الثقافة والأدب

الصورة الشعرية والصورة الفوتوغرافية

لا غرابة إذا سمعنا حديثاً عن الصور في الشعر، فالشعر في بنائه مجموعة صور يعاد تشكيلها عبر اللغة. ولذلك يقال الصورة الشعرية والتصوير الجمالي والصور الجمالية على اعتبار أن مفردة صورة وجذر «صور» يتسع لكثير من الدلالات والإشارات الحقيقية منها والمجازية.
إن الحديث عن الشعر في عالم الصورة والتصوير الفوتوغرافي تحديداً يبدو مسألة تستحق الالتفات لجدتها من جهة، وللأسئلة التي تتمخض عن هذا الربط بين الاثنين، فإذا كان أعذب الشعر أكذبه، كما يقال، فإننا اعتدنا النظر إلى جمال الصورة في صدقها وهذا يكفي لتحريضنا على التفكير في هذه المفارقة التي يحملها قول بعضهم بأن الصورة الفوتوغرافية هي أقرب الأشياء إلى الشعر.

الشعر نافذة على الخيال والصورة الفوتوغرافية نافذة تشرف على الواقع. هناك تحرضك الصورة على الاندفاع صوب الأحلام والتأويلات وكل ما تتحدث عنه المخيلة. وهنا تشعر أن طريقك أقصر إلى إدراك الأشياء، ليس ثمة سفر بعيد متى ما نظرنا إلى الصورة الفوتوغرافية على أنها ضرب من توثيق الواقع، إلا ما انزاح عن الوصف المباشر، والنقل الأمين لذاك الواقع فهو قد اختار فسحة الترميز والتعمية لبلوغ لحظة شعرية في الصورة، لحظة تلامس المخيلة قبل الواقع فتصبح ملهمة للمعاني.

في الأغلب الأعم يأتي استخدام وصف القصيدة/الشعر في عالم التصوير من باب الإطراء وإضفاء قيمة أخرى للعمل الفني. فالمراد تجميل الصورة الفوتوغرافية من خلال وصلها بواحد من أكثر الفنون جاذبية وحضوراً ضمن الثقافة الإنسانية، لكن هذا وحده لا يكفي لفهم هذا الاندفاع ناحية إيجاد حالة من التشابك بين الشعر والصورة، وليس ذلك الغرض الوحيد الذي تصاغ لأجله العلاقة بينهما. ثمة ما هو أوغل عمقاً من أشكال التداخل والتشابك بين هذين الفنيين، ما يمكن أن يحسب على اتجاهات ما بعد الحداثة التي تشاغلت بهذا التداخل بين الفنون على نحو العموم، وسعت إلى إيجاد علاقة جدلية وتفاعلية بين مختلف الإنجازات الإبداعية من الشعر إلى القصة فالمسرح والتشكيل والتصوير وهكذا..

في العالم العربي تبدو تجربة «المستحيل الأزرق» التي جمعت بين نصوص الشاعر قاسم حداد والمصور الراحل صالح العزاز الأكثر شهرة على مستوى تجارب المزاوجة بين الشعر والصورة، فيها يقدم قاسم نصوصاً مصاحبة لصور منتقاة من مجموعة الراحل العزاز، يقترب بلغته الشعرية من موضوعاتها، وإشاراتها، ويحاول أن يرهف السمع لما بها من تدفقات جمالية.
يتبدى الإصدار كامتحان للشعر أكثر منه للصورة. فالصورة تختال بحضورها التام مستقلة عن شروط الشعر، فيما يجهد الشعر هنا لملاحقة الصورة، والتحايل على شروطها لإنتاج قصيدة لا تدعي انقطاعها عن الصورة إلا أنها تلمح إلى قدرتها على الـتأثير فيها عبر استحضار صور ومعان خبيئة تارة، وعبر استعارات تتحدى صرامة الواقعية في بناء الأشياء داخل الصورة تارة أخرى.

أكثر من ثمانين صورة يحفل بها الإصدار، راوحت بين رصد حياة الصحراء، والطبيعة بنحو عام، وبين تضاريس القرى القديمة، ووجوه الأطفال والكهول. وسنحاول أن نعرض لعدد من اللوحات المقدمة ضمن الإصدار، وأن نفتش في داخلها عن الرابطة والأثر الناشئ عن لحظة التواصل.

