من بين الأراضي الزراعية التي يجتمع فيها الشجر والماء والزهر والثمر، هناك صيغة فريدة تختلف عن غيرها: البستان
فللبستان سمات خاصة وغامضة تجعله مختلفاً عن الحديقة وعن المزرعة، فهو صاحب شخصية لا نجدها إلا في الشرق، من ساحل المتوسط وحتى آسيا الوسطى؛ حيث يشكِّل العنوان الثابت والدائم للخير وهناء الحياة اليومية مع كل ما يمكن أن ينعكس من ذلك على الثقافة والفنون والآداب.
واستكشاف ملامح هذه الشخصية ودورها في تاريخ حياتنا وثقافتنا ماضياً وحاضراً، هو ما يسعى فريق التحرير إلى استكشافه ما بين الأشجار المثمرة والزهور الفطرية، بالقرب من الماء، وتحت الأغصان.
البستان في المخيلة الشرقية
البستان في المخيلة الشرقية
للبستان في المخيلة الشرقية ملامح مرسومة. وبمجرد سماع كلمة بستان ، تظهر أمام الإنسان الشرقي صورة لمساحة أرض صغيرة متنوعة الأشجار، يتجاذبها النسيم والنور. وأول شجرة يقع عليها النظر ربما تكون شجرة البرتقال، فإذا التفتَّ يساراً ترى شجرة التفاح. بعدها شجرة تين. ثم إلى الطرف الأيمن عريشة عنب. وهناك شجرة صغيرة لم تكبر بعد، وخلفك شجرة صفصاف لم تلاحظها.. عالية كبيرة، تلقي بظلها على مقربةٍ منك. وإذا استوطنت مساحة الظل ستجد بعض شتلات الورود المرتفعة، وزهوراً صفراء صغيرة.
البستان في المخيلة الشرقية ليس مكاناً منجَزاً. وليس مكاناً مهندساً. بل هو حيز على شيء من غير التحديد، فيه اختيار زارع محب لشجرة ما، في موسمٍ ما. زرعها ونسيها.. فاستقبلته وقد نمت، وأنشأت علاقة بالأشجار الأخرى التي سبقتها من دون تخطيط معروف، وأثمرت بعد حين. إنه ليس مكاناً كل شيء فيه محسوب أو مرسوم، بل أقرب إلى مكان تكونت معالمه الشجرية مع الوقت. تارةً بالرغبة، وتارة بالصدفة. وإن وجدت خريطته النهائية، فهي في الخيال، ليس من السهولة أن تعود إليها وفي يدك مسطرة قياس عادية. وقياسه الوحيد هو صاحبه واختياراته الحميمة. هذا لا يعني أن مساحات توزع أشجاره ليس لها قياس، لكنه قياس محسوب بالحس. وربما يكتشف الدارس المدقق أن حساباته لها نسب خاصة وإن كانت لا تتطابق مع الحسابات البسيطة. بل ربما يكتشف أنها عاصية على الحساب البسيط، وحسابها أعمق وأقرب إلى منهج حسابي آخر موجود في النسب الطبيعية التي هي المرجع الأصلي لهذا الكائن.. الطبيعي .
الخير والراحة والحب
البستان ليس حديقة، تنتظم فيها الأشجار والزهور في صفوف متراصة. ليس حديقة أوروبية يجتاز ممراتها المستقيمة أحد أصحاب الشأن، مستعرضاً متباهياً. الإنسان الشرقي يحب البستان ويحب في البستان. البستان يستحوذ على مشاعره، يمتِّعه. يؤثِّر فيه، ويثير مخيلته. متعةٌ للنظر، متعةٌ للروح، مسرحٌ للخيال وامتدادٌ للتأمل.
البستان الشرقي الذي قد يخبئه سورٌ عال، حين تدخله إنما تدخل حرماً. حرمٌ شرعته يضعها القلب لا العقل. وللبستان عندنا مكانة عالية، تشعر أمامها بفرحة يخالجها الخشوع. ومن يجلس في البستان، إنما يشعر أنه يجلس بجسمه وبروحه معاً. في البستان يتواضع الإنسان. فيه يفرح سواء كان أميراً أو قاضياً أو شاعراً أو تاجراً كبيراً. يقطف ثمرة أو زهرة صغيرة، يحدِّث من حوله بفرح طفولي، ناسياً الفوارق والطبقات. يفترش العشب، وينظر بإعجاب إلى كل شجرة وزهرة على حدة. يغمض عينيه ليسمع أصوات ورق الشجر، وخرير المياه، وتغريد عصفور بعيد. يتصرف بتواضع. ولكن تصرفاته في البستان تختلف. إذ إنه في البستان لا يتواضع، بل هو يزيل عن كاهله عبء المكانة. ليس حباً في التواضع، بل رغبةً في التحرر من المنصب كي يستمتع بالبستان بحرية الإنسان غير المقيد بشيء.
وفرحة الناس بفاكهة البستان هي تعبيرٌ عن فرحةٍ بشكلها وبلونها وبعطرها.. أكثر مما هي فرحة تصدر عن رغبة في أكلها. إنها احتفاء بالتنوع والوفرة والخير. لا فرق فيها بين فاكهة وزهر وطير. وحتى حين تعد للأكل، فأكلها يكون تتمة للاحتفاء بها، متوجاً بمذاقها! البستان الشرقي ليس حيزاً مخططاً له. إنه في شكله المثالي حيزٌ متغيرٌ دائماً، اجتمعت مكوناته فيه عبر مراحل مختلفة. ليست له دائماً بداية من صفر، ونهاية من مئة. يضاف إليه، وقد يزال منه للاقتراب إلى صورة موجودة في الشعور والخيال، أكثر مما هي موجودة في خريطة مرسومة ومتسقة.
للطير والزهر والثمر
ولا يذكر البستان إلا ويتبع ذلك التأكيد على تنوع الثمار والزهور والطيور فيه. فهذه لازمة لا تفارق ذكر البستان الشرقي. فالوفرة والتنوع تأتي دائماً مصاحبة للحماسة في وصفه. وربما تكون صورة البستان التي تتكرر في ألف ليلة وليلة من أكثر الصور الحسية تعبيراً عن البستان في الرؤية الشرقية:
… فدخلوا البستان فإذا هو بستان بابه مقنطر عليه كروم، وأعنابه مختلفة الألوان. الأحمر كأنه ياقوت، والأسود كأنه أبنوس، فدخلوا تحت عريشة، فوجدوا فيه الأثمار صنوان، والأطيار تغرِّد بالألحان على الأغصان، والهزار يترنم، والقمري ملأ بصوته المكان، والشحرور كأنه في تغريده، إنسان، والأثمار قد أينعت أثمارها من كل مأكول، ومن كل فاكهة زوجان. والمشمش ما بين كافوري ولوزي ومشمش خراسان، والبرقوق كأنه لون الحسان، والقراصية تذهل عقل كل إنسان، والتين ما بين أحمر وأبيض وأخضر من أحسن الألوان، والزهر كأنه اللؤلؤ والمرجان، والورد يفضح بحمرة خدود الحسان، والبنفسج كأنه الكبريت دنا من النيران، والآس والمنتور والخزامى مع شقائق النعمان، وتكالمت تلك الأوراق بمدامع الغمام. وضحك ثغر الأقحوان، وصار النرجس ناظراً إلى ورد بعيون السودان، والأترج كأنه أكواب، والليمون كبنادق من ذهب، وفرشت الأرض بالزهر من سائر الألوان، وأقبل الربيع فأشرق ببهجته المكان، والنهر في خرير والطير في هدير والريح في صفير، والطقس في اعتدال والنسيم في اعتلال… .
