سيبقى النقد الفني العربي غارقاً في عدم التمييز بين الثقافة والضوضاء في الساحة الفنية العربية ما لم تتوافر حلول حاسمة للثنائيات الشائكة التي يعانيها.
يعد النقد الفني وأدواته ونظرياته جزءاً من أي منظومة ثقافية، ومن ثم لا يمكن مناقشة واقع النقد الفني العربي بصورة عامة والنقد الفني التشكيلي بصورة خاصة بمعزل عن الأزمات التي واجهت الثقافة العربية برمتها. يقدم د. مازن عصفور قراءة في هذه الثنائية الشائكة.
الفنون التشكيلية البصرية من أكثر الفنون العربية التي عانت لإثبات حضورها ومواجهة تحديات تأصيل الذات والهوية
غالباً ما تتردد في البحوث والدراسات عند استعراض أزمات الثقافة العربية المختلفة مصطلحات وإشكاليات مختلفة، مثل: السبات الثقافي والحضاري الذي يرجعه الباحثون في غالبية الدراسات للموروث العثماني، وفي حالات أخرى لمركزية الثقافة الغربية وسطوتها على الثقافة الإنسانية منذ عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، مروراً بالثقافة الحداثوية وما بعد الحداثوية التي فرضت نفسها كمنجز ثقافي، إضافة إلى إفرازات الاستعمار الحديث، والتجزئة، والعولمة، والثورة العلمية والإلكترونية، وعوامل عربية داخلية مثل: سلطة الثقافة، وثقافة السلطة، والطائفية, والقبلية, ومحاورة الآخر.
كذلك تبرز مصطلحات شائكة كتأصيل الهوية والبحث عن الذات… إلخ. وهي من العناوين والمصطلحات التي عجز مفكرونا وباحثونا عن تقديم إجابات واضحة وحاسمة لها، ما جعلنا ندور في حلقات مفرغة نراوح فيها بين جلد الذات والدوران في فلك الآخر، وبات عدد من النقاد والباحثين ينتظرون الحلول الغربية الجاهزة لأزماتنا الثقافية، المصاحبة لأزمات الثقافة الغربية ذاتها الغارقة تحت عناوين «موت الفن ونهايته»، وما لازمها من أطروحات: موت النقد والفلسفة والتاريخ المطروحة على الساحة الفنية والثقافية العالمية. وبفعل ارتباطنا بمركزية الثقافة الغربية وحتى أزماتها أصبحنا ننتظر الحلول الجاهزة لتلك الأزمات من الغرب المنهمك بجدية لحلها. وهذا خير دليل على عجز الفعل الثقافي العربي عن تقديم مشاركة فاعلة لحل أزماتنا الثقافية، ومنها أزمة النقد الفني العربي وجموده في زمننا الراهن.
ومع ذلك، لا بد من الإقرار بالعديد من الجهود الفردية الجادة التي قدمها باحثون ودارسون عرب في مجال النقد الفني أو التشكيلي في العالم العربي، وإن بقيت أصواتهم «تغرد خارج السرب»، ولم تشكل منظومة نقد فني عربي جاد وفاعل، متحاور مع المنجز الثقافي والفني والنقدي العالمي دون التقوقع في فلك الآخر أو الغليان «في فنجان قهوة محكم الإغلاق».
ولأن النقد الفني الجاد مثله مثل الكائنات الحية لا يمكنه العيش دون أجواء الحرية والمعرفة المتكاملة المفتوحة والمنفتحة, فإن النقد الفني العربي كذلك لا يمكن أن ينمو ويزدهر ويتطور دون وعي معرفي وتطبيقي بجوهر النقد وأدواته ودوره ورسالته ومعرفياته الجمالية والتاريخية والاجتماعية التي ينبغي انصهارها جميعاً في بوتقة الناقد المثقف العلمي الجاد الذي نصبو إليه.
