الثقافة والأدب

المشهد الثقافي السعودي
بين انتصار الرواية وبطولة القارئ

  • 75-(book-3-1)
  • 68-69-(Best-10x13
  • 70-(laptop-guy)
  • 73-(climbing-books)
  • 74a-(book-6-1)
  • 74b-(book-5-1)
  • 74c-(book-1-1)
  • 74d-(book-2-1)
  • 74e-(book-4-1)

تشهد الساحة الثقافية السعودية جملة تحولات نوعية تسارعت في الآونة الأخيرة، وباتت لكثرة الأسئلة التي تطرحها، مادة تشد الأنظار إليها في محاولة لرسم صورتها العامة، إن لم نقل تفرض رسم هذه الصورة. وهنا مساهمتان تسعيان إلى ذلك.
المساهمة الأولى هي من الدكتور صالح زياد الذي يركِّز في قراءته لهذه التحولات على الرواية السعودية، بوصفها المجال الأكثر تعبيراً عمَّا طرأ على الساحة الثقافية من متغيرات في السنوات القليلة الماضية، حتى أصبحت قبل العشرين من عمرها، المادة الأدبية السعودية الأكثر إثارة لاهتمام القرَّاء وجدالهم.
أما المساهمة الثانية، وهي للكاتبة منال العويبيل، فتتناول المجالات الثقافية المختلفة من شعر وفن تشكيلي ومسرح، بعد أن تتوقف بدورها ومطولاً أمام.. الرواية نفسها.

البحث عن قيمة إنسانية وإبداعية
حقبة الرواية: اكتشاف الحرية
للمرحلة الراهنة في تاريخ الثقافة السعودية ملامح مميزة، تحيلها إلى نقلة نوعية على مستوى التصورات والأشكال، وعلى مستوى الكثافة والتعدد. ويبدو الحد الزمني لهذه النقلة منذ أوائل التسعينيات الميلادية؛ إذ ابتدأت الرواية مع غازي القصيبي وعبده خال وتركي الحمد ورجاء عالم… تشكِّل المنعطف إلى فضاء من الرؤية والبناء والتعبير يتموضع به الواقع كما يتموضع به الكاتب بالشكل الذي يسمح برؤية مجهرية تتجاور فيها الهوامش الاجتماعية مع المتن، وينحل الصوت الواحد إلى أصوات متعددة ومتعاكسة، في تصاعد للنبرة النقدية، وبدايات انكسار لأوهام المثالية والطهورية والنقاء تجاه الذات الاجتماعية.

ولا تختلف -مثلاً- شقة الحرية أو العصفورية لغازي القصيبي في إضاءتهما لحمَّى الشعارات الأيديولوجية والأوهام الشعبية، عن أطياف الأزقة المهجورة لتركي الحمد، بأجزائها الثلاثة: العدامة و الشميسي و الكراديب في غوصها على الباطن الاجتماعي وكشفها عن المختلف والمفارق، في سرد تنكسر فيه المعاني الضخمة في الحس الإنساني، ليعيش أزمة المعرفة والحقيقة، وصراع الأيديولوجيات، وتصادم الواقع والمثال، والحرية والقيد…

استدعى هذا المسار -من بعد- عشرات الروايات والأسماء الروائية التي اكتشفت بروايات القصيبي والحمد أفق الحرية الإبداعية، فولجت إلى تخوم التابوهات الاجتماعية واستبدلت بالصمت وتبادل الإقصاء والإلغاء بين المختلفين صيغاً سردية من الحوار والحضور والتجاور على نحو ما دوَّن علي الدميني في روايته الغيمة الرصاصية .

ولم يكن التعاطي مع التابوهات، بأكثر دلالة على تعرية الواقع من كثافة تناول الرواية السعودية للأنثى، لتصير الشخصية الأولى في روايات عدد من الروائيين والروائيات، ناطقة بلسان الأنا وليس الغائب، كما في القارورة ليوسف المحيميد، و الفردوس اليباب لليلى الجهني، و وجهة البوصلة لنورة الغامدي، معوضة عن غياب المرأة الاجتماعي، ومعلنةً عن حضور إشكالية حقها الوجودي والإنساني في المجتمع، الحق الذي غدا التعاطي معه علامة على وعي جديد بقيمة المرأة ودهشة الحياة بها ومعها.

