الرحلة معا

أثقال المعرفة المعاصرة

تتعرض الثقافة بأشكالها التقليدية لهجمة شرسة من منابرها القديمة لحساب الثقافة الجديدة أو (المودرن)، حيث لم يعد الناس يتعاطون القصيدة والنص السردي، أياً كان منبته وهويته، بشغف كما كان يحدث في السابق. الشاعر يتوارى خلف نصوصه (المحدودبة) والقاص يتمنى لو يباع من مجموعتة ألف نسخة في الغرب وعشر نسخ في بلاد العرب. الرواية فقط، فيما يبدو، بقيت صامدة لأنها أحدث الأجناس الأدبية وأكثرها مواءمة لأنفاس الإنسان الجديد، الذي ربما وجد فيها باباً واسعاً للخروج من حقيقة عصره إلى مجموعة حقائق متخيلة أو مغيبة. أيضاً الرواية بالذات، وأنا هنا قارئ ولست ناقداً، استطاعت أن تصمد في وجه العاصفة لأنها تقتات على يوميات الناس وفضائحهم ومفارقاتهم السياسية والاجتماعية. ولذلك يمكن اعتبارها أذكى الأجناس الأدبية على مر التاريخ البشري. كما أنها، أي الرواية، متجددة، تغسل نفسها كل يوم بالمستجدات، بينما وقع النص الشعري المعاصر في غباء الطلاسم والرموز. ولذلك قال شاعر عربي مرموق ذات يوم إنه يطبع دواوينة الشعرية ويهديها لأصدقائه، أصدقاء الطلاسم.

الكتاب الثقافي التقليدي بدوره ترك مكانه لكتب حديثة ليس مجالها الأدب أو الثقافة بشكلها التقليدي، بل هي مهتمة بالإدارة والأعمال والاقتصاد والسلوك البشري المرتبط بالأداء والإنتاجية على طريقة الواحد زائد واحد. هذه الكتب الحديثة تبيع الآن، حتى بالعربية، مئات الآلاف من النسخ، ويشتريها الرجال والنساء والكبار والشباب لأنها تتعامل مع الهم اليومي الذي أصبح يشغل الإنسان الواقع في ورطة الفردانية والمنكفئ على التطوير الذاتي لمهاراته العملية البحتة والحياتية العامة. بات الإنسان مع النمو الهائل لرأس المال الصناعي والخدمي يبحث عن مخارج أدبية مختلفة يبني على أساسها مكتسباته الذهنية ليكون دائماً أفضل إذا ما قورن بالآخرين على أساس المغنم المادي وليس المغنم الفكري الثقافي.

ولذلك وجد التلفزيون حضوره الطاغي والهائل في عالم اليوم بعد أن تحوَّل إلى طاحونة (ثقافية) بمفهوم معاصر. وإذ سقطت بعض التلفزيونات في مطبات الاستسهال والفراغ الفكري مستجيبة لنوازع الماديات ومداعبة الأخيلة والغرائز والبطون، أفرغت تلفزيونات أخرى شحناتها الإيديولوجية والفكرية في رؤوس المشاهدين عبر برامج تنقل الصورة الحية مع الصوت ليشكلا (الصورة والصوت) رسالة لا يمكن أن تخطئها العين، حتى وإن لم يقبلها عقل المشاهد في بداية الأمر. فالتلفزيونات المؤدلجة تمارس، مع سبق الإصرار والتحكم، أسلوب الإلحاح البصري لتخلق انطباعات متغيِّرة تؤدي، بدورها، إلى تشكيل أفكار متغيِّرة. وقد نجح بعضها في ذلك إلى الدرجة التي أصبح فيها المشاهد يعلن دون أدنى تردد أن قناعته تجاه أمر ما، الممتدة لأكثر من عشرين سنة على سبيل المثال، غيَّرتها بشكل كامل مشاهدته لهذا البرنامج الحواري أو ذاك المسلسل الذي تمتع بحبكة درامية جاذبة ومؤثرة.

ولذلك انتقل بعض المفكرين والساسة من الكتاب بصورته التقليدية إلى شاشات التلفزيون مع قناعة منهم بأن الصورة التلفزيونية بمليون كلمة، وليس بألف كما هي الصورة المطبوعة. وإذا كانت صورة تلفزيونية واحدة بمليون كلمة فلكم أن تتخيلوا كم عدد الكلمات التي يختزنها المشاهد ويرتب على أساسها أفكاره التي تنتج بطبيعتها ثقافته الشخصية. إن الأمر صعب التخيل حيث يمكن أن يصل مجموع الكلمات التي يختزنها من مشاهدة ساعة واحدة فقط إلى مليارات الكلمات. وبالتالي لا بد أن يصاب بغثاء فكري يصعب معه فرز الغث من السمين، لتولد، تبعاً لمعطى التلفزيون الثقافي، أجيال من الحائرين المشتتين بين أخيلتهم وغرائزهم.

أما ما قد يصيب الناس بالدوار فهو سيل الكلمات عبر شبكة الإنترنت بكل اللغات، فإذا صب هذا السيل في وادي التلفزيون المعاصر فإن ما يحدث بالضرورة هو (تسونامي) معرفي يزلزل القناعات والأفكار، بل ربما يزلزل السلامة النفسية لمن يضع قدمه في مجرى هذا الوادي. ولذلك تنادت أمم الأرض حين ظهرت نوايا الإنترنت، لتحمي مكتسباتها المعرفية وأفكارها الخاصة التي تراكمت عبر قرون من الزمن. خاف الناس في كل مكان من هزَّات المعرفة غير المحسوبة وغير المسؤولة ضمن ما تعارفوا عليه من قيم هذه المعرفة، التي تقوم على ركائز البناء والاحترام والعطف والمسؤولية الوطنية الاجتماعية.

الآن وقد أصبحت زلازل المعرفة تهزنا كل ساعة، بل كل دقيقة صار لزاماً أن تبنى قواعد جديدة لتلقي المعرفة (المسؤولة) وهضمها بشكل صحيح بحيث يصبح من الممكن المحافظة على الركائز التقليدية، من غير أن نفقد نعمة تزايد المعرفة أو نكفر بهذه النعمة. ما يفترض أن نسعى إليه هو الحضور الكامل في أودية هذه المعرفة مع خلق مساربنا الخاصة ضمن هذه الأودية، بحيث يمكننا الامتناع أو الانسحاب أو المشاركة أو التفاعل وقت نشاء. وأعتقد أنه لا يمكن لأحد أن يجابه أثقال المعرفة التي ننوء بحملها الآن أكثر من التربويين، الذين ربما يحملون نفس الأثقال، لكن لا بأس من إلقاء هذا الثقل التربوي عليهم لينقذوا الأجيال القادمة من مغبة الوقوع في طاحونة المعرفة الهائلة التي تعرِّضهم لمضاعفات خطيرة من جرَّاء زيادة جرعاتها.

أضف تعليق

التعليقات