يعتبر مؤرخو الأدب العربي لامية العجم واحدة من عيون الشعر العربي القديم، ويرون فيها أهم ما في شعر الحسين الأصبهاني المعروف بـ الطغرّائي ، استناداً إلى ما تمثله من تجربة وما تقدمه من موقف حيال الحياة والواقع والذات.
فيما يلي مراجعة لها وتأمل قيمتها النفسية لدى شاعرٍ تقلّبت به الأحوال، وخذلته الأحداث..
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل..!
استناداً إلى الشهرة؛ تبدو هذه الحكمة من بنات أفكار أبي الطيب. لكن المتنبي مات قبل ولادة صاحب فسحة الأمل بقرن كامل في أقلّ تقدير..! ولكن هناك علاقة واضحة بين الشاعرين العربيين، فكلاهما غرق في ذاته حدّ التناقض الحادّ بين حقيقة الواقع و فسحة الأمل/ الحلم..! وكلاهما تكسّرت أحلامه على صخرة الواقع، وكلاهما وجد في الشعر ملاذاً لتوثيق الوجع الخاص في مواجهة الحقائق العامة..!
المتنبي أراد المنصب إلى أن لقي حتفه قتيلاً. أما الحسين بن على بن محمد الأصبهانى الشهير بـ الطُّغُرّائي ؛ فقد كان ذا منصب، وبسبب منصبه لقي حتفه.. وقتيلاً أيضاً. وإذا كان المتنبي قد مات ثمناً لطول لسانه, فإن الطُّغُرّائي مات ثمناً لطَول يده في سلطنة مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي، وفي أتون تطاحن سياسي بينه وبين أخيه محمود، تطوّر التطاحن إلى مواجهة عسكرية في همذان انتهت بهزيمة السلطان مسعود، وتصفية أعوانه ووزرائه.. وبالطبع كان الطغرائي واحداً منهم..!
هذا ما يقوله التاريخ؛ لكن التاريخ، أيضاً، يسوق رواية أخرى تقول إن التصفية كانت سياسية، فالسلطان المنتصر عفا عن الحسين الأصبهاني ليموت منكسراً ضعيفاً، بعدما عاش قوياً متنفذاً, منصباً بعد منصب..!
وهذا هو المرجّح استناداً إلى ما سجلته لامية العجم من انكسارات حادة، في نفسية الشاعر الذي أنفق صفوه في أيامه الأُوَل، مشغولاً بمنصب الكاتب الرسمي للسلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي مدة ملكه كلها، ومن بعده ابنه مسعود.
لامية العجم.. لامية العرب..!
أنهى الحسين الأصبهاني قصيدته، وسمّاها لامية العجم ، مجاراة للشاعر الجاهلي الشنفرى الذي عرف له العرب قصيدة لامية العرب . ويبدو أن صلة الشاعر بسلاطين السلاجقة، هي دافع التسمية. لكن القصيدتين تلتقيان في قيمتين مهمتين في المضمون الشعري:
كلتا القصيدتين نابعة من روح ذاتية معتدّة بنفسها، ولهذا فإنهما تنتميان إلى قصائد الفخر.
وكلتاهما اعتنت بتسجيل الغربة والرغبة الصارخة في الرحيل.. يقول الشنفرى:
أقيموا بني أمي ظهورَ مُطيّكمْ
فإني إلى قومٍ سواكم لأميَـلُ
ويقول الحسين الأصبهاني:
فيم الإقامة في الزوراء لا سكني
بها ولا ناقتي فيها ولا جملي؟
إن العلى حدّثتني وهي صادقة
فيما تحدّث أن العزّ في النقل
لو كان في شرف المأوى بلوغ منى
لم تبرح الشمس يوماً دارة الحمل
التقى الطغرّائي والشنفرى، أيضاً، في تقاطع حيوي من اهتمامات الشاعر العربي الذي كانت أناه محرّضاً لشاعريته، وباعثاً على التعبير المادح للذات. لقد فجّر الشاعر العربي فلسفة الذات أسمى من الآخر على عرض تاريخ الشعر العربي وطوله، وتوارث الشعراء هذا النسق الصارخ إلى حدّ اختلاط الحقيقة النفسية بالواجب الفني..