وكلما تكاثرت أنواع الفاكهة والزهور والطيور، حضر البستان ببهائه الكامل، الذي يزداد كمالاً بالمياه الجارية في البرك والنوافير والممرات المائية والسواقي. كما يظهر ذلك في مقطع آخر من ألف ليلة وليلة، جاء فيه:
قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن أولاد التجار لما دخلوا البستان، رأوا فيه كل ما تشتهي الشفة واللسان، ووجدوا العنب مختلف الألوان صنواناً وغير صنوان.. ثم انتهوا إلى عريشة البستان، فرأوا رضوان بواب البستان جالساً في تلك العريشة كأنه رضوان خازن الجنان… وفي ذلك البستان فواكه ذات أفنان، وأطيار من جميع الأصناف والألوان مثل فاخت وبلبل وكيروان وقماري وحمام يغرد على الأغصان، وأنهار بها الماء الجاري، وقد راقت تلك المجاري بأزهارها وأثمار ذات لذات. وفيه تفاح سكري ومسكي يدهش الناظر، ومشمش لوزي وكافور وجيلاني وعنابي. وفيه برقوق وقراصيا وعناب تشفي السقيم من الأوصاب والتين فوق أغصانه أحمر وأخضر يحير العقول والنواظر. وفيه من الكمثري الطوري والحلبي والرومي ماهو مختلف الألوان صنوان وغير صنوان… .
البستان اليوم.. لم يتغير كثيراً
انتهى عالم ألف ليلة وعصرها، ولكن البستان الذي تغنَّت به شهرزاد لا يزال ينبض بالحياة، وما زال يحتفظ بشخصيته القديمة نفسها التي عجزت هندسة الحدائق عن طمسها، وبمكانته نفسها عند صاحبه وكل من يجول فيه.
فلو دخلنا أي بستان من آلاف البساتين في بلاد الشام مثلاً، للاحظنا فوراً أننا في مكان يقترب بشخصيته مما ورد سابقاً عن صورة البستان في المخيلة الشرقية، أكثر بكثير مما هو على صلة بأية حديقة منزلية نعرفها أو بأية أرض زراعية أخرى.
فما زالت الأشجار المثمرة تشكِّل قوام البستان. وإن استدعت الدوافع التجارية طغيان نوع واحد من الأشجار المثمرة على باقي الأنواع، فمن شبه المؤكد أن هذا الطغيان لا يلغي بالكامل مبدأ التنوع الذي يبقى أقوى من جاذبية التجارة.
ففي بساتين الزيتون مثلاً، لا بد وأن تحضر بضعة أشجار تين، وبضعة أشجار رمَّان تزرع على حافة المدرجات التي لا تصلح للزيتون، وعند حدود البستان يمكن أن تعلو شجرة سنديان تسلقتها عريشة عنب. أما السور الذي قد يكون حجرياً، أو من الأسلاك الشائكة، فيزرع عنده الورد الجوري الصالح للتقطير، أو تتسلقه شجيرات التوت البري.
ومن الذي زرع هذا البستان؟
بخلاف الحدائق، تبدو هذه البساتين قديمة جداً، وكأنها كانت دائماً موجودة في مكانها. قد تشير الشجيرات الصغيرة إلى أن صاحب البستان الحالي قد زرعها، بعد أن انقضى عمر الأشجار التي كانت في موضعها. فهل هي من النوع نفسه؟ وماذا عن الأشجار المعمرة التي زرعت قبل عشرات ومئات السنين ولا تزال خضراء باسقة؟
معظم البساتين في الأرياف تنتقل من أب إلى ابن، وتشكِّل في الواقع أغلى ما يمكن أن يتضمنه ميراث عائلة. وتزداد مكانة هذا الميراث إذا كان صاحب البستان هو نفسه فلاحه ومزارعه. إذ تصل عندها العلاقة ما بين صاحب البستان وكل زاوية وشجرة فيه إلى درجة من الحميمية، تجعلها في منزلة البيت وأفراد العائلة. وكم من حكاية شعبية متوارثة في هذه الأرياف تتحدث عن مآسٍ حلَّت بأناس تخلوا عن بساتينهم أو تنكروا لها، أو تصارعوا على امتلاكها.
بعض الاختلافات
وربما بسبب تفتت الملكيات الزراعية الكبيرة إلى مساحات صغيرة، بات أصحابها من متوسطي الحال وليسوا من علية القوم، لم تعد البساتين تحيط بالقصور والدور الكبيرة وتشكِّل امتداداً لها. بل تراها تنتشر في الأرياف، وغالباً ما تكون منفصلة عن بيوت أصحابها. وفي هذه الحالات، غالباً ما يضم البستان غرفة حجرية متواضعة تستخدم لتوضيب المعدات الزراعية. وغالباً ما نجد وسط هذه المعدات أرجوحة، يطيب لصاحب البستان أن يعلقها ما بين جذعي شجرتين، ليقضي فيها قيلولته، أو يستقبل بها زوَّاره. فشخصية البستان المرحبَّة، المريحة، المطمئنة، الهادئة، لا تزال هي نفسها. والبستان الذي يمتلكه اليوم مزارع أو قروي متوسط الحال، ليس أقل بهاءً من بساتين علية القوم.
بين النبع والساقية
بعض البساتين لا يزال يقوم حول نبع ماء. ولكن بساتين كثيرة قامت في أوقات مختلفة بعيداً عن الينابيع. وإذا كان وجود النبع يكاد يضاعف أهمية البستان في كل شيء بدءاً ببهائه وصولاً إلى قيمته، فإن البساتين المتوسطية التي تحتاج إلى الري خلال أشهر الصيف، تدبرت أمرها، وبطريقة لا تقل شاعرية وجمالاً عن شاعرية النبع وجماله: الساقية.
والساقية هي خندق لا يزيد عرضه على 40 سنتيمتراً وعمقه على 20 سنتيمتراً، ينطلق من النبع الأغزر في المنطقة ويتعرج حول بساتينها. وفي أيام الصيف الحارة، عندما يحتاج بستان ما إلى الري، تطلق المياه في الساقية من النبع، وعندما تصل إلى البستان، توجه إلى داخله بواسطة سد حصوي وترابي صغير، وهناك تتلوى الساقية لتعرج على كل الأشجار. ومن عاش تجربة الري بالساقية، لا بد وأن تبقى في ذاكرته إلى الأبد، صورة ذلك الجدول الذي يصل أولاً موحلاً بعض الشيء، ومن ثم يصفو ماؤه الذي لا يعكره إلا لعب الأطفال والأولاد المبتهجين بهذا النهر الصغير الذي لا يرونه إلا لأوقات محدودة خلال الصيف.
التنوع لا يزال حاضراً
التنوع الذي تغنَّت به شهرزاد في حديثها عن محاسن بستانها الأسطوري، لا يزال حاضراً في البساتين الشرقية اليوم، ويشكِّل سمة من سماتها الأساسية.
نقول البساتين الشرقية، لأن الغايات التجارية جنحت ببساتين بعض البلدان عمَّا كان يميزها من تنوع. فبساتين الزيتون في إسبانيا تنتشر لأميال وأميال ولا تحوي غير شجر الزيتون المزروع في صفوف منتظمة. الأمر نفسه ينطبق على كروم العنب في فرنسا. أما في شرق المتوسط والمشرق العربي عموماً، فما زال البستان بستاناً، ليس بتنوع أشجاره المثمرة ومجاورتها لبعض الأشجار غير المثمرة، بل أيضاً في اتساعه للعديد من ألوان الحياة الفطرية واحتوائه عليها. فتحت الأشجار المثمرة تنبت عشرات الأنواع من الأعشاب والزهور البرية، التي يطغى حضور بعضها على البعض الآخر حسب المواسم: شقائق النعمان، الريحان، الخبيزة، الحميضة.. وغير ذلك الكثير. وما بين أغصان الأشجار الباسقة تبني الطيور أعشاشها. ولا شيء يمنع أن يخبِّئ العشب اليابس صيفاً، واحدة من الأفاعي أو السحالي التي تستوطن الحفافي الحجرية.