قيمة الحب
وهنا تأتي تيمة الحب التي يرتبط السرد بها عضوياً. فلا رواية بلا امرأة، ولا سرد بلا حب. وقد توالت في هذا المدار أصناف المغامرات العاطفية والعلاقات التي تحكي عواطف ممتلئة برغبة الحياة وإرادتها وعنفوانها، في تصادم مع عوائق وسياقات، وتقاطع مع سلوكيات الذكورة والفحولة، لتغدو المرأة ضحية الرجل بمعناه الاجتماعي، وربما كانت روايتا محمد حسن علوان سقف الكفاية و صوفيا ورواية رجاء الصانع بنات الرياض و حب في السعودية لإبراهيم بادي، أبرز الأمثلة. وهي أمثلة تتداخل، من الوجهة الواقعية، مع طائفة أخرى من الروايات السعودية التي اتخذت المرأة وجهة لموضوعات غير مطروقة، وعلى درجة من الحساسية الاجتماعية والثقافية؛ كالعنصرية والمناطقية والكفاءة في النسب، في ميمونة لمحمود تراوري، و الحفاير تتنفس لعبدالله التعزي، و جاهلية لليلى الجهني، وبعض العادات والأعراف البدوية المهينة للمرأة كالشغار أو زواج البدل والحجْر وغيرها، كما في روايتي قنص و أو على مرمى صحراء في الخلف لعواض العصيمي، و البحريات لأميمة الخميس، و هند والعسكر لبدرية البشر، وروايات قماشة العليان وزينب حفني.

ولأن الرواية فن التلفت للوراء كما يقول ميلان كونديرا، فإن بعض نماذج الرواية السعودية في الخمس عشرة سنة الأخيرة، فضلت العودة إلى الماضي القريب، ماضي الطفولة، أو ماضي الأحداث وخاصة حرب الخليج، أو أحداث 11 سبتمبر. فـ الحزام لأحمد أبو دهمان حافلة ببدائية القرية وأسطوريتها الفولكلورية، تماماً كما هي معظم روايات عبدالعزيز مشري، حيث التشكيل الفردوسي للماضي وجه للاحتجاج على الحاضر وإدانته.

وقد أتاحت أزمة الخليج كما أتاحت أحداث 11 سبتمبر ونحوهما مساراً للرؤية السردية في اتجاه الإدانة للغلو والتعصب بأشكاله المختلفة، والتفكيك لبنية التطرف وظروف تشكله والقلق النفسي والفراغ الممهور بواقع اللحظة وتداعيات أحداثها وهو ما نقرؤه لدى إبراهيم الخضير في عودة إلى الأيام الأولى ، وفهد العتيق في كائن مؤجل ، و ريح الجنة لتركي الحمد، و الإرهابي 20 لعبدالله ثابت.

أما عجائبية رجاء عالم ولغتها الممتنعة والنخبوية ووجهتها التجريبية، في معظم رواياتها، فتعبير عن المعنى العميق للإبداع والتشكيل المتحرر من الواقع والمحلق باتجاه المعاني الكلية التي تبدو تهديداً لمقروئيتها وانحسارها في دائرة النخبة، ومع أن ذلك وجه من وجوه الانسحاب من المواجهة، أو هو التعالي، فإنه لا يشبه الهروب والانسحاب الذي تمثله الأسماء المجازية -كما هو مرجح- لصبا الحرز في الآخرون ووردة عبدالملك في الأوبة ، وهاجر المكي في غير وغير وطيف الحلاج في القران المقدس … والقائمة مرشحة -كما يبدو- للامتداد، وبوتيرة أكثر إيغالاً في الفضائحية والتخفي، تحت سطوة متزايدة من لهاث دور النشر تجاه غرائبية المجتمعات الخليجية المحافظة وسريتها ووضعية المرأة فيها، الأمر الذي يهدد صدقية الإبداع، وينذر بأعمال سردية ممهورة بمواصفات مطلوبة تسويقياً!.

النقد الثقافي والاجتماعي
هذه الهيمنة المتصاعدة للرواية على ملامح المرحلة الثقافية الراهنة في المملكة العربية السعودية، تكتسب امتيازها بالقياس إلى المرحلة السابقة عليها التي امتدت طوال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وهي مرحلة ازدهر فيها شعر التفعيلة وقصيدة النثر والقصة القصيرة، في اتجاه من التجديد الذي أمعن في النفور من التقليد والمحاكاة والمضامين والصور الجاهزة، وغاص عميقاً بحثاً عن التشكيل المتفرد أو هياماً بالتجريب واستشعاراً لقلق الإنسان واغترابه في العصر وإشكالاته الوجودية. فبرزت بنية اللغة وتشكيلها تشكيلاً يقصد إلى الموضوعية بتدوين المحتوى النفسي الذي لا يحده منطق.

