الشائع اعتبار العفوية تصرفاً إنسانياً يتم بمنأى عن سلطة الوعي الذي يقيس الأشياء من مختلف جوانبها قبل الإقدام عليها. ويُستنتج من ذلك أن العمل العفوي يفتقد إلى التحكم، وينتج عن نوع من التسيب أو رد الفعل اللامبالي أو التفلت من أجهزة التصويب التي يمتلكها الإنسان. وهذا يؤدي أيضاً إلى اعتبار العفوية حركة ابنة ساعتها تحصل دون تهيئة وجهد وتحضير. إلا أن حقيقة العفوية -تلك العفوية التي تحمل عطاءً رفيعاً من التعبير مهما كان شكله- هي غير ذلك.
وهذه الانطباعات جميعها لها ما يبررها، فالتعبير العفوي يظهر فعلاً وكأنه يحدث عفو الخاطر ، وبأنه ابن لحظة معينة وحسب. ويعزز من هذا الانطباع الخادع براعة, الكثير من العفويين .
فالتعبير العفوي ليس عفوياً للدرجة التي يبدو عليها. وإذا كانت للعفوية سمة الحدوث دون مقدمات، أو أنها تتم كتعبير يتصل بموقف طارئ، إلا أن المادة التعبيرية التي تتكون منها إنما يتم استقاؤها من مخزون حسي ثري ومعقَّد داخل النفس الإنسانية. وبقدر ما تلعب اللحظة دور المحرك للمشاعر التي تُخرج هذا التعبير، بقدر ما يفعل التعبير في مادة تلك اللحظة ليعبِّر عما هو مختزن في النفس على امتداد زمن طويل وبتراكم تفاعلي ومعقَّد. وإذا جاز القول إن اللحظة تغني نفسها عبر التأثير في نفس هذا المبدع أو ذاك، كذلك فإن هؤلاء يستخدمون اللحظة كي يحملوا تعبيرهم هذا مكنونات أنفسهم ورؤيتهم ومشاعرهم بما قد يتجاوز ظروف اللحظة .
ويخطئ من يظن أن هذا التعبير خالٍ من الحضورالنفسي الواعي أو التحكم الفكري الناضج. فمصدر هذا التعبير مكونات حسية وفكرية تراكمت في النفس وخضعت لفعل الفكر والإحساس، ولمراجعات واعية وغير واعية لتصبح مادة ثرية ومؤثرة.
وفي لحظة اجتماعها وتهافتها لتكوِّن في اللحظة ذاك التعبير الموفق الذي يكتسب إعجاب المتلقين، فإنها تمر في مسيرتها عبر مخارج، تخضعها للتدقيق والتهذيب. إن التعبير العفوي ليس تعبيراً فاقداً لعوامل التحكم، بل ربما يكون أكثر أشكال التعبير خضوعاً لها. لكن عناصر التعبير العفوي هذه وصلت إلى درجة من النضوج والصفاء ما حررها من سمات الصنعة والتكلف. وما قد يبدو على التعبير العفوي من سهولة ويسر الحدوث خادع أيضاً. إذ إن لحظة التعبير العفوي قد تستنفر الطاقة النفسية والعصبية بكثافة وترفعها إلى توتر لا يستطيع قياسه إلا صاحبها.
إذا كان نقاش أية سمة من سمات النفس الإنسانية عاصياً على التبسيط وتجريدها من العناصر النفسية الأخرى قد يجانب الحقيقة في وجه من وجوهه، فإن ذلك ينطبق على هذه السمة الإنسانية أكثر من غيرها. فتلك العفوية المتصلة بالتعبير الإنساني الخلاَّق ربما تكون أكثر تعقيداً وأصعب وصفاً وتشريحاً من غيرها. لأنها قد تكون أسمى هذه السمات، ولا يجوز أن تترك للانطباعات السهلة. خاصة أنها من الصفات التي يتزايد استخدامها وإطلاقها في حياتنا اليوم أسوة بصفات أخرى لا تقل مكانة، كما أنها لا تقل صعوبة على المعرفة اليقينية, مثل الإبداع والرؤية الخاصة وغيرها. وقد تعرضت جميعها لتأثيرات الثقافة السهلة.