طاقة واقتصاد

الفساد بين التمكين والمساءلة

  • Corruption4
  • 200288299-001
  • Corruption3

يبزغ عهد جديد لمكافحة الفساد في العالم والمنطقة العربية، وهو محصلة لتراكمات معرفية ومعلوماتية، ووعي شعبي بالحقوق، ما يعني تعزيز دولة القانون والمؤسسات ومضاعفة الرقابة والمساءلة والمحاسبة، ولهذا تبادر الدول لإيجاد منظمات للرقابة والشفافية ومتابعة الفساد ومحاربته، لقناعتها الأكيدة بأن ذلك يعني سيادة معايير العدالة للجميع بلا استثناء، ولهذا ولجت بعض الدول العربية هذا الباب لصيانة المال العام وتعزيز مسيرة التنمية.

القضاء على الفساد ليس قراراً يتخذ فحسب، ولكنه منظومة من الأعمال والإصلاحات وإعادة بناء لأنظمة المجتمعات والدول التعليمية والاجتماعية والإدارية والوطنية

محاربة الفساد ليست بالمسألة الآنية، ففي أواخر القرن العشرين بدأت بالظهور والتشكل مؤسسات دولية تهتم بمسألة الفساد الاقتصادي على المستوى العالمي، ولعل من أبرزها مؤسسة «الشفافية الدولية» التي تقوم بإعداد التقارير الدورية عن حالة الفساد في العالم، والسبب في تشكل هذه المؤسسات الدولية هو فشل البرامج المالية التي وضعتها المؤسسات الدولية المالية لمساعدة الدول ذات الاقتصاد المرتبك، حيث ينهي هذا الفساد أهداف برامج المساعدة.

وبحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2010، فإن حالة الفساد باتت أكثر انتشاراً على الساحة العالمية، وباتت بعض المجتمعات أكثر فساداً عما كانت عليه. وذكر تقرير المنظمة أن 56 في المئة ممن استطلعت آراؤهم يرون بلدانهم باتت أكثر فساداً. ووضعت المنظمة أفغانستان ونيجيريا والعراق والهند في قائمة أكثر الدول فساداً، تليها باكستان وأذربيجان وأوكرانيا وفيتنام.
وفي سياق متصل لبحث تفشي ظاهرة الفساد عالمياً ذكر تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) أن العالم أصبح يتحدث أكثر عن هذه المشكلة. فقد ذكر واحد من كل 5 استطلعت (BBC) آراءهم، أنه تحدث عن المشكلة مع آخرين، لتصبح بذلك أول مشكلة يجري التحدث عنها قبل التغير المناخي، والفقر، والبطالة، وارتفاع أسعار الغذاء.

وينحى المحللون باللائمة على الأزمة الاقتصادية العالمية في ارتفاع معدلات الرشا، وتراجع ثقة الناس بعدد من الحكومات والبنوك والمؤسسات المالية. وشملت استطلاعات المنظمة 90 ألف شخص في 86 بلداً. أما استطلاع «بي بي سي» فشمل 13 ألف شخص في 26 بلداً. ومن بين الأسئلة التي وجهت لمن شملهم الاستطلاع: ما أكثر القضايا خطورة؟ وجاء الفساد ثاني أخطر قضية بعد الفقر.

وحسب الخبراء، فإن الفساد الاقتصادي يقوم على تحويل المنافع العامة إلى منافع خاصة، على صورة عمولات، ورشا، وتهرب ضريبي، وتهريب أموال، وتهرب من الجمارك، ونشر أسرار العقود، إلى غيرها من عشرات الحالات. وقد يمتد الفساد عمودياً الى أعلى مفصل في بعض الدول، وأفقياً ليشمل عموم قطاعات النشاط الاقتصادي. وكشفت نشرات صندوق النقد الدولي الدورية مئات من الصفقات الوهمية، والحسابات السرية لمعظم دول العالم الثالث، وبذلك يكون الفساد الاقتصادي وهدر المال العام تدميراً لكل أهداف الدول المعنية، إذ تزيد الصفقات الفاسدة من إنفاق الدولة العام بلا عوائد، يقابلها تقلص في الجباية الضريبية للسبب نفسه، ما يفاقم من أزمة الدولة المالية للسيطرة على الكتلة النقدية وحسن استخدامها، كما أن التهرب الجمركي يفسد السياسة السعرية للدولة لتسقط عملية المنافسة في مستنقع البضائع المهربة الخارجة والداخلة.

