الرحلة معا

الزمن الجميل.. ما له وما عليه

في خاتمة يوم عمل شاق وطويل، ركبت سيارتي، ربطت حزامي، وأشعلت مكيف السيارة لتتدفق على وجهي نسمات المكيف البارد.

من الراديو كانت تنبعث أغانٍ، أغانٍ قديمة، بعضها يحملني إلى أيام الصبا، حيث كانت الأحلام والرغبات تتفتح فتغرس في داخلي أولى شتلات الحب أو همسات الغرام. وبعضها ينبش في ذاكرتي وجوه الطفولة النائية. انتهت تلك المقاطع ليصلني صوت المعلق المبتهج، والمتكبّر بعض الشيء، مؤكداً بحماس أن ما أسمعه هو بعض أغاني الزمن الجميل، لكنه أسهب قليلاً في تعداد مثالب تلك الأغاني وكيف أسهمت في صناعة ذائقتنا، وكم كانت عميقة وأصيلة..!

الزمن الجميل الذي يقصده المعلق، هو الزمن الماضي، ليس البعيد تماماً، ولكنه زمن أم كلثوم وعبدالوهاب و… أو السبعة الكبار، الذين خصَّهم صديقنا د. فيكتور سحاب، بكتاب شرح فيه خصائص زمنهم وأصواتهم وما أضافوه إلى وعينا الموسيقي وذاكرتنا.
لطالما توقفت أمام هذه الفكرة الأزلية في عقل كل عربي، الماضي أولاً ثم الحاضر، وربما المستقبل لاحقاً. الإبداع والأصالة يكمنان في ذلك الزمن الماضي. هناك فقط صنعنا إرثاً عظيماً يستحق البقاء والاحترام، أما اليوم، فإنجازنا قليل، لا يجدر بأحد الاعتراف به، وما يسطره الجيل راهناً من أدب وفنون وأبحاث وكتابات في المجتمع والتاريخ والفكر والنقد لا يعتد بها كثيراً، بل إن هذا الجيل يخطئ حين يتجاسر ليحلل أو ينتقد ما وصلنا من معطيات ذلك الزمن الجميل!

التعلق بالماضي واحترامه ليسا وقفاً علينا كشعوب عربية، فالشعوب الأخرى تمجد، أيضاً، ماضيها ورموزها، بل وتستقي العبر والدروس من إنجازاتهم ومن المعضلات التي وقفت في طريقهم، بل وإعادة قراءة تاريخهم في ضوء المناهج وأدوات البحث المعاصرة. الماضي بالنسبة إليهم لا يتلبس ثوب القداسة، لذا فإنه جدير بالملاحظة والنقد، وحتى تلك النظريات التي اخترعت يمكن نقضها وإحلال نظريات جديدة محلها دون أن يطعن أحد في جهود أقطاب تلك النظريات.

ونحن إذا ما واصلنا ولعنا بذلك الزمن الماضي الجميل، دون أن نقدِّر الحياة المعاصرة وغناها، فإننا نتَّهم ضمنياً الجيل الجديد الذي يعيش بيننا بأن سعيه وإنجازاته في الحقول الحياتية المختلفة هي مثار شك، وأنها لا ترقى إلى ما صنعته الأجيال السابقة.

إن إحدى المشكلات التي تسكن العلاقة بين جيلين تكمن في عدم الاعتراف بحق الآخر في أن يكون كامل الكينونة والإرادة. ورغم أن جيل الآباء اليوم، في أغلبه، جيل متعلم وأكاديمي، إلا أن عقلية الأب المستبد، الذي يحمل كل السلطات فوق كتفيه ويشكِّل من خلالها وعي أبنائه وبناته وعقولهم هي السائدة، وهي عقلية تعصب فردي يشرحها ناصيف نصار في كتابه: «أضواء على التعصب» بأنها تعني احتكار الرأي، بحيث لا تلعب المناقشة سوى وظيفة الإثبات أو التعزيز، كما تعني الاختزال والتبسيط من خلال مجموعة من الأفكار تدعي طابع اليقين، إضافة إلى أنها تُغلِّب البعد العاطفي على البعد العقلاني من خلال غلبة الاعتناق على الاقتناع، وأخيراً فرض الرأي بالإرغام والقهر. مثل هذه النزعات، أو صراع الإرادات داخل الأسر، قادت شريحة من شبابنا إلى مسالك سلبية عادت على مجتمعنا بأشد الخسائر.