من جانب آخر لا بد من الإقرار عند معاينة أزمة النقد التشكيلي البصري العربي بصورة خاصة بالميزة الخاصة للفن التشكيلي بوصفه فرعاً من الفنون البصرية «المكانية» التي تشترط الفراغ والحيز المادي في إثبات حضورها ووجودها بخلاف الفنون الأدبية والكتابية التي تحتضنها شكلاً وتعبيراً الكلمة العربية، الحامل والحاضن لموروثنا الإبداعي، والمتسلحة بالقرآن الكريم الذي صان لغتها وبلاغتها ودلالاتها أمام تحولات الصراع والتحدي، وأمام العولمة والتغريب، فكانت اللغة والكلمة سنداً للفنون الأدبية في تحقيق منجز إبداعي ونقدي مواكب لما عصف بالخطاب الثقافي العربي من تحديات. أما حال الموسيقا العربية فكان حظها أوفر في تأسيس خطابها ومحتواها الإبداعي والنقدي، كونها حظيت بمساحة وافرة من التواصل الثقافي وتراكم الخبرة بمرور الأجيال، بحكم كونها من الفنون الزمانية التي تعتمد على الذاكرة والشعور والأداء المتوارث من جيل إلى جيل. على هذا فقد حظي الاشتغال النقدي في اللون الأخير بآفاق نقدية أوسع مقارنة بالفن التشكيلي البصري، بسبب شعبية الفنون الموسيقية والأدبية وامتدادها الجماهيري الواسع من ناحية، وبسبب قدرتها على المواجهة والتكيف مع رياح التغريب والعولمة وسطوة العلم، وتسارع المعرفة من ناحية أخرى، ولتجذرها، أيضاً، في النفس البشرية دون قيود الحيز والمكان. بينما نجد الفنون التشكيلية البصرية ونقدها من أكثر الفنون العربية التي عانت تأثيرات الصراع لإثبات حضورها ومواجهة تحديات تأصيل الذات والهوية من أي فنون أخرى. هذا إضافة إلى توتر الاشتغال النقدي التشكيلي العربي على أصعدة كلٍّ من المنهج والفاعلية والأداء. هذا ويرجع جمود الاشتغال النقدي الجاد إلى عدد من العوامل، من أبرزها:
• انقطاع التواصل الثقافي، وتراكم الخبرة في الثقافة البصرية العربية منذ أفول الدولة العربية المتماسكة والحية بثقافتها وعلومها منذ قرون، ثم الاستفاقة أو شبه الاستفاقة المفاجئة مطلع القرن الماضي في مواجهة فنون بصرية تشكيلية مستمدة في جوهرها من الحداثة الغربية جعلت الفنون التشكيلية العربية تتنازع بين ثنائيات لم تجد لها حلولاً، مثل: الهوية والمعاصرة, محاربة التغريب ومحاورته, إضافة إلى إشكالية الأمية البصرية، وسطوة الكلمة في الثقافة العربية وغيرها من العوامل. ولقد استفاق الفن التشكيلي العربي بعد سبات عميق بعيداً عن تراكم الخبرة البصرية، دام لقرون، ليجد نفسه إزاء ممارسة تشكيلة مفاجئة لم يعتدها تمثلت في اللوحة المتأثرة بالقيم الغربية بكل مكوناتها البنيوية والتعبيرية والجمالية المتصلة بالثقافة الغربية النهضوية وما تلاها من تراكم.
• لم يكن أمام الفنان العربي سوى التحاور والتعاطي مع هذه اللوحة بمستويات مختلفة راوحت بين التطبيق الاستنساخي الأعمى أو المهجن، أو الانغلاق الكامل في تراثية محلية دون تجديدها وإحيائها، وبانغلاق كامل، خوفاً من الدوران في فلك الآخر.
كان من الطبيعي نتيجة لتلك العوامل والظروف أن تفرز اشتغالات نقدية تشكيلية عربية اتصفت بالتوتر والتملق والخواء. وإذا أضفنا إلى ما سبق ما عصف في القرن الماضي بالواقع العربي من ظروف ومستجدات سياسية، ومن تجزئة، وانقسامات, وطفرات نفطية وحروب, وما عكسته تلك الظروف على الفعل الإبداعي والثقافي العربي من اهتزاز جعل الثقافة البصرية والفن التشكيلي، ولعوامل تربوية وروحية، يحتلان مكانهما في نسيج الثقافة العربية بمساحة ضيقة على شكل إكسسوارات ثقافية هامشية مورست على الساحة بلا جدية. وانعكس ذلك حتى في مؤسسات التربية وإعداد النشء الجديد فنياً في العالم العربي، ما أبقى الثقافة البصرية مقتصرة على مثقفي النخبة والبرجوازية الثقافية المتأثرة بالثقافة الغربية.