فبمثل هذا التنوع، يحتل البستان مكانه الوسطي ما بين الحديقة المنزلية، والطبيعة الفطرية، جامعاً في الوقت نفسه محاسن الاثنين، متفوقاً عليهما، بشخصيته المستقلة والفريدة.
اسم البستان
وكل شخصية مستقلة وفريدة تستحق اسماً. ولكل بستان تقريباً اسم علم يميزه عن البساتين المجاورة. ولا يلعب طغيان نوع من الأشجار المثمرة في بستان معين أي دور في إعطائه اسمه. فلا نجد بستاناً اسمه بستان الليمون، أو بستان التفاح وإن كان هو فعلاً كذلك. فالبستان يستحق أكثر من ذلك.
بعض البساتين يحمل اسم صاحبه، وغالباً ما يكون اسم أحد أصحابه قديماً، فنجد بستان أبو أحمد، أو بستان سعاد، إذ لا فرق في أن يكون صاحبه رجلاً أم امرأة.. وقد يعود اسم البستان إلى حادثة معينة جرت فيه مثل المشنوق لأنه حصل قبل قرنين من الزمن أن عُثر فيه على رجل مشنوق! أو بستان العروس ، لأنه دُفع قبل قرن ونصف مهراً لعروس.. ويبقى اسم البستان نفسه من جيل إلى جيل، ولا يتغير إلا بوقوع واقعة أهم من السابقة التي أعطته اسمه. ولكننا لو سألنا الكثيرين اليوم عمَّا إذا كانوا قد شهدوا في حياتهم تغيير اسم بستان أو إطلاق اسم جديد على بستان جديد، لم نجد أحداً منهم يذكر شيئاً من هذا القبيل. وكأن كل البساتين المعروفة تحمل أسماءها الحالية منذ غابر الأزمان.
بستان يدخل في البيت
وبيت يخرج إلى البستان
صدر في لندن عام 2004م كتاب روبرت إيروين الحمراء ، عن القصر الذي شيِّد في جوار غرناطة، في العصر العربي في الأندلس. وقد اقتطعت القافلة من هذا الكتاب مقتطفات عن الجنائن والماء الجاري في القصر، وبعض ما أحاط بها من قضايا، على ما يوضح مفاهيم العرب حيال البستان ووظيفته في العمارة وتنظيم العمران وحياة الناس.
يقوم قصر الحمراء على نتوء صخري في جبال سييرا نيفادا الأندلسية، وقد وصف ابن بطوطة الرحَّالة العربي حين زار غرناطة في أوائل القرن الميلادي الرابع عشر، القصر بقوله: تحيط به من كل جانب البساتين والجنائن والمروج والقصور والكروم . وكانت سييرا نيفادا، في عهد سلاطين بني النصر، الذين حكموا غرناطة بين سنتي 1232 و1492 للميلاد، مجالاً محرماً للملوك وحدهم يصطادون فيه. وكان بنو النصر يمضون معظم وقتهم في الخلاء، فلم تكن قصورهم في الحمراء أكثر من فيلا ريفية لمنامتهم في الليل.
خلاصة مفهوم العمارة والبستان العربي
من على هذا القصر الذي يحضن عدداً من برك الماء والجداول والينابيع، كانوا يطلُّون على الجبال إلى الشمال، وعلى بساتين القصر إلى الجنوب، وفي كل وجوه هذه العلاقة بين الماء والمبنى حيثما وجدتها هنا، خلاصة مفهوم العمارة وفن البستان العربي. وقد وصف الكاتب الأمريكي واشنطن إيرفنغ في القرن الميلادي التاسع عشر، كيف دخل القصر، قال: كان الانتقال شبه سحري. وبدا وكأننا نُقِلنا فجأة إلى حقبة أخرى ومملكة أخرى، لندخل في مشهد القصة العربية. وجدنا أنفسنا في فناء كبير، أرضه رخام أبيض، وتزين طرفيه من كل جانب أبهاء منيرة إسلامية الطابع. وفي وسط هذا الفناء بركة عظيمة فيها صنوف السمك، طولها مئة وثلاثون قدماً، وعرضها ثلاثون، وتكثر فيها أسماك ذهبية اللون، وتحيط بها أسيجة ورد. وفي أحد أطراف هذا الفناء برج يسميه الإسبان برج كومارس .
الآس والبرتقال
لم يكن الورد من زرع العرب، بل شاهده هناك إيرفنغ في أوائل القرن التاسع عشر. وكان العرب أحاطوا البركة في الأصل بنبات الآس وشجر البرتقال، مثلما قال سفير البندقية أندريا نافاجييرو، الذي جال في المكان في أوائل القرن السادس عشر الميلادي. وقد أمضى المؤرخ الفيلسوف العربي الأكبر عبدالرحمن بن خلدون السنوات بين 1363 و1365م في غرناطة، ومنها أرسله السلطان محمد الخامس في مهام دبلوماسية، وقد ارتبط هناك بصداقة عمره مع السياسي والشاعر والمثقف الكبير لسان الدين بن الخطيب. وفيما بعد، في القاهرة، كتب ابن خلدون في تحفته الخالدة: مقدمة كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والأعاجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ، كتب عن شجر البرتقال وأنه نذير انحطاط اجتماعي. إذ رأى أن كثرة زرع شجر البرتقال في مدينة ما، ينبئ بدمارها الوشيك. لم يكن ابن خلدون ساذجاً ليتطير من البرتقال أو يتشاءم منه، أو أي شيء من هذا القبيل، بل كان يشبِّه زرعه بزرع شجر السرو الذي لا تقدم عليه إلا مجتمعات حضرية انصرفت إلى حياة الرفاه والتنعم. لم تكن تلك الأشجار تثمر برتقالاً يؤكل، بل كانت تزويقاً لمشهد البستان. وكان ابن خلدون يرى، مثلما كتب في مقدمته فيما بعد، أن التوسع في مظاهر التنعم والاستزادة بأطايب العيش لدليل على أن السلالة الحاكمة مقبلة على طور الانحدار والوهن، فلا تقوى على الحكم بعد الجيل الثالث وتندثر، لتحل محلها عصبية جديدة حاكمة أقدر على تحمل شظف العيش والشدة التي تقتضيها أمور الملك والحكم. وحين وصف ابن خلدون برتقال البساتين في غرناطة بأنه لا يؤكل، لم يكن من نمط المهووسين في مسائل الطعام والأكل، إذ كان محقاً في شأن هذا البرتقال الإشبيلي، الذي كان مر الطعم، ولا يستخدم إلا في الطهو. أما البرتقال الحلو المذاق فيأتي به البرتغاليون إلى أوروبا والمشرق العربي في القرن الميلادي السادس عشر.