اقتصاد السوق
تشكل عملية الانتقال إلى اقتصاد السوق وتدفق الأموال لتنفيذ آلية الاقتصاد الجديد بقعة الفساد الملائمة، وحين تلجأ بعض الدول إلى تحويل المؤسسات الحكومية إلى القطاع الخاص تكون تربة الفساد مهيأة. وهذا الواقع يقودنا إلى استنتاج أن الفساد الاقتصادي ظاهرة غير محلية، بل هو ظاهرة دولية، تستدعي مناقشتها وبحثها على صعيد دولي، وتستلزم جهوداً مكثفة لمكافحتها، وربما تكون التقارير الدولية التي تصدر بشكل منظم تسهم بشكل كبير في كشف هذه الظاهرة والحد منها، فبحسب تقرير «منظمة الشفافية الدولية» عن حالة «الفساد في العالم لسنة 2010»، أظهر أن ثلاثة أرباع دول العالم تقريباً شديدة الفساد، وجاءت مؤشرات مدركات الفساد عن حالة 16 دولة عربية شملها الاستطلاع أن الصومال بالدرجة الأسوأ «التصنيف 178» أي الأخير، والعراق «التصنيف 175» واليمن «التصنيف 146» والسودان «بالتصنيف 172»، من مجموع 178 دولة.
ويتألف مؤشر مدركات الفساد وفق مقياس منظمة الشفافية الدولية «وهي منظمة غير حكومية» من «عشر درجات» ويعطي تقرير مدى تفشي الفساد في كل دولة من دول العالم مقياساً بحد أقصى «عشر درجات» للدول التي يشملها. وكلما زادت الدرجة الممنوحة لدولة ما، كان ذلك يعني ارتفاع درجة مستوى الشفافية بها، فقد نالت الدنمارك الدرجة الأولى وهي «9.3»، بينما نال العراق وهو بالمرتبة قبل الأخيرة «5.1» متقدماً على الصومال فقط.

وتبني المنظمة تقريرها على معلومات تجمعها من رجال أعمال وأكاديميين وموظفين بالقطاع العام في كل دولة من خلال تجربتهم في التعاملات اليومية. ثم تقوم المنظمة بتحليل تلك المعلومات وتلخيصها في تقرير سنوي، ولا تتطرق المنظمة إلى البحث في فساد القطاع الخاص.

وتُعَرّف المنظمة «الفساد» بأنه: «سوء استغلال الوظيفة العامة من أجل مصلحة خاصة» وهذا ينطبق على القطاعين العام والخاص، وترى المنظمة أن جزءاً كبيراً من الفساد ناتج عن غياب القوانين والقواعد المنظمة للشفافية والمساءلة وعدم نزاهة النظام. كما أن هناك أيضاً أماكن في العالم ينتشر فيها الفساد بصورة كبيرة لعدم استقرار نظامها السياسي والاجتماعي نتيجة الحروب والمشاكل الأمنية الداخلية.
ويشير بيتر آيغان مدير منظمة الشفافية الدولية إلى أن الفقر أكبر مسبب للفساد، كما أنه أقوى عامل يحول دون محاربته. وهذان العاملان يغذيان بعضهما بعضاً، بحيث يدور الفساد والفقر في حلقة محكمة يصعب الفكاك منها. ويرى أن على الدول الغنية أن تتحمل مسؤوليتها في مراقبة الفساد، ومعاقبة الشركات والهيئات التي يثبت تورطها فيه.

وربما يكون الفساد أكبر المشكلات العالمية التي تجمع المؤسسات المحلية والدولية على أنها العقبة الرئيسة أمام الإصلاح والتنمية والاستثمار الصحيح وسبباً مهماً لتنامي أعمال المخدرات والمافيات. ورغم أن معظم الحكومات والقيادات السياسية تعلن أن برنامجها هو مكافحة الفساد، فإن الفساد يظل عملياً غائباً عن برامج الحكومات والمؤسسات المختلفة، ذلك أن القضاء على الفساد ليس قراراً يتخذ فحسب، ولكنه منظومة من الأعمال والإصلاحات وإعادة بناء لأنظمة المجتمعات والدول التعليمية والاجتماعية والإدارية والوطنية.

أسباب الفساد
يعزو الخبراء أسباب الفساد المباشرة إلى أخطاء في تعيين الموظفين وضعف أنظمة المحاسبة والتحري الداخلية، وقد نشرت جامعة كاليفورنيا دراسة مهمة لروبرت كليتجارد بعنوان «السيطرة على الفساد»، جاء فيها: «إن الفساد كموضوع لم يدرس إلا قليلاً، ويتحاشى الناس ذكره ويتجنبون الخوض فيه، ويعتقدون أنه لا يمكن عمل شيء تجاهه، وهو يوجد عندما يحاول شخص وضع مصالحه الخاصة فوق المصلحة العامة أو المثل العامة التي تعهد بخدمتها على نحو غير مشروع، ويأتي على أشكال شتى، ويراوح بين الأمور التافهة والأعمال الكبيرة جداً، فهو يشمل سوء استخدام أدوات السياسات العامة وتنفيذ القوانين والعقود، وقد يكون في القطاع الخاص أو القطاع العام، وأصبح الفساد في بعض الدول مؤسسات منظمة.