أزمة النقد
كان لا بد للمعطيات والظروف السالفة أن تفرز أزمة النقد التشكيلي العربي الحالية وتكرس جموده. وكان لا بد لتلك العوامل والظروف أن تؤثر بشكل كبير في نوعية المنجز الفني التشكيلي العربي إذا أضيف إليها غياب النقد الفني ودوره في المعاينة، والمرافقة، والتحليل، والتوجيه، وأن يجعل الساحة التشكيلية العربية تخلو من أقلام نقدية جادة وفاعلة باستثناء القليل ممن اشتغلوا بالنقد، رغم قوة الصراع وتعرضهم لرياح الأزمات الاقتصادية والسياسية وطفرات المال وغيرها.
بصورة عامة يمارس النقد الفني التشكيلي العربي في أيامنا الحالية تحت مظلتين رئيستين:
الأولى: تتمثل في النقد الفني غير المتخصص، ويتفق، عادة، على تسميته «بالنقد الانطباعي» أو التأثري، وفيه يعتمد الناقد على أدواته الذاتية الشخصية في تناول العمل, غير أن هذا النوع من النقد تعوزه الأدوات والمناهج، وإن وُجدت، فغالباً ما تستند إلى التأثر والانطباع العاطفي عند تناول العمل.
في كثير من حالات النقد الانطباعي تسيطر الكلمة والبلاغة اللغوية في وصف النص على حساب الرصد الموضوعي للقيم البصرية والجمالية الثقافية فيه، ويعود السبب في ذلك إلى انصراف الأدباء عن الفن البصري ومصطلحاته إلى حد كبير، باستثناء القليل من الأدباء العرب الذين كتبوا في النقد الفني البصري التشكيلي وقدموا دراسات ورؤى معمقة، ولو بقيت تحت مظلة النقد الانطباعي غير المتخصص. أما الأدباء العلميون فقد قدم الكثير منهم اشتغالات نقدية جادة لها بصماتها الواضحة في الفن العالمي، منهم، على سبيل المثال، أدباء وروائيون وشعراء أمثال: إليوت، وبريتون, وتزارا, وغوته، الذين رفدوا النقد التشكيلي الغربي باشتغالات نقدية فنية مؤثرة وفاعلة، إضافة إلى تنظيراتهم التي وضعت أسس الحركات الفنية العالمية، كالسريالية، والدادائية، والرومانسية، وغيرها.
نشر الثقافة الفنية
تحت مظلة النقد الانطباعي والتأثري، أيضاً، يمكن إدراج بعض الاشتغالات النقدية الفنية الصحفية، سواء أكانت محمولة بروافع أيديولوجية أم دعائية. وفي هذا السياق خلط كثيرون بين الكتابة النقدية الصحفية والنقد الفني رغم الفرق الشاسع بينهما، إذ إن الكتابة الصحفية الفنية التي اصطلح على تسميتها عالمياً بـالتقرير الصحفي الفني Art Reporter هي بعيدة كل البعد عن النقد الفني التحليلي المتعمق والجاد. ورغم أهميتها البالغة في نشر الثقافة الفنية والتعريف بالفنانين، إلا أنها لم تسد ثغرة النقص الحاد في النقد الفني المتخصص والمتعمق في الساحة النقدية العربية، ذلك أن الكثير من اشتغالات النقد الفني الصحفي، والتي نشهدها في العالم العربي هذه الأيام تفتقر إلى أبسط مقومات النقد الفني العلمي والمنهجي، كالوصف والتحليل والتفسير، ثم إطلاق الأحكام. وعادة ما يتسم أغلب تلك الكتابات بالتلميع الإعلامي وصناعة النجومية، باستثناء القليل منها الذي قد يأخذ شكل الدراسات الجادة، خصوصاً في الصفحات الثقافية الأسبوعية الموسعة.
أخيراً، يضاف إلى هذا النوع من الاشتغال النقدي التشكيلي العربي، وفي ظل غياب النقد الفني العلمي المنهجي الجاد، ما يقدمه بعض الفنانين التشكيليين أنفسهم من اشتغالات لا يمكن إغفال إسهاماتها الفاعلة بحكم الصلة المباشرة لهؤلاء الفنانين المشتغلين بالنقد بالثقافة الفنية المتعمقة والدراية المجربة بتقنيات العمل وخفاياه البنيوية والأسلوبية.
