ديوان اليوم

الموقف الإنساني في القصيدة

  • 74a

«الموقف الإنساني» الذي يشغل المحدثين في الشعر العربي اليوم، والذي بات يحتل الأولوية على حساب الصناعة. والتقسيم التقليدي للشعر العربي القديم، ليس جديداً كما يتوهم البعض.
الناقد جهاد فاضل يختار لنا عينات من الشعر القديم وصولاً إلى شعراء المهجر، ويتوقف ملياً أمام المتنبي وشوقي بشكل خاص، تؤكد حضور المواقف الإنسانية على اختلافها وبالعمق في نسيج القصيدة العربية منذ أقدم العصور وحتى القرن العشرين.

فقد التقسيم التقليدي للشعر العربي القديم في السنوات الاخيرة الأهمية التي أُعطيت له على مدار القرن العشرين. فلم يعد الباحثون المحدثون يُعنون بما كان يُعنى به الدكتور طه حسين ورفقاؤه من تقسيم للشعر إلى فخر ومدح ورثاء وما إلى ذلك. وتبعاً لذلك تراجعت أهمية «الديباجة» و «الجزالة» و «الصناعة»، وتراجع معها جرير والفزدق والأخطل لصالح «الموقف الإنساني» في القصيدة. ولتوضيح ذلك نشير إلى أن البيت القائل:
وتحسب أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

بات يستأثر باهتمام الباحث اليوم أكثر بما يستأثر ديوان هذا الشاعر الأموي أو العباسي أو الأندلسي في مدح هذا الحاكم وهجاء ذاك. خاصة وأن مثل هذا البيت، ولو أنه يتضمّن تأملاً فكرياً أو فلسفسياً في جوهره، ليس مما يضيق به الشعر. فإذا كان الشعر يضيق «بالثقافي» ، فهذا البيت، على ثقافته، يُغني القصيدة ولا يفقرها. أليس في هذا الوصف الجامع المانع لشعور الإنسان بالضآلة والمحدودية، جرعة معنوية تشدّ من أزره، وتصلّب من عزيمته، وتدفع به إلى الثقة الكاملة بما هو فيه؟

الفكر والشعر.. يلتقيان
قد يقول قائل إن هذا البيت يصبّ في عالم الثقافة والفكر والفلسفة فلا ننفي ذلك. إذ على الرغم من ثقافته، فإن الشعر لا يفارقه. فهو فكر كما هو شعر. بل أن كمية الشعر فيه قد ترجح كمية الفكر. فمن قال أن الفكر فكر وأن الشعر شعر ولا يلتقيان؟ أليس المعرّي مفكّراً وشاعراً في الوقت نفسه؟

وتحسب أنك جرم صغير… لا يزال يحتفظ بالجدة والحداثة إلى اليوم، وكأنه صناعة إنسانية لا يلحقها تقادم. ألا يجد فيه قارئه المعاصر ما وجده فيه قارئه القديم، وأكثر؟ أليس فيه هذه الإجابة العبقرية على ما يخالج المرء من شعور بالضعف وهو يجد نفسه وحيداً لا حول له ولا قوة أمام العالم الأكبر، فإذا به ينطوي، دون أن يعي، على هذا العالم الأكبر؟

لقد وُجد هذا الموقف في شعرنا القديم، منذ انبثاقه. وإذا كان الكثيرون يمرّون بالشعر الجاهلي اليوم مروراً سريعاً، فكثيراً ما أمضيت أوقاتاً طويلة وسميرة بصحبته. وقد لا أغالي إذا اعتبرته أحد أزهى عصور الشعر العربي عبر تاريخه كله. وقد ذكر لي الدكتور إحسان عباس مرة أنه إذا كان للشعر العربي عشرة أمراء، فمن الغبن ألاَّ يكون الشعر الجاهلي أو الشاعر الجاهلي، أحد هؤلاء الأمراء. ولأننا نتحدث عن «الموقف» فلا بأس بأن أشير إلى بيتين ملفتين في معلّقة الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد:
الا أبهذا اللاّئمي احضر الوغى وان أشهد اللذات هل انت مخلدي
اذا كنت لا تستطيع دفع منيتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي

