فقدت الجغرافيا العربية هذا العام اثنين من أبنائها الكبار، أو قل اثنين من أهم وأعظم مفكريها وكتَّابها. رحل نقولا زيادة في ليلة ساخنة من ليالي حرب بيروت الأخيرة، ورحل نجيب محفوظ محفوفاً بعاطفة المصريين الشعبية في مستشفى الشرطة في القاهرة. اشترك الاثنان بطول العمر (زيادة 99 عاماً ومحفوظ 94 عاماً) وبقائمة طويلة من الكتب والمقالات وسيل، كما يروي حرافيشهما، من التعليقات والطرف التي تغرف من مخزون الزمان والمكان.
قُدِّر لزيادة، المسيحي والحاصل على الدكتوراة في التاريخ الإسلامي، أن يرحل طويلاً عبر الهلال الخصيب من دمشق إلى جنين وعكا وبيروت، وكتب محفوظ على نفسه أن يبقى مسمراً في مصر حتى آخر قطرة من عمره، حتى أنه لم يرحل إلى حيث يتقلد منصب الفائز بنوبل للآداب، وترك هذا الشرف لمن يقدر على مفارقة أنفاس القاهرة ونفائسِها وبسطائِها.
وما يلفت أمثالي، من المحبين والمريدين، في الرجلين الكبيرين أن أياً منهما لم يصنع أجنحة ليطير بها إلى باريس أو لندن أو براغ أو إلى أي ظل أجنبي، مثلما فعل كثيرون من أدباء وشعراء العربية تحت طائلة حجج تبدأ بأفق الحرية المتاح وتنتهي بلذة الاغتراب والمعاناة.
لم يكن شرطاً عند عبقري الرواية العربية نجيب محفوظ أن تصاب بالاغتراب لتصبح مبدعاً، خاصة إذا كان اغترابك هو مجرد شهوة مكانية تسجل من خلالها موقفاً من مكانك وزمانك العربيين، حتى لو كان هذا الزمان وهذا المكان موجوعاً ومتأخراً عن غيره. كما أنه لم يكن ضرورياً عنده أن تتجنب الفصحى وتكتب بالعامية ليرضى عنك من يدعونك لاتباع ملة التحديث والواقعية. الانتساب قيمة قصوى للكاتب، وقد تعامل معها الراحلان الكبيران بمنتهى الجدية وبمنتهى الإصرار، حتى أنهما علَّما أجيالاً من مريديهما وقرَّائهما من المحيط إلى الخليج أن الإنسان المبدع إذا لم يشرب من ماء بلده تتقرح أفكاره وقد يصاب بلوثة تأخذه أبعد مما كان يتصور، بعد أن قرر أن يحط على أشجار غريبة، لا يستظلها ناسه ولا تمت لواقعهم ومعاناتهم وإرهاصاتهم اليومية بأية صلة.
لقد أسقط شيخ التاريخ وشيخ الرواية العربيين نظرية التمدد عالمياً من أجل محلية أفضل، فهما من خلال انتسابهما لهذه المحلية، بل وإيغالهما فيها تمددا عالمياً حتى أصبحا علمين دوليين لا تكتمل دائرة البحث في التاريخ وتطور الرواية دون حضور أوراقهما المغلفة بأنفاس الداخل، المحلي والعربي. ومن هنا كسبا كثيراً من احترامهما، كما كسباه من صداقة القلم الدائمة ورَفعِه على كل قيمة سواه في حياتهما، حيث فضَّلا ظل صداقة القلم على صداقة الشاشات والأضواء ومكبرات الصوت، التي استأثر بها من لم يبلغوا معشار ما بلغه أحدهما.
أخلص الراحلان لعلاقتهما بالحرف فلم يسمحا لأحد أن يطأ على ظله الممثل بهما وبغيرهما ممن احتفظوا، رغم العواتي والمغريات، بمساحة شاسعة بينهما وبين من يتربص بهما وبمخرجاتهما الفكرية والأدبية. ولذلك بقي ذكرهما مشروطاً بكل الوقار وبكل الاحترام، حتى من بعض من سجل بعض المواقف في حياتهما الطويلة الحافلة، أو درسهما ونقدهما بشيء من الحدة والتقليل من شأن قيمتهما الفكرية والأدبية.
ففي السواد الأعظم من الكتابات، لا تُذكر لأي منهما محاولة واحدة لفرز الناس والنصوص على قاعدة انتهاز الفرص أو تسجيل أهداف في مرمى الغيرة والتحاسد، كما هو شأن المثقف العربي بصورته العامة، حين لا يعترف بأحد غير نفسه ولا يؤمن بقدرة أدبية غير قدرته. وأتصور أن جائزة نوبل لو ذهبت لشخص غير العملاق نجيب محفوظ لبقينا سنوات طويلة موعودين بإطلالات هذا الشخص اليومية عبر كل الصحف والبرامج التلفزيونية.
لا أذكر شخصياً متى رأيت الفائز العربي بجائزة نوبل على شاشة التلفزيون. ولا يعود ذلك، بطبيعة الحال، لرداءة متابعتي، وإنما لكونه، فيما أتصور، اختار الجماهيرية الصامتة على عيون الكاميرات التي تنهش من قيمة ضيوفها حتى يصبحوا تقريباً بلا قيمة من كثرة ما يكررون وجوههم وأحاديثهم. وهكذا فعل العملاق الآخر نقولا زيادة، فمن يعرف له أحاديث تلفزيونية قريبة أو حديثاً واحداً فقط فليخبرني به. لقد كانا أكبر من عصرهما الضوئي وشاشاته ورغبات مذيعيه وسماجة بعضهم في بعض الأحيان. ولا أستبعد أن يكون أي منهما قد اختبر لغة المذيع الفصحى فوجدها ضحلة فصرفه إلى غيره ممن يتعشقون الظهور بغض النظر عن مستوى أو ثقافة من سيحاورهم.
ويبقى أنني لن أستطيع الوفاء برثاء العملاقين، وعذري أنني لست سوى ريشة في مهبهما وهيبتهما وحضورهما الطاغي طوال قرن من الزمان. لكن ما أريد أن أشدد عليه بهذه المناسبة أن ما غرفناه من معين فكرهما ونصوصهما، مع غيرهما من أهل الفكر والثقافة المخلصين النادرين في حياة أمتنا، هو الذي يجعلنا نقف على أقدامنا إلى الآن. وإذا لم ترزق هذه الأمة بمن يعوِّض الراحِلِين الكبار فإنها ستفقد أقدامها وتتدحرج، كما هي مهددة الآن، إلى هاوية السطحية والاستسهال والصراع على المغانم الذاتية.