وبقدر ما شهدت مرحلة السبعينيات والثمانينيات -وهي التي يشار إليها بمرحلة الحداثة – ولادة الجدل حول النظرية الأدبية والمنهج النقدي الذي دشنه كتاب سعيد السريحي شعر أبي تمام بين النقد القديم ورؤية النقد الجديد (1983م) وكتاب عبدالله الغذامي الخطيئة والتكفير: من البنيوية إلى التشريحية (1985م) اللذان أبرزا أهمية اللغة والأسلوب وما يندرج في إطارهما.. وبقدر ما تصاعدت وتيرة الأمسيات والندوات الأدبية، وطباعة الدواوين والمجموعات، واشتعال الصحافة بنجومية شعراء ونقاد هذه المرحلة، فقد كانت شكوى الغموض والإبهام شائعة تجاه أدب الحداثة ونقدها، حتى ليمكن القول إنها ظلت محصورة في دائرة الفاعلين فيها، وقليلاً ما لفتت انتباه القارئ العادي، بمنطق الاختيار الحر واللذة الذاتية للقراءة.

ولهذا كان تصاعد الرواية في التسعينيات وما تلاها دالاً من وجهة الانتشار في مستويات القرَّاء العاديين أي غير المتخصصين. فبالرغم من أن دواوين الشعر ومجموعات القصة القصيرة لا تزال حاضرة في المطابع ودور النشر، وما زلنا نعد في كل عام عشرات من إصداراتها الجديدة، فإن توزيعها يبقى محدوداً، وبعض كبريات دور النشر تمتنع عن نشرها فضلاً عن أن المؤشرات الإحصائية للعام الماضي تدلل على الانحسار الكمي نسبياً للشعر، والتقدم للرواية. ولنعد، في هذا الصدد، إلى بعض إحصائيات الببليوجرافي خالد اليوسف عن الإصدارات السعودية في المجال الأدبي، ففي عام 2003م بلغ عدد الدواوين الشعرية 64 ديواناً، ومجموعات القصة القصيرة 31 مجموعة، في حين بلغ مجموع الأعمال الروائية 27 رواية. ويقفز عدد الروايات في عام 2006م إلى 41 رواية، يقترب إنتاج المرأة فيها من التعادل مع إنتاج الرجل (20 رواية للكاتبات و21 رواية للكتَّاب)، وبنتيجة أخرى مدهشة هي دخول 20 كاتباً وكاتبة لم يسبق لهم الكتابة في أي مجال أدبي قبل ذلك، وتصاعد لاتجاه النشر في خارج المملكة بمجموع 21 رواية في مقابل 19 رواية في الداخل. وذلك في مقابل 44 ديواناً شعرياً، لـ 39 شاعراً وشاعرة، لا تزال الغلبة فيها للرجل (34 ديواناً مقابل 10 دواوين للشاعرات)، و17 من الشعراء والشاعرات ينشرون لأول مرة، وللنشر في الداخل الغلبة بـ 24 ديواناً مقابل 15 ديواناً في الخارج، و5 لم يوضح مكان نشرها.

لكن تصاعد الرواية السعودية المستمر في الحقبة الأخيرة، ليس معزولاً عن السياق الثقافي والاجتماعي في الداخل والخارج. فقد شهدت الفكرة النقدية تحولاً جوهرياً نحو النقد الثقافي الذي انصب على إبراز العيوب الثقافية النسقية وتعرية نماذجها في السلوكيات والعادات والأعراف، وفي النصوص التي لم تعد قيمة جمالية شكلية بل أصبحت وثيقة ثقافية لا تقل النكتة أو الطرفة العابرة فيها أهمية عن القصيدة العصماء. ولا تفترق القصة أو الحكاية الشعبية عن المثل أو عن الرواية أو أي مدونات تراثية تتسم بالحكمة وتنزل منزلة نفيس القول.

واتجه النقد الثقافي، جوهرياً، إلى الكشف عن أبوية المجتمع وذكوريته، وعن الاستبداد بوصفه معنى ثقافياً، وشغلت قضية المرأة والتمييز الجنسي جانباً أساساً من اهتمامه، وبرزت، في هذا الصدد كتب عبدالله الغذامي: ثقافة الوهم و المرأة واللغة و النقد الثقافي وكتاب سعيد السريحي حجاب العادة: أركيولوجيا الكرم من التجربة إلى الخطاب و نص المرأة لعالي القرشي، ومقالات سعاد المانع عن التحيز ضد المرأة و تمثيلات الجسد لمعجب الزهراني… وغيرها. كما برز الاهتمام بدراسة التحيز الثقافي لدى سعد البازعي في كتابيه: استقبال الآخر و المكون اليهودي في الحضارة الغربية إلى جانب الاهتمام بالمصطلحات والحفر في دلالاتها وسياقها المفاهيمي الذي برز في تخصيص مجلة (علامات) حيزاً في أعدادها، وفي مؤلفات ميجان الرويلي وسعد البازعي.