أول تلك المسالك هو مسلك الجماعات الإرهابية، فمن خلال هذا المسلك العنفي كان الشاب المتمرد على مجتمعه الصغير يبحث عن فضاء حر يستوعب طاقته الكامنة. وقد كان لافتاً في الحوارات التي كانت تجري مع أهالي بعض تلك العناصر أن قطيعة عائلية واجتماعية قد حدثت مع أولئك الأبناء قبل أن يتوجهوا للالتحاق بإحدى تلك الجماعات.

أما ثانيها فهو الدخول إلى أرض الأمراض النفسية بما تحمله من وساوس وكآبة وانفصام أو اضطرابات تحجب قدرات الشباب شيئاً فشيئاً فتعطّلها عن أن تكون عناصر بناءة وفاعلة في تشييد مجتمعها.

وثالثها هو مسلك التغييب عبر المخدرات وعقاقير الهلوسة استخداماً أو تهريباً، وهو مسلك تدمير اجتماعي للذات والمجتمع معاً.

وإجمالاً، فلن تخلو المجتمعات البشرية من علاقات الصراع والتعاون، فهما كما يعبِّر د.علي الوردي في كتابة «مهزلة العقل البشري» دعامتا الاجتماع البشري، وقد اتضح لدى علماء النفس أن الحب والبغض متلازمان في النفس كتلازم التعاون والتنازع في المجتمع، بل إن حافز التنازع قد ينشأ داخل العائلة الواحدة، التي طالما عدّت نموذجاً للتآخي بين الأفراد فيهدّد جدرانها الراسخة. وقد سبقنا ابن خلدون إلى القول: إن التنازع عنصر أساس من عناصر الطبيعة البشرية، فكل إنسان يحب الرئاسة، وهو لا يتردد عن التنافس في سبيلها إذا وجد في نفسه القدرة على ذلك.

إذًا فإننا بحاجة إلى اعتراف حقيقي وعملي بما يفكر فيه ويصنعه هذا الجيل. علينا بالطبع واجب توجيهه، ولكن بعد الاعتراف بخياراته، وأن نشجعه على العيش في زمنه الحاضر لا في زمننا الذي تجاوزه العالم، وأن نسانده حين تكون له آراؤه النقدية والمضادة تجاه ما عشناه وأنجزناه. هذا العقل الحر والمفتوح على ما يصطخب في الحياة المعاصرة من حولنا هو ما يجب أن نعززه لديهم. علينا أن نبيِّن لهم أن الفضاء المعرفي الذي يسبحون فيه هو ثمرة عظيمة للتطور الإنساني، وأنه يحمل من الفوائد ما لم يحلم به أي جيل سبقه. لقد كانت تفصلنا السنوات والشهور لاستثمار أي تطور علمي وتقني وطبي ومعرفي يحققه العالم، في حين لا يفصلنا عنه اليوم سوى زر صغير.

إن احترام اللحظة الحاضرة، والإشادة بقدرات جيلنا المعاصر لا يتصادمان مع احتفائنا بفنون الزمن الجميل، بأشعاره، وحكاياته، وأغانيه، بمدارسه ورموزه وتياراته الفكرية والأدبية، بصراعاته وتضحياته.

نحبّ ذلك الزمن الذاهب، لكننا، أيضاً، نعشق ما يسطره الجيل الجديد على لوح حياتنا الحاضرة.

أضف تعليق

التعليقات