أما النموذج الثاني من النقد الفني التشكيلي، فهو النقد الفني المتخصص, ونعني به النقد الفني التشكيلي المستند إلى أدوات ومناهج علمية فاعلة ومدروسة ومجربة في الساحات الفنية العالمية. وقد نقله إلى ساحتنا الفنية المحلية العربية قليل جداً من الدارسين للنقد المتخصص الغربي الذين لا يتجاوزون أصابع اليد. هذا إذا أضفنا إليهم دارسي علم الجمال وتاريخ الفن الذين امتلكوا الخبرة العملية وأدوات النقد الفني المتخصص بالتجريب والممارسة.
هؤلاء النقاد التشكيليون المتخصصون، أمام قسوة الصراع والظروف الثقافية والاجتماعية، قدموا نماذج من النقد الفني، حاولوا فيها الاقتراب من العمل الفني لغةً وشكلاً وخطاباً بشكل أعمق. إلا أنهم اصطدموا بتلك الإشكاليات والعوائق التالية رغم جهودهم المشكورة في ترسيخ الكثير من اللمسات العلمية المنهجية المدروسة في الاشتغال النقدي العربي المتخصص.
من أبرز تلك الإشكاليات والعوائق
• تزايد الفجوة القائمة بين المرسل «الفنان» والمتلقي من جهة، وبين الناقد والمتلقي من جهة أخرى، حيث تنعدم التخصصية العلمية المعمقة في تناول نقدي، ما أسهم في تسطيح تذوق المتلقي بصرياً وثقافياً بفعل الممارسات النقدية السالفة الذكر، وجعل النقد التشكيلي المتخصص الناجع يوجه خطابه في كثير من الحالات إلى النخبة الصغيرة المزودة بالثقافة الفنية.
• انصراف العديد من النقاد التشكيليين المتخصصين إلى الاختباء وراء جدار التدريس الأكاديمي، وتفضيله دور التثقيف الفني، ورفع الذائقة عبر التدريس، وتقديم البحوث والدراسات. وقد أسهم ذلك بالطبع، رغم أهمية تلك الإسهامات الأكاديمية وحسن نواياها، في تكريس غياب النقد الفني الميداني الجاد الذي تحتاج إليه الساحات الفنية العربية حاجة ماسة. ولعدم وجود أنظمة للتفرغ النقدي كما في الدول المتقدمة، فليس هناك من النقاد العرب الجادين من يؤثر التفرغ للنقد المتخصص بلا دعم مستقل.
• عجز النقد الفني العربي وباحثيه عن مواجهة تحديات من نوع جديد تمثلت في ظاهرة النمطية والتكرار في تطبيق المناهج النقدية العالمية التي درسوها وتمرسوا فيها، إضافة إلى ما يتعرض له هؤلاء النقاد من انتقادات حادة من المطالبين بتأصيل الهوية والذات بوصف هؤلاء النقاد المتخصصين قد أسرتهم سطوة القوالب النقدية الغربية ومناهجها التي اشتغل بها عدد من نقادنا في الساحة العربية بطريقة آلية ميكانيكية جامدة دون أي إضافات أو تطوير، ودون تكييفها وصهرها في السياق الثقافي العربي الحافل بالمناهج الفكرية التحليلية الموروثة بدلاً من تطبيقها في الأعمال التشكيلية على طريقة مواصفات الكتالوج الجامد بنمطية جافة واصطلاحات تتكرر بخطاب نقدي موجه بشكل رئيس نحو النخبة لا للعامة. ويسعى في كثير من الحالات إلى إقصاء الآخر.
• يواجه النقد الفني التشكيلي العربي المعاصر معضلة تهميش تدريس النقد الفني الجاد والمتخصص في المؤسسات التعليمية الفنية العربية، وتبقى المعاهد الغربية ملاذ الدارس الوحيد بكل ما يحمله ذلك من مشاكل التأصيل، أو محاورة الآخر، أو الدوران في فلكه.
• عجز النقد الفني العربي عن حسم الجدل الساخن حول ثنائيات شائكة يصطدم بها النقد الفني العربي وتحد من فاعليته مثل: مسائل التراث والمعاصرة، هوية الفن العربي، أزمة المصطلح النقدي، سلطة الثقافة أو ثقافة السلطة، وغيرها من المسائل التي ما لم يتمكن الباحث في النقد الفني العربي من إيجاد حلول حاسمة لها، فسيبقى النقد الفني العربي غارقاً في عدم التمييز بين الثقافة والضوضاء في الساحة الفنية العربية بصورة عامة.