وتبدل ساحة الصحافة أيضاً
وما يقال عن الفكر النقدي السعودي -على مستوى النخبة- في هذه الفترة، يمكن أن يقال عن الصحافة السعودية التي بدأ هامش الحرية فيها يتسع تدريجياً منذ أزمة تحرير الكويت، ويتعزز بشكل أبعد مدى بدخول المملكة إلى ثورة الاتصالات الحديثة ممثلة في تكاثر وتنوع قنوات التلفزة الفضائية، وفسْح المجال للإنترنت، ومناخ التنافس الذي طوق المنتج الصحفي السعودي في ظل هذا الفضاء المفتوح على العالم واتساع مساحة الاختيار والتنوع، وتتويج ذلك بانضمام المملكة إلى عدد من المنظمات القانونية والإنسانية الدولية، وعلى رأسها منظمة التجارة العالمية، وتأسيس مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني.

وكان أبرز ما حققته الصحافة السعودية، في ضوء هذه العوامل، أن دخلت إلى واقع العصر الذي أصبح وعي القارئ بما يتطلبه هو مصدر القيمة التي تعلو بها درجة توزيع الصحيفة أو تنخفض، ومن هنا احتضنت كبريات الصحف السعودية كتَّاباً من طراز نقدي على درجة من الاختلاف والجرأة، مثل: إيمان القويفلي، وتركي السديري، وحسين شبكشي، وحمزة المزيني، وحمود أبو طالب، وخالد الدخيل، وخالد الغنامي، وسليمان الهتلان، وعبدالله أبو السمح، وعبدالله بجاد، وعبدالله بخيت، وعبدالله الفوزان، وعبدالله اللاحم، وعبدالعزيز الخضر، وعبدالعزيز القاسم، وعزيزة المانع، وعلي الخشيبان، وعلي الموسى، وقينان الغامدي، ولطيفة الشعلان، ومحمد آل الشيخ، ومحمد علي المحمود، ومها الحجيلان، ومشاري الذايدي، ونادين البدير… وغيرهم.

أما ظهور برنامج طاش ما طاش الشهير الذي أنتجه التلفزيون السعودي، بصيغته الضاحكة الباكية، ومراميه النقدية التي تصل إلى درجة حادة وساخنة، فدلالته تجاوزت اتساع هامش الحرية إلى التأشير على نوع من حس الذات الاجتماعية تجاه ذاتها بإحالتها إلى مادة للتندر والضحك، وإحالة وحدة تجانسها إلى تنوع، ووهم وقارها وترفعها إلى الكوميديا السوداء وما يقارب واقعية القاع وقد وجد صدقية معناه ودلالته في جماهيريته المطبقة.

التاريخ والرواية والقيمة
وقد ترافق صعود الرواية باحتضان معرفي واحتفالي من الجهات الأكاديمية والعامة، ففي الوقت الذي ظل الشعر مهيمناً على الرسائل والأطروحات الجامعية في المملكة، ويندر أن تجد أطروحة في الرواية، نجد اليوم ما يزيد على 25 أطروحة بعضها أنجز وأخرى في طور الإنجاز، وهو رقم يتصاعد بتصاعد أعداد الطلاب المتخصصين في السرد والمتقدمين بمشاريع درجاتهم العليا في الرواية. أما على صعيد النشاط المنبري، فهناك محاضرات وندوات تتوالى بشأن الرواية، وقد نظَّم نادي القصيم الأدبي ببريدة ندوة في مارس 2003م بعنوان الرواية بوصفها الأكثر حضوراً شارك فيها نحو 16 ناقداً وباحثاً، وصدرت أبحاثهم في كتاب بعنوان الندوة نفسها. كما اتخذت جماعة حوار بنادي جدة الأدبي، من خطاب الرواية النسائية السعودية محوراً لقراءاتها في موسم 2003 – 2004م التي صدرت بعد ذلك في مجلد يضم 17 قراءة، واتخذت من المجتمع المحلي في الرواية العربية محوراً في موسمها 2005 – 2006م، فضلاً عن اهتمامات أبرز النقاد والأكاديميين السعوديين والعرب بالرواية السعودية المعاصرة التي تتمثل في كتب وأبحاث ومقالات عديدة.