ومن وحي رأي ابن خلدون هذا، كتب المستعرب الشاعر ديك ديفيس قصيدة عنوانها: مدينة شجر البرتقال. وقال فيها:
المدينة المليئة شجر برتقال
مآلها، إذا فسّرتَ، يعني
أن كل هذا التنعم والرفاه
عقابه الآتي إلى خراب
الماء لذاته، لا للسباحة
ومع أن إيرفنغ يروي أنه سبح في بركة باحة الآس، فلا شيء ينبئنا أن مسلمي الأندلس في عصور الازدهار، كانوا يسبحون في البرك. فمع أن الحمَّامات تعد من التراث العربي الملازم لعمارة العرب وحياة مدنهم في كل العصور، إلا أنها كانت تستخدم لأغراض الوضوء والنظافة العامة أيضاً. وكان العرب يأنفون السباحة في برك مقفلة، لأنهم كانوا يرون أمراً غير محمود، أن تستحم في ماء يصير قذراً من فوره. أما الماء الجاري فليس فيه هذا المعاب. فالبركة كانت إذن عنصراً مطلوباً لمائها في ذاته، وما يحدثه من تلطيف للجو المجاور.
لم يكن زرع الورد بدل الآس التحوير الوحيد، الذي أحدثه الإسبان في القصر بعد سقوط الأندلس، بل أحدثوا الكثير من التغيير. إلا أن من أهم ما بدَّلوه في مفهوم الحديقة عند العرب أنهم أنشأوا النوافير التي تقذف الماء في الهواء، على جانبي الممرات في القصر. ولم يكن هذا من صنع العرب، الذين كانوا يفضلون الينابيع الفياضة على النوافير.
في فناء الأسود، في قصر الحمراء، الذي يجمع الخبراء على أنه واحد من أجمل ما شيد الناس في العالم، يلاحظ المهندسون دقة الحساب الهندسي ورهافة الحس الفني في التزويق المعماري، إلى درجة تخطف الأنفاس. ويتضاعف هذا الإحساس إذا دخلت الفناء في الليل، والقمر في كبد السماء. فالإحساس حينئذ يوحي لك أن الخط المعماري هابط عليك من السماء، ولا يستند إلى الأرض التي بني عليها. ذلك أن الرخام المحيط بالمكان يعكس الشعاع فينشئ صورة مجسمة تأخذ باللب وكأنك لا تشاهد أمراً طبيعياً. وفي وسط الفناء بركة تبدو كأنها تقوم على اثني عشر أسداً من صخر. ويتضاعف عدد هذه الأسود، حين يعكس الماء صورتها إلى ناظريك. وحين تشرق الشمس تكتشف أن الأسود الإثني عشر لا يحملون البركة في الواقع. وإن هو إلا خداع بصر مؤثر في النفس. وتنطلق من الينبوع في وسط البركة أربع قنوات ماء تشق الفناء في أربعة أجزاء، طول كل منها ضعف عرضه. وأما الإحساس الذي لا يمكن أن يقاوَم فهو ألفة المكان وطابعه الحميم. ويقول مؤرخون إن وسط البركة في وقت من الأوقات كان بستاناً مزروعاً أزهاراًً وشجر برتقال. وكان البستان غائراً في الأرض كيلا يخفي عن الناظرين مشهد الينبوع في الوسط، وكانت أربعة ممرات تلتقي عنده من أطراف الفناء. ويقول نص في وصف فناء الأسود هذا، كتب في سنة 1602 ميلادية، إن كلاً من أجزاء الفناء الأربعة كانت مزروعة فيه ست شجرات برتقال، تحيط بها أزهار من كل صنف.
ويرى خبراء العمارة في فناء الأسود، زوال الحد الفاصل بين الداخل والخارج. ففي داخل القصر، حيث المكان الحميم، تجري قنوات الماء، وتنتصب الأشجار وتنبت أنواع الزرع، فيدخل البستان في البيت ويخرج البيت إلى البستان. فقنوات الماء تتفرع من الينبوع إلى الغرف شرقاً وغرباً، ولذا كانت أدوات المعمار في قصر الحمراء هي البستان والماء والضوء، قبل الحجر. وقد وصف روبرت هلنبراند هذا التفاعل بين عناصر العمارة ببلاغة فقال:
يجمع قصر الحمراء قوى الطبيعة معاً في تفاعل عند كل مفترق وزاوية: فالمياه تتحرك: تقطر وتجري وتتساقط وتتدفق، أو تستقر بهدوء في مستقر، بين الشجر والآجام وحدائق الزهر، فيأخذ هذا المشهد مكانه في إطار بين الجبل والمطلاَّت الخلابة، فيمسي جزءاً من هذه اللوحة، شديد الانسجام معها، مستغلاً خطوطها مستفيداً من لعبة الضوء فيها. إن قصر الحمراء يتلاعب ببراعة وعناية بتضاد النور والظلام، بفضل مداخله المتقوسة وانتقاء زوايا استقبال أشعة الشمس في الداخل، والفيء في ممرات تنفتح فجأة عن أفنية مفتوحة تسطع فيها الشمس بقوتها، أو يشع فيها النور تعكسه برك مستقرة، أو بلاط لامع جميل .
وقد قيل في قصر الحمراء إنه مكان أنشأه الشعراء وأقام فيه العلماء.
بساتين أندلس الأمس
كما تبدو اليوم
غرناطة في شهر أغسطس: صف طويل بطيء من السياح، يجر أقدامه بتثاقل نحو بوابات الدخول الكبرى إلى قصر الحمراء. وباستثناء موظف بلباس أسود يقطع التذاكر للداخلين، وشرطي ملول من الحرس المدني، لا تجد هنا أي إسباني. فالسكان المحليون الحذرون يمكثون في منازلهم ومكاتبهم بعيداً عن القيظ، في عز الصيف، ولا يبدأ تدفقهم إلا عند الغسق، لإحياء صخب الشوارع في جنوب إسبانيا.
لقد كان نويل كاورد على خطأ. فالكلاب المسعورة والإنجليز لا يغامرون وحدهم في الخروج تحت أشعة شمس الظهيرة، بل الفرنسيون والألمان واليابانيون والأمريكيون والدنماركيون كذلك.
ينقضي بعد الظهر، وكذا نشاطنا، فنأخذ في التقدم منهكين ننفث لهاثنا في لزوجة الحر، مقتربين من البوابات، فيما تختلط أصوات جوقة أولياء الأطفال وهم يحثونهم بألف لهجة ولهجة، على التزام النظام، وإلا.
وأخيراً عبرنا المدخل إلى عالم بارد لطيف الجو رذاذه منعش، يظلله الشجر، فيحميه من وهج الشمس، ويزيده سحراً خرير الماء. وباستمتاع لا يوصف، نكتشف فجأة انحسار الحر 17 درجة مئوية تقريباً بين جو البستان في الداخل، والجو في الخارج، حيث كنَّا نجر أنفسنا متهالكين. والنتيجة سحرية، والانفراج مدهش. ماذا حدث إذن وما التفسير؟
هل يمكن أن يكون التبدل طبيعياً؟ هل هو شيء ما في سر فن البستان؟ ومَن هم تُرى أولئك الذين استطاعوا أن يطوِّعوا سطوة الشمس نفسها؟
إنه سر لم يُفشِه سوى جمال المرمر وروعة أعمدة الرخام المزدوجة اللون في قناطر القصر وما تفيء به على الناس: لقد بنى قصر الحمراء وأنشأ بساتينه العرب الذين حكموا وأعمروا هذه الديار من إسبانيا 800 سنة، فشعَّت حضارتهم هنا كما لم تشع في أي مكان منذ عام 1492م. لم تزدهر فنونهم في مجال العمارة الرائعة فقط، بل لمعت كذلك براعة البستاني العربي، الذي تفوق في فن اتقاء المناخ الجائر.