ودلت دراسات أجريت في تايلند وإندونيسيا والهند وكوريا أن الحكومات تدفع ما بين 20 % و60 % زيادة على الأسعار التي ينبغي أن تدفعها، ومرد هذه الزيادة في قيمة السلع هو الفساد الذي أصبح يوضع في كلف الإنتاج والتسويق، واضطرت منظمات الغوث الدولية في دول أفريقية إلى دفع رشا كبيرة لمسؤولين كبار لأجل السماح بإيصال المعونات إلى الفقراء، ودفعت دول ثمناً باهظاً على شكل كوارث إنسانية واجتماعية واقتصادية بسبب الفساد المؤدي إلى الإهمال والتساهل في إجراءات السلامة في مبان وسدود ومشروعات اقتصادية كبيرة.

ويرى صامويل هاتنغتون، في كتابه عن التطور السياسي، أن ثمة ظروفاً وحالات ينتعش فيها الفساد الحكومي مثل النمو السريع والتحديث الذي تتعرض له بعض الدول، وذلك بسبب تغير القيم ومصادر الدخل والقوة والتوسع الحكومي، ويزيد الفساد أيضاً في الدول التي تغلب فيها المصالح التجارية الأجنبية

حجم الفساد
يقدر الخبراء أن الفساد يرتبط بالبيئة المشجعة والمخاطر المترتبة عليه، ولذلك يمكن دون معلومات ميدانية تقدير حجم الفساد إذا أمكن الإجابة عن أسئلة من قبيل: إلى أي حد تلتزم الإدارة بنظام قوي للمراقبة الداخلية؟ هل هناك نظام مناسب لكتابة التقارير بين الوحدات التنظيمية؟ ما درجة الأمانة والكفاءة لدى الموظفين؟ هل السياسات والإجراءات واضحة؟ هل السلطات محددة وموزعة بطريقة صحيحة؟ وهل إجراءات الميزانية وإعداد التقارير تطبق على نحو سليم وفعال؟ هل يترتب على المخالفات والفساد مخاطر وعقوبات معقولة؟

وتقوم كثير من الشركات وهيئات المعونة الغربية بتوجيه عقود استشارية ضخمة نحو طبقة معينة من السياسيين ورجال الأعمال والناشطين وتمرير عقود وصفقات وهبات ومنح وتوكيلات وبخاصة في مشروعات البنية التحتية والاتصالات والمعلوماتية وفي المنح والمعونات الموجهة لخلق نخبة سياسية تمرر مشروعات الخصخصة والاندماج في منظومة الثقافة الغربية وأنماط الحياة والاستهلاك.

وأشارت دراسة حديثة أجرتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية إلى أن القارة الأفريقية ما زالت تشكل أكثر المناطق فساداً في العالم. كما جاء في التقرير أن البلدان التي تعاني بيئة سياسية وأمنية مضطربة تأتي في مقدمة الدول التي تقل فيها الشفافية وينتشر فيها الفساد. ويمضي التقرير قائلاً إن بعض البلدان تواجه تحديات بناء مؤسسات متينة وشفافة مع اعتماد آليات ملائمة للمساءلة. ويرى التقرير أن بلداناً أخرى يُنظر إليها على أنها لا تزال تعاني درجة عالية من الفساد رغم أن حكوماتها تعلن محاربتها للفساد بشكل مفتوح بوصفه عائقاً رئيساً أمام جهود التنمية وقضية تعزيز النزاهة والمساءلة في القطاعات العامة والخاصة. ورأت المنظمة أن من الأسباب التي تدعو إلى القلق البالغ استمرار شبح الفساد عندما تعم حالة اللا شفافية في الممارسات العامة، وتحتاج المؤسسات إلى دعم ومساندة، وتعجز الحكومات عن تطبيق الآليات القانونية لمكافحة الفساد. وتقول المنظمة إن حتى البلدان الصناعية لا تخلو من الفساد، إذ إن ممارسات الفساد من رشا وسواها، عادة ما تنتشر في الشركات الدولية الكبرى. وكذلك، فإن أصحاب رؤوس أموال مشبوهة عادة ما يبيضونها ثم يهربونها إلى بلدان غنية بهدف توطينها هناك. ويؤدي انتشار الفساد أيضاً إلى انحسار ثقة أفراد الشعب بمؤسسات الدولة والحكومات الناشئة التي يُفترض أنها تحمي استمرار الدولة واستقرارها.

وفي هذا الصدد، أشارت المنظمة إلى أن ما بين العامين 1990 و2009، كُشف النقاب عن أكثر من 283 شركة دولية كبرى تورطت في ممارسات الفساد، ما كلف دافعي الضرائب نحو 300 مليار دولار.

هيئة سعودية لمكافحة الفساد
أصدر خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله ابن عبدالعزيز، مؤخراً، قراراً بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وتعيين الأستاذ محمد ابن عبدالله الشريف رئيساً لها بمرتبة وزير. وتشمل مهام الهيئة القطاعات الحكومية كافة، ولا يستثنى من ذلك كائن من كان، وتسند إليها مهام متابعة تنفيذ الأوامر والتعليمات الخاصة بالشأن العام، ويدخل في اختصاصها متابعة أوجه الفساد الإداري والمالي، والتنسيق مع الجهات الرقابية الأخرى فيما يخص الشأن العام ومصالح المواطنين.

أضف تعليق

التعليقات