قد نقول إن هناك تفاوتاً بيِّناً في مدى امتلاك الأعمال الروائية في موجة صعودها الأخيرة للتقنيات السردية، وأن ملمح التشابه يطغى على عدد منها، وذلك يعني أننا أمام ظاهرة أقرب إلى الموضة سواء في جهة الاستسهال أو في جهة التجديد الشكلاني المنفصل عن تجربة الحياة والوعي بالتاريخ وما يهدد القيم الإنسانية. لكننا نعتقد أنها على أية حال، أصبحت خطاباً قادراً على ممارسة سلطة ما، بأهمية إيجاد مسافة تفصل عن الواقع المصنوع إعلامياً والمغلق اجتماعياً، إنها شكل من الاحتجاج، أو هي اكتشاف الحرية والتعبير عنها، ولا بد أن يقود تراكمها، خصوصاً والرواية شكل مرن وقادر على التجدد، إلى إثراء نوعي للثقافة السعودية، وإلى تطوير كتابة تستوعب العصر وتميز ما ليس ممكن الوجود في أي عصر آخر خارج المدار المحلي.

إن بطولة المرأة السعودية، سواء كانت كاتبة للرواية أو مكتوباً عنها فيها، هي -كما يبدو- مفتاح الرواية السعودية للبحث عن معنى التاريخ أو لا معناه، ولا يمكن أن نفهم انفجار الرواية السعودية في الحقبة الأخيرة دون أن نأخذ بعين الاعتبار ما تمثله الرواية للمرأة وبها. وبذلك تصدق نبوءة الطيب صالح الذي قال ذات مرة: إذا كان في الخليج أدب حديث وأصيل فسيكون مكتوباً على يد امرأة أو ما كتبه محيي الدين اللاذقاني في جريدة الشرق الأوسط، قائلاً: إن الفن المرشح للازدهار في الخليج العربي خلال السنوات القادمة هو فن الرواية… ولكن الفصل الأكثر إثارة سيكون مكتوباً بالأقلام النسائية .

إن المشكلة التي تواجه، اليوم، كتَّاب الرواية السعوديين، لا سيما المرأة الكاتبة، تكمن في النقد الصحافي وفي الرقابة؛ فنقَّاد الصحافة الذين يسبغون المديح لأسباب لا علاقة لها بالإبداع والفن، ويصنعون بالمبالغة والاستعجال نجوماً لا قدرة لهم على الإضاءة والتحليق والصمود، يفسدون المواهب وينزعون منها المكابدة والجهد وحوافز الثقة. أما الرقابة فقد دفعت، من حيث لم تقصد، إلى مسلك للنجومية الرخيصة في الكتاب (الممنوع) الذي أصبح أكثر رواجاً وطلباً، وأدعى إلى الاشتهار والظهور على القنوات الفضائية، وهو في أحيان كثيرة بلا قيمة إنسانية وإبداعية!

مرحلة انتقالية فوضوية وخلاَّقة
حمى سردية ومزايدة على العناوين
خلافاً للتشبيه الشائع الذي يصف تساقط قطع الدومينو .. تشكِّل الحالة التي نحن بصدد عرضها ما يمكن ربطه بتصاعد تلك القطع عوضاً عن وقوع أحدها، والتي تجرُّ من بعدها تساقط ما تلاها، فلقد شهدت الساحة الأدبية الفترة الماضية طفرة روائية (نسائية خاصة) تَصَدَّى الإعلام للحديث عنها (وما زال) في حالة لم يسبق حضورها قبلاً، إلا أنَّ الشاهد الذي يتقاطع مع التشبيه السابق يتمثَّل في تجربة الشابَّة رجاء الصانع بروايتها بنات الرياض التي أسَّست قطعة الدومينو الأولى، والتي أخذت القطع الأخرى تتصعَّد من بعدها: سارة العليوي/سعوديات ، وردة عبدالملك/الأوبة ، صبا الحرز/الآخرون وغيرهن.

وبعيداً عن الحكم على الأساليب التي اتُبعت في هذه السلسلة من الأعمال، يمكن الاتفاق على كونها تجارب غضَّة ظهرت في الساحة على حين غرَّة بعملٍ أول انتقي له القالب الروائي، تلعب على وتر المحاذير الاجتماعية وما يعدُّه البعض خطوطاً حمراء! مما جعل ذلك العامل المسوِّق الأول لهذه الأعمال، والذي حمل هذه التجارب المغمورة إلى الضوء الإعلامي.

ومن ناحية أخرى نجد أنَّ هذه الموجة واكبها كذلك مدٌّ روائي رجالي، أفرز عدداً من التجارب الشابة التي لعبت في موضوعاتها على المحاذير والتصعيدات ذاتها، وإن اختلفت كمية التعاطي الإعلامي معها، ومثالها: إبراهيم بادي/حبّ في السعودية ، و طارق العتيبي/شباب الرياض ، واللتان نجدهما تجربتين إضافة لـ بنات الرياض و سعوديات تراهنان على العنوان المثير، والرهان بدأته رواية الصانع.