أليس في هاذين البيتين تلك «الوقفة الوجودية» وبالمعنى المعاصر للكلمة؟ ألا ينهض طرفة ندَّاً للشاعر الفرنسي رامبو ولسواه من الشعراء الذين واجهوا الدنيا مواجهة جسورة؟ ألا يُعتبر طرفة رائداً ترددت له لاحقاً أصداء كثيرة في تراثنا، أو في تراثات أخرى ملحقة بصورة من الصور في تراثنا؟

إن من يقرأ رباعيات الخيام يجد قربى شديدة بينهما وبين هذه الوقفة التي وقفها طرفة في وقت مبكّر، والدهر فتىً بتعبير الديلمي:
لا تشغل البال بماضي الزمانْ ولا بآتي العيش قبل الأوانْ
واغنم من الحاضرِ لذاتِهِ فليس في طبع الليالي الأمانْ!

ولا ننسى قصيدة رائعة للأخطل الصغير ورد فيها:
وانهب العيش لا أباْ لك نهبا واطرحْ عنك وجهك المستعارا
لستَ مهما عُمّرت غير جناحٍ حطّ في الدوح لحظةً ثم طارا

من الشعر القديم إلى شعر المهجر
وطالما أن الحديث هو عن المعنى العبقري الذي لا يتأبَّاه الشعر، فإني أحب أن أعرض وقفات إنسانية خالدة في شعرنا القديم، حولها ينبغي أن تتأسس نظرة جديدة إلى هذا الشعر، بل قراءة مختلفة عن القراءات السابقة التقليدية.

لقد ذكر مرة الكاتب المصري كمال نشأت في مقال له في مجلة «الرسالة» لأحمد حسن الزيات، وذلك من كلام له على «الجانب الإنساني في شعر أبي ماضي»، وشعر جماعة من شعراء المهجر الشمالي اللبناني: «وأما شعرنا العربي القديم فقد جانب هذا الاتجاه (يريد الاتجاه الإنساني، وإن ظهر، فَلُمَعٌ هنا وهناك).

وقد تذكر كثيرون وهم يقرأون كلام كمال نشأت، أبياتاً قديمة تطبِّق المفصل في هذا الموضوع. من ذلك قول أمية بن أبي الصلت:
إذا كان أصلي من ترابٍ، فكلُّها بلادي، وكل العالمين أقاربي!

وقول أبي العلاء في قصيدة له، شرَّقت طائفة من أبياتها وغرَّبت، وتناولتها الترجمة إلى لغة الإنجليز والفرنسيين والترك والروس، وهي لا تزال تدور في مجالس الأدب والفكر في الدنيا:
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا

وهما من جهة النزعة الإنسانية التي يستشهد بها كمال نشأت، بمثل قول ندرة الحداد، من شعراء المهجر:
هو ذا قمحي الذي أحسبُهُ، ما عشتُ، قمحَكْ!

أعلى طبقة في المعاني، وفي المباني، مما ساقه من الشواهد على إنسانيات شعرائنا المهجريين. ويتذكر أيضاً من قرأ كمال نشأت، قول البحتري في هذه الشعبة من الموضوع:
ولا تقل: أمم شتى، ولا فِرَقٌ فالأرضُ من تربةٍ والناسُ من رجلِ!

أما ما أورده كمال نشأت من شعر جبران خليل جبران في باب المساواة، وهو قوله من موشح طويل:
ليس في الغابات حرٌّ لا ولا العبدُ الذميمْ
إنما الامجاد سخفٌ وفقاقيع تعومْ!