هذه المجموعة من الصور والتي اقتصرنا فيها على موضوعة الصحراء يمكن أن تعطي انطباعاً عاماً عن المجموعة، فهناك ما يشبه المراوحة بين الانضباط ضمن حدود الصورة والخروج عليها، ما بين الركون إلى جاذبيات الظاهر من الصورة والافتراق عن مفرداتها وإيحاءاتها، ليس ثمة وتيرة واحدة ولا إيقاع مستقر لشكل العلاقة، الأمر الذي يدفع للسؤال أحياناً عن قيمة النص وجودته، ولعل إعمال التحليل والنقد لاكتشاف الفارق الجمالي والثقافي في التعاطي مع ثيمة الصحراء بين العزاز والحداد، أقول لعله يحمل لنا اكتشافات تفيدنا في تحديد المسافة بين النص والصورة. فالعزاز يبحث عن ذاته عبر فوتوغرافيا الأماكن الأثيرة عنده وهو القادم من تلك البيئة المتشاكلة مع الصحراء، فيما الحداد يحيط الأزرق بكل فصول ذكرياته ولا يملك حرارة الذاكرة التي تحرضه للتعالق بالنحو نفسه مع ثيمة الصحراء.

العزاز الذي بدت لمساته الفنية واضحة على الصور كانت له مساحته أيضاً للحديث عن تفاصيل اللحظات المرصودة. في مقدمة الإصدار يكتب لنا تواريخ الصور وأماكنها، مع شيء من مرئياته عنها، شيء يقترب من وصف حوافز التصوير ورغباته عنده، ولا نعلم إن كان قاسم قد أفاد في ذلك خلال كتابته للنصوص، خصوصاً أن بعض نصوصه قد تشابك كثيراً مع نص العزاز من حيث المحتوى والاتجاه.

والسؤال الذي لا زال مفتوحاً: ما الذي استفزته الصورة في البناء الشعري عند قاسم؟ ما هو المعادل الجمالي الذي ابتكره في النص الشعري للتواصل مع الصورة؟ قاسم الذي عرفناه من خلال الإيقاع المختلف في بناء الجملة، جمله الشعرية القصيرة جداً، محطاته الكثيرة التي تحصنت فيها القصيدة بالغموض، هل كان فعلاً متحرراً من قصدية المصور؟ من حدود إطار الصورة؟

أظن أن مقاربة أخرى أوسع وأعمق يمكن أن تأخذنا إلى اكتشافات حقيقية في إشكالات التواصل من جهة، وإشكالات التأويل، تأويل المصور لموضوعاته، وتأويل الشاعر للصورة، وتأويل القارئ للاثنين معاً في لحظة المشاهدة، فالصورة أقرب للنظر من النص عادة، هي الأسبق في اختيار القارئ، وهذا يفرض شروطاً على النص حتى قبل مطالعته.
عطش الرمل
هذه الصورة تظهر لقطة من أعلى لصنبور ماء، وتبدو الصورة التي اتخذت من الرمل الأحمر خلفية لها تحمل مفارقة بجمعها بين الماء والصحراء، بين سخاء الماء وعطش الرمل في الصورة، حيث نطالع بقايا عيدان صغيرة متيبسة. سعى المصور إلى تحويل أنظارنا عن الأصل باتجاه الظل عبر التركيز على ظل الصنبور بدلاً من الصنبور ذاته، ضمن تقسيم جمالي لمساحة الظل والضوء في صورة العزاز.

هنا يقدم لنا الحداد مناجاته للصنبور الذي وصفه بحارس الماء، ليسأله عن ماذا قرأ من الرمل، ويستدعي بعض تلك الصور والدلالات المحتملة التي كنا قد اقتربنا منها بمجرد مطالعة الصورة عبر شكايته من جفاف الينابيع في القرى. وهنا يحاول أن يتورط في لغة موغلة في التوصيفية حين يؤكد طبيعة الصنبور بالقول أيها الحارس المعدني، وتستمر معه لغة الاستعارة: الماء النحيل، غفلة الأرض، حارس الماء.
في عمق الصحراء
في صورة أخرى يكتب حداد نصاً يبدأ بالسؤال: من يسأل الرمل؟