فما المغري بمدينة كالرياض، أو اسم البلاد ككل ليُقحم على غلاف رواية بما يجعلها تتصدَّر الروايات المبيعة على الصعيدين المحلي والعربي؟ مع التأكيد على أنَّ التساؤل لا يتدخَّل في الحرية الإبداعية للمؤلِّف، لكن حين يصبح الأمر مفتعل الحضور دون تقاطع يُثري الحبكات على اختلافها تبرز موضوعية الاستنكار.

ألوان من الجرأة الناضجة
وعلى صعيدٍ آخر نجد أن تجارب يمكن عدُّها أكثرَ نُضُوجاً -وإن عدَّها البعض موجهةً للنخبة القارئة على عكس العرض أعلاه- ما زالت تجد في حضورها الاهتمام نفسه وإن تعرَّضت لخطوط أكثر حُمرة في الحساسية، وربما ذلك لعدم قصدها افتعال الضجة الإعلامية التي صارت موضة السرد اليوم. بل تترك لأعمالها الحديث عن نفسها، فمثلاً: عالجت الروائية رجاء عالم في روايتها ستر مفاصل مهمة في مجتمع عدد من النساء اللاتي ينتمين إلى الطبقة المترفة (وهي الطبقة التي تعرَّضت إليها الصانع في روايتها)، ويكاد القارئ أن يجزم بجرأة عالم، وحسّها السردي الأنضج، رغم عدم ملاقاة هذه الرواية الاهتمام نفسه، كذلك الأمر مع ملامح لزينب حفني والتي لاحظ القارئ جرأتها المفرطة، حتى ينتهي الأمر بـ جاهلية للروائية ليلى الجهني والتي نالت نصيباً كبيراً من الضجة قبل أعوام خلت، تزامنت مع إصدارها الأول الفردوس اليباب والذي صُنِّف الأجرأ نسائياً في تلك الفترة.

وترافق ذلك مع خط متصاعد من النضج السردي لأسماء أخرى مثل عبده خال الذي كانت آخر رواياته فسوق ، ويوسف المحيميد بـ نزهة الدلافين . وإنما تُعد الأسماء على سبيل التمثيل لنخبة الساحة حالياً دون النحو إلى الحصر.

ويمكننا في هذا المقام التأكيد على أنَّ حمى الرواية أخفتتْ حضور القصة القصيرة، التي كانت محل حظوة في السنوات الخمس الماضية تقريباً، مما جعل النقاد يراهنون على أنه عصرها الذهبي، إلا أن الأمر يبدو وكأن القصص القصيرة كبرت بما يكفي لتصبح روايات!.

تراجع الشعر وتقدُّم الشاعرية
على صعيد آخر يواجه ديوان العرب (الشعر) ما يكفي من الإشكالات التي لم تعد تجعل المتلقي يجده في أفضل حالاته، ما عدا بعض الحالات التي يمكن وصفها بالبقاء على الحال ذاته، إذا أمكننا اعتبار ذلك أمراً جيداً!.

فقد قلَّت نسبة الإصدارات الشـــــــعريــة مقارنة بالسرد. فمن الواضح لمتتبع المشهد الشعري الحالي أن انشغال الكتَّاب بنقل التفاصيل الحياتية لنصوصهم بصيغة بسيطة الطرح في الكثير من الإنتاجات، إلى جانب غياب القضايا الكبرى والهوية الخاصة، جعل النتاج متشابهاً في الغالب.

ومن ناحية أخرى يمكننا عدّ قصيدة النثر آخر الأساليب التي اعتنت بتطوير الشعر رغم كل الانتقادات التي تطالها، حيث يرى الكثير من النقاد بل وحتى المتلقين أنَّ عدداً كثيراً من الكتَّاب خلطوا في تعاطيهم بين فن النثر وقصيدة النثر، إلى جانب الرفض الذي ما يفتأ أن يخرج إلى السطح جاعلاً النص الخالي من الموسيقى التي تحدثها التقاسيم الموزونة، مغضوباً عليه.

ويرجِّح البعض بالتالي أن موجة استسهال الشعر (وهي ظاهرة على المستوى العربي ككل) كان من أهم أسبابها الاتجاه إلى الشعر المنثور، إلى جانب الإغداق في نصوص الحياة اليومية، بما يشبه صفصفةً من الكلمات التي تخلو من الحس الشعري الذي يخلقه الموضوع واللغة والابتكار بقدر إمكانات الشاعر ورؤاه.

وعلى صعيد الموضوعات، نجد عدداً من التجارب التي تحاول مناهضة الطرح السابق عبر النحو إلى الغموض في الطرح، وانتقاء التراكيب اللفظية الصعبة؛ لإضفاء حسٍّ نخبوي يبعدها عن دائرة المكرر في الأمثلة السابقة. وبالتالي، يختلف التعاطي معها كتجارب تقصد الشعر ذاته، أم تتأتى كرد فعل على حالات شعرية قائمة، بما يشبه الاحتجاج المعلن!