ولأنني اعتبرت دائماً أن الحداثة في الشعر غير زمنية، وأنها بالتالي لا ترتبط بزمن معين، بل تصول على الدهر وتبقى دافئة ونضرة، فقد توافر لي ما لا يُحصى من الأمثلة والشواهد على شعر قديم ما زال يرفل بالحداثة إلى اليوم، منها هذان البيتان لشاعر جاهلي سبق حمَّاد عجرد ومطيع بن أياس وأبا نواس في الثورة على الوقوف على الأطلال:
لأجملُ من تلك الطلول وذكرها ووصفكما طيئاً ووصفكم سلعا
تلاحظُ عيني عاشقين كلاهما له مقلةٌ في وجه صاحبه ترعى

فهو يقول إن رؤية العاشقين الذين ترعى مقلة كل منهما في وجه الآخر، لأجمل عنده من الطلول ومن الوقوف عليها، وأجمل كذلك من وصف هذه القبيلة أو تلك. ولنتنبّه لعبارة مقلة الحبيب التي ترعى في وجه المحبوب، ولعبارة «ترعى» على التحديد. ففيها من الحداثة دائمة النضارة ما لا يجده أحدنا في الكثير مما يسمّى اليوم بالشعر الحديث، أو بالحداثة في الشعر.

ومن مأثورات الشعر القديم التي نقنع منها الآن بالقليل، عملاً بمبدأ مجلة الأحكام العدلية: ما لا يُدرَك كلُّه لا يُترك جُلُّه، ما ورد في الأغاني، إذ روى أبو الفرج أنهم تذاكروا يوماً في حضرة الجاحظ شعر أبي العتاهية، إلى أن جرى ذكر أرجوزته «ذات الأمثال»، فأخذ بعض من حضر ينشدها حتى أتى على قوله:
يا للشباب المرح التصابي روائح الجنة في الشباب!

فقال الجاحظ للمنشد: قف، ثم قال: انظروا إلى قوله: «روائح الجنة في الشباب»، فإن له معنى كمعنى الطرب الذي لا يقدر على معرفته إلا القلوب، وتعجز عن ترجمته الألسنة. والجاحظ، بذلك، يعتبر أن القضية تتعلَّق بالقلوب، وأنها هي التي تعرف المستحسن والمستهجن، وناهيك بما عندها في ذلك من أسباب لا تقوى الألسنة في قمة الفصاحة على ترجمتها.

ووقفة مع أبي الطيب
ويصعب على من يعرض لمأثورات خالدة من الشعر العربي، ألاَّ يرد ذكر للمتنبّي فيها. فهو في قمة الهرم وصولاً إلى يومنا هذا. ولكن إذا كان الكثيرون قد أعجبوا بأبي الطيب المتكبر صاحب الخيل والليل والبيداء، فإنني أعجبت بالمتنبي الآخر، أي بالمتنبي المنكسر والمهزوم والضعيف الذي يُلتمس، أكثر ما يُلتمس، في الكافوريات، أي في شعره في مصر. تلك فترة ضعُفت في المتنبّي «جيناته» العراقية الصاخبة، إن جاز التعبير، وقويت فيه جينات أخرى. فالمتنبّي الضعيف الذي تفترسه الحمّى، والممزّق من الداخل كبطل تراجيدي تتصادم في داخله التناقضات، والذي يلفّه الضياع من كل صوب، هو المتنبّي الأثير عندي. وقد تكون قصيدته التي مطلعها:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسبُ المنايا أن يكّن أمانيا

هي أعظم شعره، لا تضارعها إلا قصائد قليلة أخرى له. فعلى الرغم من أنها من الناحية الشكلية قصيدة في مدح كافور، إلا أنها في الواقع قصيدة في الحب والألم، قصيدة في حب سيف الدولة، وفي حب المتنبي لنفسه من خلال هذا الحب. ومطلع القصيدة مدوٍّ ومزلزل وفجائي. يتحول المتنبي في هذا المطلع إلى بطل تراجيدي عاقبه الزمن عقوبة فادحة على تركه سيف الدولة، وكأنه تنتقم منه على جريمة اقترفها.

تتردد في هذا البيت، وفي الأبيات اللاحقة له، وبكثرة، عبارات: الموت والداء والمنية والعدو المداجي والبين والغدر ودموع العين والرحيل إلى الصبا، وموجع القلب. وهي كلها عبارات ترمز للفناء والموت والزوال وتبدد الأحلام، وتشير إلى مأساة فراق الحبيب مع بقاء الحب. القلب متيّم على الحب على الرغم من كل ما حدث مع سيف الدولة، أو من سيف الدولة، على الأصح.