حكام الأندلس العرب هم الذين ابتكروا في غرناطة فن البستان المرتبط بالماء وجريانه. كان ذلك الفن الرفاهية القصوى عند العربي الآتي من الصحراء، الباحث عن ركن حميم منعش من الحر، في وسط قيظ لاهب. عندما دخل العرب إسبانيا، أحضروا معهم براعتهم في إنشاء جنائن وبساتين، جامعين الشجر كبيره وصغيره، مع الماء، فمنه ما يجري في قنوات ومنه ما ينبع من الأرض ومنه ما يسقط شلالات. في البستان تدخل عالماً تثرثر فيه المياه الزاهية، لترتمي في أحواض ومجار، مصنوعة من المرمر الأزرق يزيد إحساسك بعمقها. وكل هذا يحيي الجسم وينعش العقل والقلب.
وقدَّر المؤرخون، أن بلاد الأندلس في أثناء حكم العرب كانت تضم نحو 50000 منزل تحيط بها الجنائن والبساتين في مقاطعة إشبيلية وحدها. وكانت البساتين تجر الماء لري صنوف الزرع المتنوعة، التي عشقها العرب. ولذا اختلط الزهر بالثمر والخضر بلا أي تمييز. وكان البستاني العربي يرى الجمال سواء بسواء، في البصل أو النبات المعترش أو الأرضي شوكي أو النبات الاستوائي. كذلك زرع النبات المائي وربَّى الأسماك، في الأحواض. فتلك كانت مأوى آمناً من بطش الشمس الكاسح. ويشكِّل هذا الآن جزءاً مشرقاً من إرث إسبانيا وروحها اليوم.
ها هو الشاعر الإسباني الحديث، فيديريكو غارثيا لوركا، وهو من غرناطة ينشد:
أخضر. أحبك أخضر.
نسيماً أخضر، وغصنا أخضر .
وها هم موسيقيو إسبانيا الكبار: ألبنيتز ودي فايَّا وغرانادوس، يحتفلون في موسيقاهم بصفق المياه أو يصورون مشهد ترقرق الجداول البراق وهمس النسيم العليل على صفحاتها.
وها هو سرفاندو ألفارث، المسؤول في قسم هندسة ميكانيك السوائل والطاقة في كلية الهندسة الحرارية بجامعة إشبيلية، يقود فريق علماء يستنبطون حلولاً: فقد شرح أن علماءه العاملين مع خبراء تخطيط المشاهد، يأملون في استحداث بيئة مصغرة (ميكرو بيئة) تمتد إلى خارج جنائن قصر الحمراء، في الممرات والرياض المحيطة والمعارض. ولذا فهو يريد إحياء المهارة التي تميز بها الأسلاف العرب، وربطها بتكنولوجيا الغد، ليسعى فريقه في بعث بستان الماء التقليدي ضمن مشاريع هندسة المشاهد (Landscape)، في كل أنحاء العالم، فيتحول البستان العربي من مجرد بستان منزلي متواضع إلى رياض واسعة طموحة في مساحة أراض شاسعة.
بتصرف عن دونالد سكار – سبتمبر – أكتوبر 1991م، أرامكو وورلد
البساتين والحدائق في الموسيقى
من دوفيَّا الإسباني إلى أسمهان
ما سقناه سابقاً عن فن الرسم يكاد ينطبق تماماً على فن الموسيقى والغناء. فحتى ظهور الانطباعية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، كانت الموسيقى الأوروبية تستوحي الطبيعة بشكل عام، كما هو حال السمفونية الريفية لبيتهوفن، أما البساتين بمعناها الدقيق فلم يكن لها أي أثر واضح.
غير أنه مع الانطباعية في الرسم، وصلت الموسيقى التصويرية إلى ذروة ازدهارها. وهنا أيضاً كان من أشهر العباقرة في هذا المجال، الإسباني الأندلسي مانويل دوفيَّا (Defalla)، الذي ربما يكون اسمه مشتقاً من اسم أجداده الأندلسيين ضيف الله ، وهو صاحب أحد أهم مؤلفات الموسيقى الكلاسيكية الإسبانية، التي تحمل اسم ليال في حدائق إسبانيا . يتألف هذا العمل من ثلاثة أقسام، يحمل آخرها اسم في حدائق قرطبة .
لقد قضى المؤلف الإسباني دوفيَّا حقبة من حياته في باريس في خضم ازدهار موجة الفن الانطباعي ، فتأثر كثيراً بجمال هذه المدرسة، كما تجلت في روائع لوحات عباقرة الرسم، وعقد صداقة وثيقة مع اثنين من أكبر المؤلفين الموسيقيين الفرنسيين المجددين، اللذين انخرطا تماماً في المدرسة الانطباعية، وكانا من أهم رموزها في الموسيقى، كلود دو بوسي وموريس رافيل.
ومع أن الباحث الموسيقى الإسباني فيليب فدريل، الأندلسي أيضاً، كان قد وجه دوفيَّا إلى التعمق في الاطلاع على الفولكلور الأندلسي قبل الانطلاق في نشاطه التأليفي الموسيقي، فإن هناك إجماعاً بين النقاد على أن دوفيَّا لم يستخدم جملاً فولكلورية أندلسية معينة، بل عمد إلى تمثل روح الفولكلور الأندلسي فيما وضعه من موسيقى. كذلك لم يعتمد أسلوب الوصف المباشر لحدائق إسبانيا، بل فضَّل التعبير عن الانطباع الحسي الذي تحدثه هذه الحدائق في نفس زائرها.
فإذا انتقلنا إلى الموسيقى العربية الكلاسيكية، فإن موسيقيين ومطربين كثراً استوحوا الحدائق في أعمالهم، إما بوصفها مباشرة، أو بوصف الأثر الذي تتركه في نفس زائريها، لا سيما إذا كانوا من المحبين. ولعلنا نكتفي في هذه العجالة، بالتذكير بنموذجين شهيرين في الغناء العربي المعاصر، كانت الحدائق مصدر الوحي فيهما، للشاعر والملحن والمغني.
النموذج الأول هو المونولوج الشهير لمحمد عبدالوهاب بلبل حيران ، الذي صاغه شعراً بالعامية المصرية أمير الشعراء أحمد شوقي، وروى فيه قصة الطير الذي وقع في غرام وردة، فدفعه غرامه إلى أن يغرس شوكها في قلبه، الذي ظل ينزف دماً حتى الموت، مع وصف شاعري مدهش للحديقة وأغصانها وبلابلها.
أما النموذج الثاني، فهو أحد أشهر أغنيات أسمهان، وقد لحنها مدحت عاصم: دخلت مرة في جنينة . وقد روت الأغنية حكاية غرام بين بلبلين (ذكر وأنثى) انتهت بمأساة الخيانة، بعد وصف شاعري جميل، شعراً ولحناً وغناءً، للحديقة وشجرها وسكانها من طير وبلابل.
أما في بلاد الشام، فلا يمكن إغفال الحضور الكبير للحدائق والبساتين في الموشحات والقدود الحلبية. نذكر واحداً من أشهرها وهو موشح زارني المحبوب في رياض الآس . كما أن حضور البستان أو الحديقة
يكثر أيضاً في موضوعات معينة من بعض القدود الحلبية مثل قدك المياس وفيه المقطع الشهير الذي يقول: أنا وحبيبي في جنينة..
والورد مخيِّم علينا .