وفي ذات الوقت، نجد غياباً كبيراً للقوالب الكلاسيكية كالشعر العمودي في الفترة السابقة، وحضوراً أقلَّ لشعر التفعيلة، في ظل احتكار كبير لقصيدة النثر للإنتاجات الأخيرة.

من ناحية أخرى، نجد بعض التجارب الشعرية التي اتجهت إلى طرق باب السرد، وإن لم تمتهن المجال. كالتجربة التي خاضها الشاعر علي الدميني في روايته الغيمة الرصاصية ، وتجربة الشاعر إبراهيم الوافي ثلاثة رابعهم قلبهم ، إلى جانب التجارب الروائية المشحونة بالشعر كتجربة محمد حسن علوان.

وبقدر الجرأة التي اكتسحت التجارب السردية، نجد أنَّ التصعيد الشعري لم يتقاطع بوضوح مع هذا التوجه، فظلَّ رهين الجرأة التصويرية، متسماً بحضور أقل للصوت السياسي، وقضايا الساعة. أما على صعيد الحضور الشعري النسائي فإننا نجد عدداً من الأسماء التي حافظت على حضورها منذ سنوات عديدة بوتيرة مختلفة من أمثال فوزية أبو خالد، هيا العريني، هدى الدغفق، ثريا العريض… مع حضور أكثر شبابية ومغايرة للاتجاه نسبياً في جرأة حليمة مظفر، والاتجاه الذاتي في قصيدة هيلدا إسماعيل كمثالين أكثر حداثة.

أحداث أنعشت الساحة من ركودها
توالت العديد من الأحداث البارزة التي أسهمت في خلق وسط ثقافي تفاءل به المبدعون والجمهور المتلقي على حد سواء. تبدَّى أجلاه بمعرض الرياض الدولي للكتاب الذي شهد انفتاحاً كبيراً على النوع والكم والتنظيم، مما أوجد معياراً عالياً من الاحترافية والرضا المتبادل بين المنظمين والحاضرين.

فقد فُتح المجال لعددٍ كبير من دور النشر التي غاب الكثير من إصداراتها عن المكتبات السعودية في فترة سابقة، كالساقي والفارابي والدراسات العربية للنشر…، والمفارقة هنا، أن العديد من منشورات هذه الدور هي لكتَّاب سعوديين يدخلون الحدود للمرة الأولى، كعدد من إصدارات عبدالرحمن منيف، وعبده خال، ويوسف المحيميد، بل وحتى بنات الرياض لرجاء الصانع… وهذا ما عدَّه البعض فتحاً مهماً في العلاقة مع الرقابة التي بدت أنها رفعت سقف الحريات الممنوحة، الذي قد يقود إلى مرحلة تعيد الإنتاج السعودي للنشر المحلي عبر دور نشر وطنية كما يؤمل.

الأندية والمؤسسات الثقافية
من ناحية أخرى كان القرار الصادر عن وزارة الثقافة والإعلام لتجديد إدارات الأندية الأدبية في المملكة، خطوة محفّزة على مرحلة انتقالية في العمل الثقافي. خاصة مع الاعتراف مؤخراً بضرورة مشاركة المرأة الفاعلة. وهذا ما أحيا حضور اللجان النسائية بصورة جادة أخرجتها من حالة الظل السابقة وإن ظلَّ بعضها متفاوت المستوى.

فعلى سبيل المثال، نجد نادي الشرقية يدشِّن آلية ديمقراطية في انتخاب اللجنة النسائية بالتصويت، ويشهد حراكاً فاعلاً بالتعاون مع عدد من الملتقيات المحلية في المنطقة، ودعماً سبَّاقاً للتجارب السينمائية السعودية الجديدة على كافة المستويات. كذلك الأمر مع نادي الرياض الذي استحدث بيت الشعر كمرفق يدعم الحركة الشعرية بعدد من الفعاليات. إضافة إلى نوادٍ أخرى كجدة، وجازان، وأبها، وغيرها.

السينما والمسرح والفن التشكيلي
ومن ثمَّ جاء تحرّكٌ آخر تمثّل في تغييرات جذرية لجمعيات الثقافة والفنون الراعية للحركة التشكيلية والفنية والمسرحية، والتي يؤمل أن تحتضن مظلتها التجارب السينمائية التي استحدثتها جهود شابة، لتضاف إلى الإنجازات الفنية الوطنية. خاصة وأنها نالت نصيباً من الضوء والاهتمام عبر عدد من الوسائل الإعلامية والمهرجانات السينمائية العديدة، ولكونها تنطلق كحركة تأسيسية لا تستند إلى إرث متراكم من هذا الفن.