ووقفة مع أحمد شوقي
ومن بين مميزات هذه القصيدة أنها تعتمد على الإيقاع الموسيقي اعتماداً واعياً بوظيفته في المعنى. فمن يقرأ مطلع القصيدة، والقصيدة أيضاً، يجد أن صاحبها ملحن، وأن الموسيقى تلعب دوراً أساسياً فيها، ونلحظ ما سقناه عن أبي الطيب في بعض قصائد أمير آخر للشعر، هو أحمد شوقي، مثل قصيدته:
شيّعوا الشمس ومالوا بضحاها وانحنى الشرق عليها فبكاها
ليتني في الركب لما أفلت يوشعٌ همّت فنادى، فثناها

أو قوله في رثاء عبده الحامولي:
يسمع الليل منه في الفجر يا ليل فيصغي مستمهلاً في فراره!

أو قصيدته النيل التي كتبها عام 1914م وتُعتبر فاتحة عبقريته الكبرى. فكل ما قاله قبلها كان البارودي وإسماعيل صبري وحافظ إبراهيم يقولون مثله. ولكنه بهذه القصيدة سبق هؤلاء ورفع في يده اللواء ولم يلْقِهِ حتى مات سنة 1932م. قصيدة النيل من أعظم ما كتب شوقي ومطلعها:
من أي عهدٍ في القرى تتدفّق وبأي كفٍّ في المدائن تُغدق

وهذه القصيدة تتدفق فيها الموسيقى كما تتدفق فيها فنون البديع الايقاعية. فالموسيقى تتضخّم في الأذن، وتتضاعف، وكأن مجاميع من مهرة العازفين يشتركون في إخراجها، وفي إيقاع نغماتها. وذلك يرجع بلا شك إلى ضبط شوقي البارع لآلات ألفاظه، وذبذباتها الصوتية. وليست المسألة مسألة حذق أو مهارة وحسب، بل هي أبعد من ذلك غوراً. هي نبوغ وإلهام، وإحساس عبقري بالبناء الصوتي للشعر. وهذه الروعة في الموسيقى تقترن بحلاوة وعزوبة لا تُعرف في عصرنا الحالي لغير شوقي. وربما كانت تلك آيته الكبرى في صناعته. فأنت مهما اختلفت معه في تقدير شعره، لا تسمعه حتى ترهف له أذنك، وحتى تشعر كأنما يُحدث فيها ثقوباً، هي ثقوب الصوت الصافي الذي تهدر به المياه بين الصخور، والصوت يعلو تارة فيشبه زئير البحار حين تهيج. وينخفض تارة فيشبه قطرات الفضة التي تسقط من مجاديف الزوارق، وهي تجري سابحة على صفحة النيل.

الوحدة الموسيقية لهذه القصيدة هي وحدة بحر الكامل:
متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن

وكأنها موجات متتالية في انتظام تحكي موجات النيل الواهنة الرتيبة. ثم هو يختار القافية المجسّمة لصوت المياه في مختلف أوضاعها، فهي تتدفّق، و «تغدق»، و «تترقرق» و «تغرق» ، يصاحبها في سبك بناء الأبيات الفاظ أخرى من معجم الماء، مثل «فجّرت»، و «جداول» و «مزنة»، و «طوفان»، و»تفيض»، و «تسكب» و «حياضك». وتعمل هذه الألفاظ بإيقاعاتها المختلفة على استحضار هيئة المياه وأصواتها وحالاتها بل ومذاقها أيضاً.

وموسيقى البيت الواحد تعتمد على القبض ثم البسط. والقبض هي الكلمة ذات الإيقاع المركز في الحرف الساكن الأوسط. وشوقي يصوِّر لنا انحباس الماء ثم سيولته وتدفقه، وكأنه كان في مضيق ثم انساح في المكان، وانبسطت به الأرجاء حتى وصل إلى مصر.