وإلى جانب أغنيات فيروز التي تتحدث عن الكروم وهي بساتين العنب، مثل يا كرم العلالي و اطلعي يا عروسة ، غنَّت صباح للجنينة العربية أغنية ظريفة من تلحين فيلمون وهبي، تقول فيها:
جنينــــــــة حبيبـــــــي مليــــــــــــاني تفـــــــــــاح وعــــنـــــــــــب لبــــــنـــــــــــاني
ومانغـــــــا مصـــــــــرية بلونيــــــــــن ومشمش شامي يخزي العين
وفســـــــتق حلبـــــــي وســــــــــوداني
ولا بد أن نذكر أن الفنانين، إذا كانوا يستوحون من الحديقة والبستان مشاعر الحب، فإن بعضهم سار في الاتجاه المعاكس وخرج بالنتيجة ذاتها. فلمحمد عثمان، الموسيقار العربي الكبير في القرن التاسع عشر، دور شهير مقامه الصبا الحزين، وعنوانه: بستان جمالك. وهو مثلما يتضح، يبدأ بوصف الحبيب، ليشبهه بالبستان، ولا يبدأ من البستان
لينتهي عند الحبيب.
هذا بعض ما تفعله الحدائق بالفنانين والمستمعين، على السواء.
البستان في الشعر العربي
يستحيل حصر كل ما ورد في الشعر العربي حول البستان في هذا المجال المحدود، ونكتفي بذكر عينات تظهر التنوع الكبير الذي ميَّز تطلعات شعرائنا إلى البساتين.
فقد مرَّ المتنبي ذات يوم بشِعْـبِ بـَـوَّان بإيران، و هو موضع كثير الشجر والماء ويعد من متنزهات الدنيا، فقال واصفاً إياه:
مَغاني الشِـْعبِ طِـيـباً، في المغاني
بمَـنـزلـةِ الرَّبـيـعِ مـنَ الزمَـانِ…
غَدَونَـا تـنـفُضُ الأغـصَانُ فـيها
عـلى أعْـرافِـهَـا مثـلَ الجُـمـانِ(1)
فـسـرتُ وقـد حَـجَـبْـنَ الحَـرَّ عـني
وجِـئْـنَ منَ الضِّيَاء بما كـفَاني
وألْـقَى الشّرْقُ منها في ثـيـابـي
دنـانـيـراً تَـفِـرُّ منَ الـبَـنَانِ(2)
ولا يملك من يَـجُـولُ في بستانٍ قد اكتملَ حُسنُهُ وبهاؤه، إلاَّ أن يتذكر أحبابه، ويحن إلى وصالهم… إذ لا يكتمل السرور إلا بوجود الوجه الحَسَن. ولذا، عندما دخل ابن زيدون مدينة الزهراء، هاجت له الذكرى، فقال يصفها ويصف أشواقه:
إنّي ذكرتكِ بالزهراءِ مُـشـتـاقـا
والأفـقُ طـَـلـْـقٌ ومَرْأى الأرْضِ قد رَاقا…
نَـلـْهـُو بما يَـسْـتــَمـيـلُ العـينَ من زَهَـر
جَالَ الندى فيهِ حـتى مَـالَ أعْـنـاقـا
وَرْدٌ تـألَّـقَ في ضـاحـي مـنـابـتـهِ
فـازدادَ منه الضُّحَى في العـيـنِ إشْراقا
كلٌّ يَهِيجُ لنا ذِكرَى تـُـشَوِّقُـنـا
إليكِ لمْ يَعْـدُ عـنـها الصـدرُ إنْ ضَـاقا
وربما كان بستانُ حُـسْنِ الحـبـيـب، أجملُ من بستانِ الشجـرِ والهواءِ الطلق، و كانَ وردُ الخـُدودِ أشهى من روضةِ الياسمين والنرجس… وهنا يرسم لنا ابن نبـاتـة المصري هذه الصورة الجميلة لمحبوبته:
لا تـَسْـألوا في الحُـبِّ عـن شَاني
فـقـد كـفى تَعـبـيـرُ أجْـفـاني
هَـوَيـْتُ من طـلْعَـتـُهُ رَوْضَةٌ
فـفَاضَتِ العَـيـنُ بـغُدْرَانِ
غُصنٌ منَ البـَانِ إذا مـا انـْـثـَـنَى
أبـْصَرتُ فـيهِ ألـْـفَ بُـسْـتـانِ
أشْبَهْـتُ في حُـبّـيـهِ وِرْقَ الحِـمَى
فـكـلّـنـا نـبـكي عـلى البَانِ
وقد اشـْـتــُهـرَ ابن خَـفاجة الأندلسي بوصف الرياض ومناظر الطبيعة، ولا عجب في ذلك، فمن يعش في ربوع الأندلس لا بد أن تــَـرقَّ مشاعره، وتَـتـفـتّـقَ قريحـتـه عن أعذب الكلمات، مما يدل على تأثير البيئة على تكوين من يسكن فيها. وهو هنا يصف أحد مجالس اللهو مع أصحابه، فعندما يَضُمُّ المَرْءَ مَجْـلسٌ مع أصحابٍ أكْـفَاء، في بستانٍ تـغـنّي طيورُهُ وتـتـرَقـْرَقُ ميـاهُه، تسقط الكُـلـفـة بين الندماء، ويغـلـبُ السرور على البصر والفؤاد…
سُـقْـيَاً ليومٍ قـد أنَخْـتُ بـسَـرْحَـةٍ
رَيّـا، تُلاعِـبُـها الشّمالُ فـتَـلـعَـبُ(3)
سَـكـْـرَى، يُغَـنّـيهَـا الحَـمَامُ فـتَـنْـثـنـي
طرَباً، ويَـسـقـيـهـا الغـَـمَـامُ، فـتَـشـرَبُ
والرَّوْضُ وَجْهٌ أزْهَـرٌ، والظِـلُّ فَرْعٌ
أسْـوَدٌ، والمـاءُ ثَـغْـرٌ أشْـنَـبُ (4)
في حَـيثُ أطْرَبَـنا الحَـمَامُ عَـشِيّةً
فـشَدا يـُغـنّيـنـا الحَـمَامُ المُـطربُ
واهتـزّ عـِطـْـفُ الغـُصْـن منْ طرَبٍ بنا
وافْـتَرَّ، عن ثَغْـر الهـلالِ، المَغْربُ
في فِـتْـيَةٍ تَسْري، فـيَـنْصَدِعُ الدُّجَى
عـنها، وتــَنـْزلُ بالجَـديـبِ، فـيَخْصِـبُ
كَرُموا، فلا غـَيـْثُ السّـمَـاحَـةِ مُـخـْـلِـفٌ
يوماً، ولا بـَرْقُ اللـّـطَـافَـةِ خُـلَّـبُ(5)
وقد كثر اقتران ذكر البساتين، بمجالس اللهو والأنس… وربما حَـلّـتْ أنغامُ العُود ضيفاً على مجلس اللهو ذاك، مع وُجودِ صافي الشراب، وفاكهةٍ دانيةٍ قطوفها، كما يصفه السالمي:
فـلِلّهِ بُسـتـانٌ بهِ الحُـسْـنُ أزْهَـرَا
قـطَعْـنا به اللـذاتِ كـأسَاً ومِـزْهَرا(6)
على طِـيـبهِ تـَمَّ النَّسِـيمُ الذي سَرَى
نُـدامَايَ لا تَـنْـسُـوا الحـديثَ الذي جَـرَى
عـلى جِـهَـةِ الرُمّانِ منْ أسْـفَـلِ العُـودِ
وفي الشعر المعاصر، ظهر البستان صورة للوطن ومجالاً للاعتزاز بالانتماء إليه. حتى أن ثماره وأزهاره صارت بدورها رموزاً لا للجمال والخير فقط بل للهوية الوطنية أيضاً. وقد يكون نزاز قباني واحداً من أشهر أصحاب هذه النظرة الشعرية الجديدة إلى البستان بشجره وزهره. ففي وصفه لحال فلسطين تحت الاحتلال، يقول في إحدى قصائده:
وليمون يافا يابس في حقوله
وهل شجر في قبضة الظلم يزهر؟
أما في القصيدة الدمشقية فيقول:
أنا الدمشقي لو شرَّحتم جسدي
لسال منه عناقيدٌ وتفاحُ
مآذن الشام تبكي إذ تعانقني
وللمآذن.. كالأشجار.. أرواح .
