حياتنا اليوم

عصر الجُزُر الثقافية

لو ألقى أي منَّا نظرة على نوعية الاهتمامات الثقافية -بأوسع معاني الكلمة- التي تشغل الناس من حوله، للاحظ فوراً توزع هؤلاء على مجموعات صغيرة تتنوع تنوعاً كبيراً ليس فقط على صعيد المادة الثقافية موضع الاهتمام، بل أيضاً على صعيد وسائل النشر الثقافي نفسها. وكان يمكن لهذا التنوع أن يكون دليل غنى ثقافي لولا تنكُّر كل مجموعة لوجود غيرها من المجموعات، واكتفاء كل واحدة بما في ذاتها من دون أي اعتبار لما في المجموعة الأخرى.

فالبعض، من الشبَّان بشكل خاص، يتطلع إلى الإنترنت وكأن شمس الثقافة تشرق منها وتغيب فيها. وهناك من يعتبر الشعر قضية عمره، وهناك من يرى الرواية مجال التعبير الثقافي الأهم والأخطر، وهناك من يرى ألاَّ شيء يستطيع أن يخلع التلفزيون عن عرشه.. المشكلة، هي أن كل مجموعة من هذه المجموعات ترفض التطلع صوب غيرها.. وعندما تفعل، فغالباً ما يكون ذلك مصحوباً بالاستغراب أو النقد.. بدليل أن الكثيرين ممن هم في العشرينيات من أعمارهم حولنا واضطرهم الاستخدام المفرط للكمبيوتر والإنترنت إلى استخدام النظارات الطبية، لم يقرأوا رواية واحدة في حياتهم.. ولا شيء يشير إلى أنهم سيتكبدون هذا العناء في يوم من الأيام. وتأكيداً على صحة هذه الملاحظة، نشير إلى الراديو.. هذا الجهاز الذي لا يقتنيه الكثيرون ممن هم في العشرينيات وما دون، وكأنه من اختراعات العصر الحجري كما قد يدور في أذهانهم.. هذا الراديو لا يزال موجوداً بالفعل، وله جمهوره الذي يشكِّل جزيرة خاصة.

وإذا كان التلفزيون وحده يقتحم أكبر عدد من هذه الجزر الثقافية، فالأمر يعود إلى طابعه الترفيهي وليس الثقافي، بدليل أن متابعي البرامج الثقافية النادرة جداً على شاشته يشكِّلون بدورهم واحدة من أصغر الجزر.

في علم الاجتماع، يستخدم العلماء تعبير تذرر للإشارة إلى تفتت كتلة كبيرة إلى مجموعات صغيرة تفقد صفة الاجتماع أو الجمعية -من ذَرَّة- ولعل هذا التعبير هو أفضل المتوفر لوصف عالم الثقافة اليوم.

يرى البعض أن المشكلة لا تكمن في الأداة فقط، بل في المضمون أيضاً. فالراديو الذي لا نعرف شيئاً عن برامجه الثقافية على سبيل المثال -هذا إذا كان لا يزال يبث برامج ثقافية-يحضر بقوة في سيارات الشبَّان فقط للموسيقى التي يبثها، والتي يقتصر دورها على تعبئة فراغ، أو الأصح إلهاء المستمع الشاب عن الفراغ الذي يعاني منه.

والأسفار والرحلات التي كانت العمود الفقري الذي تشكَّلت منه ثقافة الكثيرين من الأدباء والكتَّاب، أصبحت اليوم إما للاستجمام وإما للتسوق.

باختصار، كان هناك عصر تضافرت فيه قراءة الرواية والشعر مع السفر، مع الجريدة اليومية والراديو والتلفزيون والسينما ومعارض الأعمال الفنية، في صوغ الثقافة.. ثقافة الأفراد الذين يتألف منهم المجتمع. أما اليوم، فكل واحد من هذه العناصر الثقافية بات يصوغ ثقافة كل فرد على حدة.

والسبب؟
قد يكون السبب في انهيار الأيديولوجيات الكبرى التي كان يلتف حولها الملايين وشغلت العالم في القرن العشرين وما سبقه، وقد يكون في تعدد قنوات الاتصال واستحداث المزيد منها يوماً بعد يوم.

الأمر يحتاج إلى دراسة متأنية قبل إطلاق الأحكام، ولكن المؤكد أن هذا التذرر يشكِّل حجر عثرة كبيراً جداً أمام سطوع نجم أي عمل ثقافي أمام أعين كل الجمهور المستهدف نظرياً. وبالتالي، فإن مقاييس الجودة والنجاح والفشل لم تعد كما كانت حتى الأمس القريب.

أضف تعليق

التعليقات