وهناك الأبيات ذات الإيقاعات المزدوجة بين شطريها، مثل «من أي عهدٍ في القرى»، و «بأي كفٍّ في المدائن»، و»الماء تسكبه فيسبك عسجدا»، و «الأرض تغرقها فيحيا المغرقُ» .

وهو عندما يتحدث عن «عروس النيل» يحرص على نقل أجواء الفرح والتصفيق والتهليل والزغاريد، والمهرجان الحافل الذي يقام على أنغام الموسيقى الراقصة، وكأننا نعيش في جنباته:
زُفّت إلى ملك الملوك يحثّها دينٌ ويدفعها هوى وتشوّقُ
مجلّوة في الفُلكِ يحدو فُلكها بالشاطئين مزغردٌ ومصفقُ
ألقت إليك بنفسها ونفيسها وأتتك شيقةً حواها شيّقُ

لذلك حقّ الدكتور شوقي ضيف أن يقول عن هذا الجانب في إبداع شوقي: «وموسيقى شوقي في شعره هي لبّ إبداعه، وفيها كان يظفر دائماً بخصومه. فقد كانوا يحاولون أن يردّوا الناس عنه. فكانوا يعرضون عنهم، وينصرفون عن نقدهم، ويتهافتون على شعره كما يتهافت الفراش على النار».

شاعران اثنان تربطهما روابط كثيرة منها شيوع الموسيقى في شعرهما، هما المتنبي وشوقي. يجلسان جنباً إلى جنب في تاريخ الشعر العربي، ويحتلاّن أعلى قمّة فيه. بعد ألف سنة من ظهور المتنبي، ظهر شوقي. وما زال نفوذهما قوياً إلى اليوم. فما زالا يتصدران المشهد الشعري، منذ المهلهل الذي قيل إن الشعر العربي بدأ به، وصولاً إلى وقتنا الراهن.

مختـارات ابن قتيبـة
يستحق ابن قتيبة (المتوفى سنة 276هـ)، بجدارة، أن يوصف بأنه ناقد الشعر العربي الأول. فكتابه «الشعر والشعراء» مرجع لا غنى عنه، ليس للمتخصصين فقط، بل لمتذوقي الشعر العربي. وما يزيد هذا الكتاب قيمةً هو منهج ابن قتيبة الذي، كما يذكر، توخى الدقة في انتقاء الشعراء المجيدين، ونظر بعين العدل في الكلام على أحوالهم وأشعارهم معطياً كلاً حظَّه دون إطراء أو إجحاف.
لكن، ليس المراد بهذه السطور تقريظ ابن قتيبة أو كتابه، وإنما الغاية هي إمتاع القارئ عن طريق إشراكه في قراءة خمسة أبيات انتقاها ابن قتيبة ليفتتح بها الفصل الأول من كتابه.
لقد اختارها ليدل بها على ذاك النوع من الشعر الذي جمع معاً حُسْن اللفظ وجودة المعنى، مما يجعله الضرب الأفضل من ضروب الشعر.

فقد أورد أن ما من شعر قيل في الهيبة أحسن من قول أحدهم في بعض بني أمية:
يُغْضي حَيَاءً ويُغْضَى من مَهَابَتِهِ
فَما يُكَلَّمُ إلاَّ حين يَبْتسِمُ

ولم يبتدئ أحدٌ مرثيةً بأحسن من قول أوس بن حجر:
أَيَّتُها النَّفْسُ أَجْمِلي جَزَعَا
إنَّ الذي تَحْذرينَ قَدْ وَقَعَا

وأبدع بيتٍ قالته العرب هو لأبي ذُؤيب:
والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبْتَها
وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تَقْنَعُ

ولم يُقَلْ في الكِبَرِ أحسن من قول حُمَيد بن ثور:
أَرَى بَصَري قَدْ رابَني بعدَ صِحَّةٍ
وحسبُكَ داءً أَن تَصُحَّ وَتَسلَمَا

ولم يبتدئ أحد شعره بأحسن وأغرب من قول النابغة:
كليني لِهَمٍّ يا أميمةُ ناصِبِ
وليلٍ أُقاسِيهِ بطيءِ الكواكِبِ

أضف تعليق

التعليقات