ويتكئ الشاعر على الشهرة الواسعة التي تحظى بها البساتين الدمشقية، ليرى فيها وفي أزهارها وثمارها هوية المدينة ككل. ففي قصيدة غرناطة يروي قصة لقائه بفتاة إسبانية من أصل عربي، يقول عندما تسأله الفتاة عن دمشق:
ودمشق، أين تكون؟ قلت ترينها
في شعرك المنساب.. نهر سواد
في طيب جنات العريف ومائها
في الفل في الريحان في الكباد
البستان في طوق الحمامة
تنزهت أنا وجماعة من إخواني من أهل الأدب والشرف إلى بستان لرجل من أصحابنا، فجلنا ساعة ثم أفضى بنا القعود إلى مكان دونه يتمنى، فتمددنا في رياض أريضة، وأرض عريضة للبصر فيها منفسح، وللنفس لديها مسرح، بين جداول تطرد كأباريق اللجين وأطيار تغرد بألحان تزري بما أبدعه معبد، والغريض، وثمار مهدلة قد ذللت للأيدي ودنت للمتناول، وظلال مظلة تلاحظنا الشمس من بينها فنتصور بين أيدينا كرقاع الشطرنج والثياب المدبجة، وماء عذب يوجدك حقيقة طعم الحياة وأنهار متدفقة تنساب كبطون الحيات لها خرير يقوم ويهدأ، ونواوير مونقة مختلفة الألوان تصفقها الرياح الطيبة النسيم، وهواء سجسج، وأخلاق جلاس تفوق كل هذا، في يوم ربيع ذي شمس ظليلة، تارة يغطيها الغيم الرقيق والمزن اللطيف، وتارة تتجلى، فهي كالعذراء الخفرة والخريدة الخجلة تتراءى لعاشقها من بين الأستار ثم تغيب فيها، حذر عين مراقبة. وكان بعضنا مطرقاً كأنه يحادث أخرى، وذلك لسر كان له فعرض لي بذلك، وتداعبنا حيناً فكلفت أن أقول إلى لسانه شيئاً في ذلك، فقلت بديهة، وما كتبوها إلا من تذكرها بعد انصرافنا، وهي:
ولما تروحنا بـأكـنـاف روضة
مهدلة الأفنان في تربها النـدي
وقد ضحكت أنوارها وتضوعت
أساورها في ظل فيء مـمـدد
وأبدت لنا الأطيار حسن صريفها
فمن بين شاك شجوه ومـغـرد
وللماء فيما بيننـا مـتـصـرف
وللعين مرتاد هـنـاك ولـلـيد
وما شئت من أخلاق أروع ماجد
كريم السجايا للفخـار مـشـيد
تنغص عندي كل ما قد وصفتـه
ولم يهنني إذ غاب عني سـيدي
فيا ليتني في السجن وهو معانقي
وأنتم معاً في قصر دار المجدد
فمن رام منا أن يبـدل حـالـه
بحال أخيه أو بملـك مـخـلـد
فلا عاش إلا في شقاء ونـكـبة
ولا زال في بؤسٍ وخزيٍ مردد
كلمات من لسان العرب والعجم
ذات صلة بالبستان
لو عدنا إلى كلمتي حديقة و جنة لوجدنا أنهما تشتقان من أصل واحد. فكلمة جنة بالإنجليزية مثلاً (Paradise) تتحور من أصل فارسي الفردوس ، التي تتحدر بدورها من الفارسية القديمة (pairi-dea-za) التي تعني منتزه محاط بسور والكلمة البابلية باراديسو ليست سوى شكل لاحق للتعبير السابق، ومعناها حرفياً السياج ، أو السور ، أو بكل بساطة ملكية محددة .
ويتضمن لسان العرب لابن منظور وغيره من المعاجم الكبرى شرحاً دقيقاً لكل المفردات ذات الصلة -القريبة أو البعيدة- بالبستان، علماً بأن استعمالاتها تعرَّضت لشيء من التغيير بمرور الزمن. ومنها على سبيل المثال:
–
البستان: الحديقة (في لسان العرب: مادة بست). وقيل الحديقة كل أرض ذات شجر مثمر ونخل. وقيل الحديقة البستان والحائط، وخصَّ بعضهم به الجنة من النخل والعنب. وقيل كل بستان كان عليه حائط فهو حديقة، وما لم يكن عليه حائط، لم يقل له حديقة.
–
الجنة: البستان، ومنه الجنات، والعرب تسمي النخيل جنة. والجنة الحديقة ذات الشجر والنخيل، وجمعها جنان. ويقال للنخل وغيرها. وقال أبو علي في التذكِرة: لا تكون الجنة في كلام العرب، إلا وفيها نخل وعنب. فإن لم يكن فيها ذلك، وكانت ذات شجر فهي حديقة وليست بجنة. والجنة هي دار النعيم في الآخرة، من الاجتنان لتكاثر أشجارها وتظليلها بالتفاف أغصانها.
–
الروضة: الأرض ذات الخضرة، الروضة البستان الحسن، والموضع يجتمع إليه الماء يكثر نبته. ولا يقال في موضع الشجر روضة. وقيل الروضة عشب وماء ولا تكون روضة إلا بماء معه أو إلى جنبه. وأصغر الرياض مائة ذراع. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: بين قبري -أو بيتي- ومنبري روضة من رياض الجنة. والجمع من ذلك كله: روضات ورياض ورَوض ورِياضانٌ.
–
الدوحة: الشجرة العظيمة المتسعة، من أي الشجر كانت، والجمع دوح. وأدواح جمع الجمع. ويقال داحت الشجرة وتدوح وإذا عظمت فهي دائحة. وكل شجرة عظيمة دوحة.
–
الأجمة: منبت الشجر كالغيضة، وهي الآجام. والأُجُم القَصر بلغة أهل الحجاز. واحدها أُجُم. والأجمة الشجر الكثير الملتف، والجمع أُجم وأُجم وأُجَم وآجام وإِجام. وتأجّم الأسد دخل في أجمته. وقال الجوهري: الأجمة القصب، والجمع أجمات.
–
الغيضة: الأجمة، وغيّض الأسد ألِف الغيضة. والغيضة مغيض ماء يجتمع فيه فينبت فيه الشجروجمعها غياض وأغياض.
–
الغابة: الأجمة التي طالت ولها أطراف مرتفعة باسقة. وقال أبو حنيفة: الغابة أجمة القصب. والغابة الأجمة ذات الشجر المتكاثف، لأنها تُغيِّب ما فيها. وقال ابن الأثير: الغابة شجر كثير وهي على تسعة أميال من المدينة.
–
الغوطة: الوهدة من الأرض المطمئنة، وغوطة موضع بالشام كثير الماء والشجر وهو غوطة دمشق، وذكرها الليث معرفة بالألف واللام. والغوطة مجتمع النبات والماء، ومدينة دمشق تسمى غوطة.