الذات الشاعرة
والطغرّائي استفاد من هذا الموروث منذ مطلع القصيدة، وعلى نحو جعل من نفسه إنساناً في حماية من الخطل..
أصالة الرأي صانتني عن الخطل
وحلية الفضل زانتني لدى العطل
مجدي أخيراً ومجدي أولاً شرعٌ
والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
إلا أن هذا الاعتداد بالمجد، بداية ونهاية، سرعان ما ينكسر على صخرة الحقيقة التي وقف فيها الشاعر وحيداً شاكياً متوجعاً:
ناء عن الأهل, صفر الكف منفردٌ
كالسيف عُرِّي متناهُ عن الخلل
فلا صديقَ إليه مشتكى حَزَني
ولا أنيسَ إليه منتهى جذلي
والدهر يعكس آمالي ويقنعني
من الغنيمة بعد الجهد بالقفل
ولهذه الشكوى أسبابها الواقعية، ولكنّ الطغرّائي له أسبابه النفسية، فهو يربطها بالحظ العاثر، ويشاهد نفسه أقلّ قدراً من الجُهّال في زمنه الصعب:
أهبت بالحظ لو ناديت مستمعاً
والحظ عنيَ بالجهّال في شغل
لعله إن بدا فضلي ونقصهمُ
لعينه نام عنهم أو تنبّه لي
تقدمتني أناسٌ كان شوطهمُ
وراءَ خطويَ لو أمشي على مهَـل
هذا جزاء امريء أقرانه درجوا
من قلة فتمنى فسحة الأجل..
مقاومة..
ويتمتع الشاعر بروح مقاومة مردّها إلى الكبرياءِ الشاعرة، وهي كبرياء ترفض الخضوع للواقع، بل تحاول تعديله، وقراءته من زاوية أخرى:
غالى بنفسيَ عرفاني بقيمتها
فصنتها عن رخيص القدر مبتذل
وإن علانيَ من دونيْ فلا عجبٌ
لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل..!
المقاومة النفسية للواقع، تحرّض على المغامرة والدخول في الصعاب، ذلك أن الجمود حالة فارغة تؤول بالمرء إلى الخوف والخنوع والكسل:
حب السلامة يثني عزم صاحبه
عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقاً
في الأرض أو سلما في الجو فاعتزل
ودع غمار العلى للمقدمين على
ركوبها واقتنع منهنّ بالبللِ
وبما أن لكل تجربة خلاصة ونتيجة؛ فإن صاحب لامية العجم استنتج الكثير من تجاربه المؤلمة، لكنّ أكثر تلك النتائج وضوحاً وصراخاً هو ذلك التشكّي من الغدر والخيانة التي تأتي من أقرب الأقربين ثقة:
أعدى عدوّك أدنى من وثقت به
فحاذر الناس واصحبهم على دخـَل
فإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعوّل في الدنيا على رجل
وحسن ظنك بالأيام معجزة
فظن شراً وكن منها على وجل
غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعمل
وشان صدقـَك عند الناس كذبُهمُ
وهل يطابَق معوجّ بمعتدل
إن كان ينجعُ شيءٌ في ثباتهمُ
على العهود فسبْق السيف للعذَل
خضوع
وعلى الرغم من كل هذا التبرم والسخط؛ فإن ما يستقر في نفس الطغرائي هو قليل من الأفكار الداعية إلى الهدوء والقناعة والتعايش مع الواقع:
يا وراداً سؤر عيش كله كدرٌ
أنفقتَ صفوك في أيامك الأول
فيم اقتحامك لجّ البحر تركبه
وأنت تكفيك منه مصّة الوشل..؟
ملك القناعة لا يُخشى عليه ولا
يُحتاج فيه إلى الأنصار والخولِ
ترجو البقاء بدار لا ثبات بها
فهل سمعتَ بظل غير منتقل