تقريباً لم يبقَ قلم عربي لم يتناول تقرير التنمية الإنسانية العربية 2003م. وبينما ذهبت كثير من الأقلام إلى اعتباره تقريراً (متربصاً)، سياسياً في غالبية ما نقله، رأت أقلام أخرى أنه جدير بالتدقيق والتمحيص، وأنه لا بدّ من الاعتراف العلني ببعض أو جلّ ما ورد فيه.
والأهم بالنسبة للكثيرين أن هذا التقرير الذي عُني بوضوح بمجتمع المعرفة أوجد رغبة في إعادة تعريف “المعرفة” ذاتها. وإذا شئتم فقد أصبح هناك ما يكاد يكون نسفاً لمجتمع المعرفة بمفهومه التقليدي ليحل محله مفهوم جديد بالكلية، يخضع لمعايير ليس أقلها العولمة، التي أفرزت ما يجوز أن نسميه: مجتمع المعرفة المعولم.
وفي الطريق إلى التعرف إلى ملامح هذا المجتمع (القديم الجديد) لم يكن مستغرباً أن نجد من يعتبر العولمة مزية كبرى لبناء مجتمعات المعرفة والمعلومات الحديثة، ومن رأى أن عولمة مجتمع المعرفة حدث بشري خطير لأنه يفرض مساراً واحداً على جميع المجتمعات ونشاطاتها الاقتصادية، بل إنه أكثر من ذلك، سيفرض بطبيعة معطياته وتطبيقاته، على هذه المجتمعات أن تصل إلى النقطة نفسها على مسار التنمية والتطور الاقتصادي والثقافي.
ويدلل القارئون لما يسمونه مأزق مجتمع المعرفة المعولم على خطورة التسليم بهذا المبدأ بأخذ الدول الفقيرة مثالاً على الوقوع في مأزق المسار الواحد. فهذه الدول حين تحاول معالجة أسباب تأخرها تتبع نهج القفز من مستوى اقتصادي أو ثقافي إلى آخر، الأمر الذي قد ينجح في حالات قليلة جداً، بينما يشكل اختزالاً أو (فجوات) اجتماعية لن تعرف ملابساتها إلا بعد حين.
في المقابل يطالب أنصار مبدأ عولمة المعرفة بأن تُحني الدول الفقيرة رأسها لعاصفة المعرفة الحديثة، لأنه لم يعد بإمكان أحد أن يمارس في محيطه الخاص تلك المعرفة العفوية التي تنتج عن جهود وقتية متقطعة لا تؤدي إلى تلك النتائج الكبرى التي تؤدي إليها المعرفة الجماعية المنظمة والمستمرة، ذات التأثير المباشر على حياة الناس.
ولذلك فقد بدأ، منذ سنوات، التطلع إلى بناء مقومات جديدة لحيازة المعرفة لدى أي مجتمع، وبينما نجحت دول أخفقت أخرى، لأنها لم تقبل بهذه المقومات أو أنها اختارت أن تطبقها مجتزأة حذراً من جرأتها وتجنباً لما يمكن أن تحدثه من أثر غائر في أعماق المعرفة التقليدية.
لكن، مهما يكن من أمر القبول أو القبول الحذر، أو حتى القبول القسري لفروض مجتمع المعرفة الحديث، فإن الركيزة الأولى لمجتمع المعرفة الحديث هي الذهنية الجمعية العريضة المستندة إلى العقلانية في تناولها لشؤون حياة المجتمع ضمن وتيرة منظمة ومستمرة.
ثم إن هناك النظام السياسي الذي يرتب الأدوار والعلاقات ويوجه الموارد والطاقات، والنظام الإداري الذي لا يستقيم مسار تطبيقات مجتمع المعرفة الحديث من دونه. وبالدرجة نفسها من الأهمية لا بد أن يرتكز هذا المجتمع إلى درجة أكبر من تقبّل التغيير وأن يضع نظام التعليم موضع القلب من همومه. عندها فقط يمكن أن نناقش بقية مسائل مجتمع المعرفة المُعولم.
ويبقى لدي تعريف لمجتمع المعرفة أستله من طلال أبو غزالة، رئيس المجمع العربي للإدارة والمعرفة، يقول: “إن مجتمع المعرفة يعلم ويتعلم، ويتواصل، ويبتكر، ويحتكم، ويتاجر ويضع الأنظمة ويتقدم في كافة جوانب الحياة من خلال استعماله للتقنية الرقمية. إنه المجتمع ذو الجهاز العصبي الرقمي الذي يستخدم الإمكانيات غير المحدودة لإدارة المعرفة لتحقيق مزيد من التقدم”.
أعتقد أننا بذلك عثرنا على تعريف كثير التفاصيل لمجتمع المعرفة الحديث، ربما نعود إليه فيما بعد لنجعل بعض ما ورد فيه أكثر اتساعاً وشمولاً.