الصورة تظهر بناءً متهالكاً من الطين في عمق الصحراء، ينغمس جانب منه في الرمل، فيما يقاوم الجزء المتبقي كل تصاريف الزمان والمكان، لا يحيط به شيء سوى تلك الحبيبات التي لا يصعب على الريح تحريكها، والسماء باهتة اللون هي جزء من هذا الفراغ المتمادي في الضياع.
ما يصنعه الحداد في نصه المرافق هو استدعاء تلك الصور التي تختزنها الذاكرة عن الرمل والصحراء، ويبدأ بالتهكم على سيرة الرمل الطائش الذي يستحيل زجاجاً لأنه «لا يتعظ»، الرمل الذي يقول حداد إنه لا يصغي لمفسري أحزانه. وكما نرى هنالك تصعيد للحوارية مع الرمل كثيمة أساس، وتصعيد لصور التشبيه. فالرمل في الصورة كالغزاة حين يحتل البيت… فيما باقي المفردات: الوحشة والفراغ وما يتصل بالصحراء كالعطش تشابه مجموعة الصور الذهنية التي خلصنا إليها قبل مطالعة النص، الصور التي حركتها الصورة في الذهن بتكوينها وألوانها.

وفيما نلاحظ من هذين النصين أن هناك شهوة توصيفية «نزعة حسية» إلى جانب شهوة أخرى تأويلية تتحكم في اتجاه الكتابة.
بقايا زرقة
صورة ثالثة تظهر فيها امرأتان تتدثران بالسواد وتنظران إلى البعيد، إلى مساحة رملية مشبعة بالاخضرار، وأفق أزرق بعيد تظهر الصورة جزءاً يسيراً من بقايا زرقته، ورغم الشعور الأولي بالوحشة والوحدة لوجود هاتين المرأتين في هامش صغير من صحراء الصورة، إلا أن مفردات الصورة تدفع إلى إضفاء حسن احتفالي بالطبيعة، إلى التغزل بألوان دافقة بالحياة وبنضارتها.
حداد من جانبه اختار أن يستعير عنوان الوحدة بداية كمدخل للنص المرافق حيث يقول:
لسنا وحيدتين بما يكفي
سوادنا يفضح أكثر مما يستر

لا يذهب الشاعر بعيداً عن الصورة في بناء النص، فهو يحاول إعادة بناء الصورة عبر مجازات اللغة. فالأخضر المتناثر في ثنايا الصحراء يصبح «السراب الأخضر»، وهو برأيه عنوان للشفاء والشفافية أو الظهور، وهنا يذكرنا بالطبيعة وفعلها في الحياة، حين يقول:
وفي الطبيعة من العناصر ما يكفي
ويمنح الكائنات أسماءها الأولى.
ظل عابر على الرمل
صورة بالأبيض والأسود لظل شخص عابر، يقطع الطريق فوق رمال الصحراء، ظل ممتد من الزاوية إلى الأخرى، تضاريس الرياح وآثارها على الرمل بارزة بوضوح ضمن تعرجات تتحرك بنحو قطري.

حارس الرمل كالرمل، يقول حداد في نصه المقتضب الذي لن يجاوز وصف مفردات الصورة: الريح، الرمل، المشي، التعب:
تجتازه الريح
يقرأنا في كتاب الهواء
فيمحو.. وينسى
الرؤية ذاتها تتكرر مع الصورة التي تليها حيث يتحدث حداد عن دفتر التيه والضياع وقراءة الرمل، الصورة هي بمنزلة لقطة مقربة جداً لتضاريس الرمل وخطوط الظل والضوء فيها.
آثار العبور
صورة رابعة ضمن موضوعة الصحراء نرى فيها امرأة وطفلين في الطرف الأقصى من الصورة، يتلهون بالمشي على الرمل الذي يحفل بآثار عبور السيارات، ومثلها الكثير من خطوات البشر، خطوات غير منتظمة في دلالة على كثرة العابرين وتداخل خطواتهم…

هذه الآثار هي ما استثار حداد في نصه المرافق، آثار وصمها بالوشم حين قال: والأرض موشومة بالأثر، متسائلاً عن البشر الذين كانوا هناك، الذين مروا على صفحة الرمل، عن الوقت الذي ترجل عن هناك، ويقول:
عربات من الوقت كانت هنا ورحالة ومكتشفون
يقيمون ميزانهم بالحجر
لكم هذه الأرض
أين البشر

أضف تعليق

التعليقات