–
الواحة: (من المفصل لجواد علي) موضع الآبار والمياه في البوادي، هي رحمة للإنسان ومنظر تقر به العين. فالواحة في البادية، لؤلؤة وكنز وجنة، لا يدرك جمالها ولا يعرف قدرها إلا من اضطر إلى ركوب البوادي وتعرض لرياح السموم ووهج الشمس وعواصف الرمال. وفي هذه المواضع يستعيد المسافر نشاطه ويتجدد أمله.
البستان والحديقة والجنة
في القرآن الكريم
لم ترد كلمة بستان على ألفاظ القرآن الكريم.
أما كلمة حديقة فجاءت ثلاث مرات في صيغة الجمع: حدائق. قال عز وجل في سورة النمل: }وأنزلَ لكم من السماءِ ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها{ (60 النمل). وقال سبحانه في سورة النبأ: }إن للمتقين مفازا. حدائق وأعنابا{ (31 و32 النبأ)، وفي سورة عبس: }أنَّا صببنا الماء صبا. ثم شققنا الأرض شقا. فأنبتنا فيها حبا. وعنبا وقَضبا. وزيتونا ونخلا. وحدائق غُلبا. وفاكهة وأبًّا{ (25 – 31 عبس). ويبين الله في كتابه العزيز في هذه السور المباركة، أن الحدائق من نعمه الكثيرة، تبارك وتعالى.
وجاءت كلمة روضة مرتين، إحداهما بصيغة المفرد والثانية بصيغة الجمع. ففي سورة الروم قال الله تعالى: }فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضةٍ يُحبَرون{ (15 الروم). في لسان العرب: أي يُسَرُّون، وقال الليث: يُحبَرون ينَعَّمون ويكرَّمون. وفي سورة الشورى: }والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات{ (22 الشورى). وبذلك يتضح من كتاب الله أن الرياض والحدائق ثواب ونعمة من لدنه. وخلافها العذاب الأليم.
وفي التنزيل العزيز ذكرت كلمة الجنة بصيغة المفرد هذه 66 مرة. من ذلك قول الله عز وجل: }إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم أن لهم الجنة{ (111 التوبة). وذُكرت كلمة جنتين وجنتان بصيغة المثنى 7 مرات، ومن ذلك قوله تعالى: }لقد كان لسبإٍ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال{ (15 سبأ). وذُكرت كلمة جنات، بصيغة الجمع 70 مرة، من ذلك قوله تعالى: }ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها{ (22 المجادلة). وجاءت كلمة جنة مضافة إلى ضمير متصل، 3 مرات: جنتك وجنته وجنتي، وذلك في قول الله عز وجل: }فادخلي في عبادي وادخلي جنتي{ (30 الفجر).
البستان في الفن الإسلامي أولاً
كل من ألقى نظرة خاطفة على الفن الإسلامي يعرف الدور الذي لعبه عالم النبات في صوغ شخصية هذا الفن. أما البستان بحد ذاته، فما من فن في العالم أتقن استيحاءه والاستفادة منه كما هو حال الفن الإسلامي، حتى أنه قد لا يكون من المبالغة أن هذا الفن احتكر لنفسه استغلال البستان كمصدر للوحي الفني متعدد الأشكال.
الرسم والمنمنمات
فمنذ فجر الفن الإسلامي ظهرت بساتين دمشق في الموزاييك الذي يزيِّن جدران باحة الجامع الأموي، ومنذ ذلك الحين، لم يغب البستان عن معظم الفنون الإسلامية، وإن كان وضوح صورته يتفاوت بين فن وآخر وحين وآخر. ولعل الرسوم والمنمنمات الإسلامية التي ظهرت ما بين بلاد فارس والهند هي أشهر أشكال الفن الإسلامي في نقل صورة البستان وبشكل مباشر وواضح، وأطول هذه الأشكال عمراً. فالأكثرية الساحقة من هذه الرسوم هي إما ذات موضوعات تدور أحداثها في البستان: صيد، مجلس لهو، اجتماع أعيان وغير ذلك، وإما تتضمن نصاً محاطاً بزخارف مستوحاة بوضوح من نباتات البساتين وغنائيتها. وما وصلنا من هذه المنمنمات والرسوم يفوق القدرة على إحصائه.
وللتأكيد على دور البستان في مجال فني آخر، يمكننا أن نعطي مثالاً يمكن أن يتلمسه القارئ بسهولة. ففي أي متجر يبيع السجاد اليدوي الفاخر، نلاحظ أن هذا السجاد يتوزع إلى فئتين رئيستين: الفئة الأولى وتضم السجاد المعروف بـ القبلي وهو الذي تنتجه القبائل الرحَّل في آسيا الوسطى، غير المرتبطة بالأرض ولا بالبساتين، في أماكن مثل بخارى والقوقاز وتركمانستان..ومعظم الزخارف التي تزين هذا السجاد هي هندسية مجردة، ومن النادر أن نرى حضوراً واضحاً لحيوان أو نبات مثمر.
أما الفئة الثانية فتضم السجاد المصنوع في المدن: كاشان، تبريز، أصفهان.. التي تتضمن زخارف مستوحاة بشكل واضح من نباتات بعضها زراعي مثل الورود والزنابق، ومن الثمار مثل الرمان والتفاح والكرز، إضافة إلى بعض النباتات الفطرية وأشجار الزينة مثل السرو وما شابه.. أي من الخلطة النباتية التي لا تتوافر إلا في البساتين، وبانتقالها إلى السجادة، تصبح هذه السجادة صورة مؤسلبة عن صورة البستان.
إلى ذلك، هناك أشكال تعبيرية عديدة في الفن الإسلامي استوحت جزءاً صغيراً أو جانباً محدداً من البستان لتبتكر شكلاً تعبيرياً، وإن ابتعد عن الأصل، فهو يبقى مديناً لهذا الأصل. ومن ذلك فن القاشاني الذي بلغ ذروته في إزنيك بتركيا، حيث كان يتم تزيين الخزف برسوم مستوحاة من خلطة نباتية محدودة مختارة بعناية لمواصفاتها الشكلية واللونية. الأمر نفسه ينطبق على فن السيراميك في المغرب العربي الذي لا يزال إنتاجه مزدهراً حتى عصرنا هذا.
في المقابل، ظلَّ الأوروبيون يرسمون الطبيعة والغابات منذ عصر النهضة وحتى القرن التاسع عشر. فتارة تكون هذه الطبيعة متخيلة بشكل لائق بالموضوعات الأسطورية، وتارة تكون غابات واقعية. فحتى القرن التاسع عشر كانت ألوان الرسم الزيتي مصنوعة من مسحوق يجب خلطه بالزيت، ولذا كان الخروج إلى الطبيعة أمراً صعباً، بسبب المتاعب التي يسببها تحضير الألوان في الهواء الطلق.
قرابة العام 1870م، ظهرت الألوان الجاهزة في أنابيب صغيرة مصنوعة من الألمنيوم. فسمح الأمر بخروج الفنانين إلى الطبيعة لرسمها مباشرة. فظهر البستان في بعض أعمال كورو وبيسارو وسيزان.. واستمرت بعض أجزائه في الظهور حتى ما بعد الانطباعية عند بونارد وغيره. ومع ذلك، لم يحتل البستان المكانة التي يمكن أن نتوقعها في الفن الانطباعي. فحيثما ظهرت بساتين -وهي محدودة العدد جداً- يبدو ظهورها وكأنه كان عرضياً، وبقي أقل حضوراً من حضور الغابة، أو المنظر الطبيعي العام. الأمر الذي يؤكد أن البستان بصفته جزءاً أساساً من الحياة اليومية هو مفهوم شرقي أولاً وأخيراً.