ورغم النخبوية التي لازمت النظرة إلى الفن التشكيلي، والتي جعلته مقصوراً على فئات معينة من الجمهور، نجد أنه مرَّ بمرحلة انتعاش في عدد من الفعاليات بما يقرِّب حضوره إلى مختلف المتلقين، ويتيح الفرص أمام حضورٍ مغاير يضع الجمهور في الصورة، ويوجد محكات مختلفة لرؤى الفنان عبر تواصل جديد مع المتلقين.

أما المسرح فيظل متذبذباً رغم حضوره المحدود في بعض المناسبات كالأعياد. إذ نجد أنَّ الطابع التجاري غلب عليه من حيث سطحية الموضوعات، والميل إلى التهريج باسم الكوميديا، إلى جانب ضعف مستوى مسرح الطفل، وما عُرض من تجارب نسائية تؤدى لأول مرة محلياً، في ظل عزلٍ للتجارب الجادة في عروض جمعيات الفنون، والمشاركة في المهرجانات فقط من دون توثيق تلفزيوني يسمح على الأقل بمتابعة الجمهور له.

وعلى صعيد آخر قامت وزارة الثقافة والإعلام بإحداث نقلة في التعاطي مع أوساط ثقافية أخرى، تمثَّلت، على سبيل المثال، في إقامة أيام ثقافية لبلدان كتونس، وسلطنة عمان، وقريباً أعلن عن فعاليات خاصة بدولة اليمن، إلى جانب ما أقيم في جمهورية مصر من فعاليات ثقافية سعودية مما يوسِّع آفاق المتلقين والمبدعين على السواء.

أنتَ البطل!
دأبت مجلة التايمز الأمريكية على انتقاء شخصية سنوية تُصنَّف على كونها شخصية العام إلا أنَّها قررت هذا السنة كسر هذه العادة بإرفاق مرآة عوضاً عن صورة الفائز لتجعل بطل هذا العام هو القارئ نفسه. وإنني لأستعير هنا تجربة التايمز بأن أرجَّح بأنَّ القارئ الذي وصل إلى هذه المرحلة من هذا الرصد للساحة الثقافية المتقلبة / المتجددة محلياً هو بطلٌ بحد ذاته. إذ إنَّ أصعب المراحل التي قد يعايشها الإنسان على مختلف الأصعدة اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً، هي المراحل الانتقالية بما تحدثه من زعزعة لما اعتاد عليه، فكيف بالصعيد الثقافي!

فعلى سبيل المثال نجد أن القارئ الذي كان متكلاً على صدى النقاد لما يقتنيه من إصدارات، قد يُفاجأ بتذبذب الآراء بين مؤيد للتجربة أو رافض للمجرِّب / الكاتب عبر تداخل الشخصانية واللاموضوعية في النقد. كما أنَّ الكثافة في الطرح لا تسمح بمتابعة موضوعية على المدى البعيد، إضافةً إلى تتبع الإنتاج الخارجي كي لا تنحصر الثقافة بالمحيط القريب فقط.

وفي تساؤل يطرح نفسه: هل وصلت الإصدارات المحلية إلى مرحلة تجعل هذه الإنتاجات محل إقبال الجمهور! نجد أن أوضح الأرقام مؤخراً يشير إلى أن السعودية تستهلك نسبة تصل إلى %50 من الإنتاج المطبوع على مستوى الوطن العربي. وهو رقم لا يُستغرب في ظل هذا التوسع الثقافي على كافة الأصعدة. وهذا ما يتجاوز النظرة التي قصرت الاهتمام على القارئ النخبوي، ليكترث الآخرون شيئاً فشيئاً بالأسباب المختلفة التي قد تدفع بعضهم إلى مجرد الاطلاع على تجارب جديدة، أو إلى الدخول في نقاش مع محيط مهتم. إنها أسباب تختلف في مآربها.

إلا أن المسؤولية المنوطة بالكتَّاب أكبر مما سبقها، فالتفاتة القارئ العادي مكسب يجب عدم تكرار خسارته، من خلال الإسراف في النخبوية، أو في التسطيح الساذج. والوصول إلى هذا المبتغى لم يعد بالهدف البعيد في ظل هذا الانفتاح الإعلامي إذا ما أُحسن استغلاله.

ختاماً، يمكن القول إنَّ الحالة الراهنة حَرِيَّة بوصفها بالفوضى الخلاقة، إلا أن المأمول في هذا المقام هو أن تتحقق مرحلة خلاقة للساحة الثقافية تتعدى الفوضى الحالية.

أضف تعليق

التعليقات