قول آخر

المنهج الخفي للنص الجديد

يتعلم الطلاب داخل مدارسهم أكثر مما هو محدد لهم في المقررات الرسمية المكتوبة من قبل الجهات التعليمية المسؤولة؛ إذ يفرِّق منظِّرو المناهج بين نوعين من المناهج التي تُقدَّم للطلاب داخل مدارسهم أحدهما رسمي (formal) يتم تحديده وتفصيله بشكل واضح ومكتوب كالمقررات الدراسية والسياسة التعليمية ، والآخر مخفي أو غير رسمي (hidden) يتعلمه الطلاب من خلال ما ينفلت من المنهج الرسمي، وقد يكون هذا الخروج عن النص مدمِّراً بحيث قد يتناقض معه تماماً وينسفه من حيث لا يدري المعلم أو الطالب أو حتى الجهة المسؤولة عن التعليم. هذا هو المنهج الخفي في الجانب التعليمي، لكن هل من أحد سمع قبل ذلك بالمنهج الخفي (hidden curriculum) للنص الأدبي؟

لا أحد، ضمن حدود معرفة كاتب هذه الكلمات المتواضعة، استخدم هذا المصطلح في النص الأدبي، إلا أنه يمثِّل حقيقة واقعة لا تقبل الشك. فكثيراً ما يتفاجأ المؤلفون برواج كتاب معين لهم كانوا يعتقدون بعدم أهميته، والعكس صحيح، والسبب في ذلك يعود إلى أن المنهج الخفي للنص الأدبي يتفاعل مع القارئ، فيجد أرضاً مختلفة عن تلك التي كان يقصدها المؤلف، فتنتج علاقة جديدة بين القارئ والنص بعيدة عن المؤلف الذي كان دوره فقط مهيئاً للظروف، والأمر شبيه تماماً بدور المعلم في العصر الحديث الذي يهيئ ظروف التعلّم للمتعلم.

ورغم أن البنيويين تحدثوا عن اغتيال المؤلف أو بمعنى آخر غياب دوره في السيطرة على نصه، إلاَّ أن الأمر لم يتحوَّل كما هو الأمر هنا في المنهج الخفي للنص الأدبي إلى اغتيال جديد للقارئ ، وليس فقط مؤلِّفه! كيف يمكن ترجمة وقبول مثل هذه النتيجة التي تعصف بالقارئ بعد أن عصفت بالمؤلف؟

الأمر بسيط جداً. القارئ الذي يتناول نصَّاً معيناً، ولنقل على سبيل المثال لا الحصر رواية لإيرنست هيمنجوي أو جابريل جارسيا ماركيز، هو فقط يستنتج قراءة خاصة به نتجت عن التفاعلات التي عاشها في حياته، ويختلف تماماً عن آلاف القرَّاء الآخرين الذين يتناولون نفس النص. أي أن هناك آلاف القراءات للنص الواحد الذي كتبه هيمنجوي أو ماركيز. أي أن اللغة التي استخدمها هيمنجوي قد أدَّت ليس فقط إلى اغتياله هو، بل اغتالت قارئه معه وذلك بتهميش دور قراءته للنص لأن هناك آلاف القراءات لنفس النص، الأمر الذي يعني عدم الاعتراف بهذه القراءة كحقيقة مطلقة وبالتالي موتها أو نهايتها.

هذه الصورة السوداء للنص الجديد في هذا العصر الميتافيزيقي الجديد ناتجة عن انفلات النص وعدم قدرة مخترعه على السيطرة عليه. ولكي تكون الصورة واضحة، لنأخذ مثلاً مشهد إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين على أنه نص أدبي. كيف يمكن تطبيق المنهج الخفي أو هذا المفهوم الجديد للنص الأدبي عليه؟ يمكن اعتبار المنهج الخفي في هذه الحالة أنه الطبيعة الغامضة وغير المتبلورة لتلك القراءة الخفية التي غابت عن المؤلف والذي كان يقصد شيئاً مغايراً لما كان يعتقد أنه قراءة رسمية لنفس المشهد أو النص. لك، عزيزي القارئ، أن تتخيل القراءات العديدة والتي تصل إلى التضاد الكامل لنفس المشهد عندما تتخيل قرَّاءً من أستراليا، اليابان، بنجلاديش، إندونيسيا، الأردن، مصر، إيران، عُمان، أمريكا، روسيا، والعراق نفسها. لقد انفلت النص من المؤلف كما انفلت من القارئ على نحو لم يكن متوقعاً ولم يحسب له المؤلف أي حساب، وهذا هو المنهج الخفي الجديد للنص الأدبي في القرن الحادي والعشرين!

أضف تعليق

التعليقات