ثم بعد الحريق يعمل نادلاً في مطعم في بانكوك، ثم يعمل سائقاً لدى خاله. أثناء عمله يتعرَّض شفيق لعدد من المواقف السيئة، منها صفعُ صاحب المطعم إياه أمام الزبائن، الحادثة التي اقتص بسببها من رب عمله بأن أطلق الحشرات والفئران على زبائن المطعم. تنبع استجابته لتلك المواقف بالطبع من ذلك التوتر القائم بين الاعتماد والاستقلالية. في «رحلة الفتى النجدي» أيضاً يواجه صالح مشكلة تتعلق بعمله خرازاً في دكان أبيه، المهنة التي كان يكرهها. لما كان أبوه يدربه على استخدام المخرز كان صالح يغمض عينيه ويبكي حين يغرز المخرز في الجلد، لأن قشعريرة تسري في حنكيه وأسنانه. كرهه للوظيفة تمثل حسيّاً في سماعه ثغاء نعجة أثناء وجوده في الدكان وحيداً، أُخذ بسببه إلى مطوع القرية، ثم توصل مع أبيه إلى تسوية عمل بمقتضاها دباغاً فقط. في الهند عمل حمَّالاً في سوق السمك ثم عمل في قطع الأخشاب وبيع الحطب وصيد السمك، واكتسب من تجربته المهنية فرصة يُسائل من خلالها تصوراته ذاته.

بشكل عام يجب أن يكون البطل في روايات الناشئة قادراً على فعل شيء لا يستطيع فعله معظم القرَّاء. عليه أن ينشأ مستقلاً عن كافة البنى المجتمعية كالعائلة والحي والقبيلة، وأن يفرض نفسه، وربما وجب عليه أن يترك تأثيره على الآخرين من حوله. يجب أن يكون قادراً على التفاوض مع تلك المؤسسات التي تدعوه إلى الامتثال، وإقناعها باستقلاليته وقدرته على تحمل الاختيارات التي يقوم بها. لم يصدق أهل قرية خبّ المنسي، على سبيل المثال، ما رواه صالح لهم من رؤيته الحلم وسماعه ثغاء نعجة وظنوا أنها وساوس، فكان عليه أن يدافع عن موقفه: «أنا أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون» (25). كان مؤمناً بأنه أمام نقطة مفصلية من حياته وضّحها محاولاً إقناع أمه: «أنا كالطير، أحمل الرؤيا على جناحي، حتى أجد من يفسرها، عندها ستسقط هذه الرؤيا من على جناحي، ساعتها سأتوقف عن الطيران، وأعود» (42). كان شفيق أيضاً مكافحاً ومعتمداً على نفسه. لقد استفاد من مشكلة المؤسسة التربوية والمؤسسة الخاصة والمجتمع معه كفنان في صقل وعيه، فإذا به يطرح تساؤلات عميقة من مثل: «هل أتعامل مع الحياة بشكل بارد وساخر، أم بحب وتغافل؟» (55). تأثيره على الآخرين كان متمثلاً في تمرير شغفه بالرسم إلى أخته الصغيرة ملوك. زد على ذلك أنه كان قادراً على ملاحظة ظواهر سيئة مختلفة، كالتمييز الطبقي والتنمر والنفاق والعنف اللفظي وتسليع الفن وطغيان المادة، ثم نقدها. لا عجب أن نعلم أنه، بعد مواجهات عديدة مع القيم المتضاربة التي تبدي استعداداً للتضحية بالفن أن يتوقف شفيق عن ممارسة الفن «حتى يتوقف العالم عن نفاقه» (65).

الانتهاء ببداية جديدة
drawing1تماهياً مع طبيعة المرحلة بالنسبة للبطل وللقارئ، تحتاج روايات الناشئة في الغالب إلى أن تنتهي ببداية. فالأحداث عبارة عن بضع تجارب تخض البطل وتدفعه نحو النضج الذي يعده به المستقبل. نجد هذا في الروايتين موضوعِ المقال، وإن بشكل أوضح في «الرسام شفيق» إذ تنتهي الرواية بشفيق يشاهد، أثناء استجمامه في جزيرة بينانج، امرأة تنادي طفلها الذي استأنسه بـ «فيق»، الاسم نفسه الذي كان يدعى به البطل في طفولته. تلك المرأة ليست إلاَّ رضية عشق الطفولة. هنا تكتمل الدائرة وينفتح المشهد على وعي آخر محتمل. على منوال آخر تنتهي (رحلة الفتى النجدي) بتحقيق صالح الخراز أحلامَه ببناء مدينة متطورة. هذه النهاية تمد خيط الحكاية، وتتفوق على حكاية التاجر البغدادي الذي حلم بكنز في القاهرة سافر من أجله حتى عثر على الكنز في بيته، وهي الحكاية التي اتخذها المحيميد إطارا لروايته.

عملت روايتا «الرسام شفيق» لطاهر أحمد و«رحلة الفتى النجدي» ليوسف المحيميد على التأسيس لممارسة أدبية مهمة نرجو ألَّا تتوقف عند هذا الحد. لأنه حري بالمؤسسات المعنية بهذا الجنس الأدبي على وجه الخصوص، التربوية منها والثقافية، تلقف هاتين التجربتين وتناولهما بالنقد والدراسة. حري بها العمل على تأسيس تقليد أدبي طالما أدار ظهره للفئات العمرية المختلفة، وعمل على تهميش شريحة مجتمعية عريضة وحيوية. إن الدور المناط بوزارة التربية والتعليم ووزارة الثقافة والإعلام يتمثل في تشجيع أدب الناشئة بإدخاله إلى الصف الدراسي والاعتناء به، أما إشباع حاجات القراءة بتقديم منتج أدبي ناضج يوليهم اهتمامه دون أن يستهين بقدراتهم فتبقى مسؤولية الأدباء وحدهم.

أضف تعليق

التعليقات