قول آخر

أنا البحر في أحشائه الدر كامن..
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

أثار فيلم وثائقي أردني بعنوان العربيزي الجدل في الأوساط المثقفة. السخرية الفائحة من عنوان الفيلم (العربي + الإنجليزي = العربيزي) تخبرنا عن تعرُّض الفيلم لمسألة شيوع التحدث باللغة الإنجليزية بين الشباب في الأردن، وكيف طغت مفردات لغة العولمة على أحاديث الأسر. يحاول الفلم تسليط الضوء على هذه الظاهرة بكونها انعكاساً وليس سبباً لثقافة ونمط تفكير وأسلوب حياة.

ولا بد من الكتابة عن هذه الظاهرة المتوقعة، ظاهرة انبعاث لغة جديدة لا شيء يجمع بين شتاتها، لغة لها حروفها وأبجديتها، ولها أساليبها وتراكيبها. لكنها هجينة. وقاعدتها الأولى في تركيب أية جملة من مفرداتها هي أنه لا قاعدة ، كل ما عليك أن توصل المعنى للمقابل بالطريقة التي تحسنها ويستطيع هو فهمها!

ربما يكون هذا واضحاً أكثر ما يكون في رسائل الجوال وبرامج المحادثة الكتابية على الإنترنت، التي أسهمت بدورها بشكل كبير في تقليص الأبجدية العربية والأجنبية على حد سواء: فبدلاً من الابتسامة يكفيك أن ترسم وجهاً ضاحكاً، وبدلاً من أن تكتب الكلمة بحروفها كاملة، يكفيك من حروفها تلك التي تعبِّر عن المعنى. غيضٌ من فيض: هذا ما يؤكده شبان المملكة الذين استحدثوا هم وشبان العالم العربي لغة خاصة بهم يتحدثون بها ويتجادلون عبرها، ويخوضون بها نقاشاتهم التي تبدو -بسببها- غير جادة للآخرين، بينما يبدو مجرد استهجانها سلوكاً عقيماً في نظر الشباب العربي الذين يمثلون الشريحة الأكبر من بين الـ 75 مليون حامل للهاتف الخلوي في الشرق الأوسط. بل أكثر من ذلك، يبدو باعثاً للسخرية، فالشباب العربي يتساءل عن جدوى مقاومة هذه اللغة الهجينة، ويتساءل أكثر عن سر اليقظة المتأخرة.

يحكى أن معلماً شاباً للغة العربية كان يحاول جاهداً لفت نظر طلابه المنشغلين بأي شيءٍ آخر عدا ما سماه إبداعاً من قبل امرؤ القيس في معلقته الشهيرة، حين سأله أحد الطلاب: هل تظن أن امرَءَ القيس سيفوز بلقب شاعر المليون لو أنه شارك بهذه القصيدة؟ المعلم قبل الطالب كان يعلم أن ثلاثة أرباع الجمهور المتابع لبرنامج شاعر المليون لن يفقه مفردةً من مفردات قصيدة امرئ القيس التي علقتها العرب على أستار الكعبة كجائزة مجازية تفوق قيمة المليون التي فاز بها الشاعر الشعبي (ابن فطيس) في البرنامج الجماهيري.

يعلم المعلم والطالب أن آخر عهد اللغة العربية بذائقتها الأدبية التقليدية كان قبل أكثر من قرن على الأقل. ويعلم الجميع كذلك أن الإنسان العصري قد قام بعملية إعادة انتشار لخارطة القيم الإنسانية على مستوى الحضارات جميعاً. بعد كل هذا سيكون أمر مقارنة امرئ القيس بشعراء برنامج شاعر المليون -إضافة لسطحية هذه المقارنة- أمراً من دون فائدة. فذائقتنا الأدبية لم يسرقها أحد لأننا أصلاً لم نتعرف عليها ابتداءً، كوننا ولدنا على وقع الحروف الإنجليزية المعجونة بنكهات مختلفة ربما كان أكثرها وضوحاً اللغة العربية. لكننا نبقى -في نظري- مشردين لغوياً كنتيجة تلقائية لكوننا لاجئين حضارياً. بمعنى آخر: إن كنا نريد استعادة الحالة العشقية المتبادلة بيننا وبين لغتنا الحبيبة علينا أن نعود ثقافياً إلى أنفسنا، وحتى ذلك الحين، سيبدو حديث امرؤ القيس عن الليل في معلقته، في نظر الكثير من شبابنا، هذياناً محضاً.

أضف تعليق

التعليقات