بيئة وعلوم

التسويق العصبي
فن مخاطبة مخ المستهلك!

  • 35b
  • 17a
  • 17b
  • 32a
  • 34a
  • 35a

التسويق العصبي علم جديد يسعى إلى الاستفادة من آخر ما توصل إليه الطب في دراسته للمخ البشري وأنظمته العصبية، لوضع نمط جديد من الإعلان التسويقي للسلع المختلفة يتوقع له أن يكون أجدى وأبلغ أثراً من فن الإعلان الذي نعرفه حالياً والقائم على مخاطبة العقل الباطن اعتماداً على علم النفس.
المهندس أشرف إحسان فقيه يعرض ما هية هذا العلم الجديد، والأدوار المرتقبة منه، وصولاً إلى مناقشة الاعتبارات الأخلاقية والمحاذير التي تثير قلق بعض المراقبين.
تايد .. جيب .. ليبتون و بيبسي .. كلها أسماء نستخدمها في حياتنا اليومية لا لنشير إلى ذات المنتجات التجارية التي تحملها، ولكن كمُعرّفات عامة. رابسو تطلق في مصر مثلاً على (أي) مستحضر غسيل.. بغض النظر عن اسمه التجاري الأصلي. و جيب صارت اسم عَلَم لكل سيارة دفع رباعي.. حتى وإن لم تكن تحمل شعار شركة جيب الأميركية.

أسماء تجارية أخرى باتت بمثابة كلمات السر السحرية. بماذا تشعر المرأة المتسوقة حين تلمح اسم غوتشي مثلاً؟ وكيف سيتفاعل الزبون مع وقع كلمة روليكس ؟

هذا النجاح الاستثنائي للعلامة التجارية في فرض ذاتها على وعي المستهلك هو هدف لكل المُسوِّقين والمُعلنين. هدف تبرره الأرباح الطائلة التي تحققها هذه المنتجات، ويُبرر بدوره المبالغ والجهود التي يبذلها المعلنون في الترويج لبضائعهم وإغراق المستهلك بأسمائها وشعاراتها.

وخلال الأعوام الأخيرة استكشفت المدارس الإعلانية مرحلة جديدة وجريئة قد تنقلها من مخاطبة حواس المستهلك إلى المركز المتحكم بهذه الحواس كلها والمسؤول عن اتخاذ قرار الشراء النهائي: الدماغ! فبالتركيز على فرع متجدد ومثير من فروع علوم المخ والأعصاب قائم على تصوير الدماغ البشري ومراقبة نشاطاته، تطمح الشركات الكبرى إلى القدرة على إقناع المخ مباشرة بجدوى منتجاتها.. وتفصيل إعلانات تجارية موجهة نحو الخلايا العصبية بالذات.. بحيث لا يسعنا ربما إلا أن نقتنع بـضرورة اقتناء منتج ما.. بغض النظر عن مدى منطقية هذه القناعة!
مرحباً بكم في عالم التسويق العصبي (Neuromarketing).

من مخاطبة الغرائز إلى
مخاطبة الدماغ
لطالما كانت مخاطبة غرائز المستهلك ودغدغة احتياجاته الدفينة وسيلة معروفة لدى المُسوقين. كما أن اتباع الأسلوب العلمي في التسويق ليس بالشيء الجديد. فعبارات من قبيل كيف نحيا من دونه؟ و يميِّزك عن سواك تقترن بالعديد من الإعلانات التجارية المبنية على مبادئ علم النفس. التسويق السلوكي (Behavioral Marketing) يمثل تكتيكاً قديماً في استجلاء رغبات شرائح المستهلكين وتمرير رسائل إعلانية إلى وعيهم الباطن تربط ما بين تعزيز مكانة المستهلك في المجتمع واقتنائه للمُنتج مدار الإعلان. المحال التجارية تعتمد منذ بدايات القرن العشرين توزيع الاستبيانات على الزبائن وإعداد الدراسات لأنماط شرائهم وفق الجنس أو الفئة العمرية أو المناسبات الموسمية مثلاً.

كل هذه الأساليب التسويقية تشترك في كونها تمثل محاولات جادة للوصول إلى عقل الزبون عبر قراءة المؤثرات الخارجية التي تحكم القرارات الصادرة عن هذا العقل. لكن هذه القراءة تظل غير مكتملة الدقة ومحكومة بكيمياء الدماغ ذاته. في المقابل، فإن ما يَعِد به التسويق العصبي هو استغلال الفهم المتنامي لطريقة عمل الدماغ البشري في توجيه عملية اتخاذ قرار المستهلك لمصلحة السلعة التجارية.

يُعرّف التسويق العصبي بأنه العلم المختص بدراسة استجابة المخ للإعلانات والعلامات التجارية بواسطة تقنيات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI). وهي الطريقة التي دشنها الدكتور ريدمونتاغيو في صيف 2003م. هذه التجربة مستوحاة من إعلان تلفزيوني قديم لشركة مشروبات غازية يُطلب فيه من أفراد الجمهور المفاضلة بين عينات عشوائية من شرابيّ هذه الشركة وشركة أخرى منافسة.. لكن من دون إطلاعهم على نوع المشروب الذي يتذوقونه.

بالرغم من أن هذا الإعلان الحيادي حاول أن يثبت بالتجربة أن طعم أحد المشروبين هو بلا شك أفضل من طعم الآخر. إلا أنه كان يصطدم بحقيقة بسيطة مفادها أن مبيعات المشروب الأطيب لم تتفوق إطلاقاً على مبيعات الآخر في أمريكا. وهو ما دفع الدكتور مونتاغيو إلى التساؤل: لماذا يقبل الناس على شراء مشروب معين بالرغم من أنهم يفضلون مذاق مشروب آخر كما يزعم الإعلان؟! .

هكذا وبعد 30 عاماً من إذاعة الإعلان التلفزيوني، أعاد مونتاغيو التجربة ذاتها في مختبره لعلوم المخ والأعصاب بكلية بايلور الطبية. لكنه هذه المرة قام بمراقبة نشاطات أدمغة الأفراد الخاضعين للاختبار وتسجيل معدلات تدفق الدم لأقسامها المختلفة بواسطة جهاز الرنين المغناطيسي.

وخلال التجربة الجديدة، ومن دون أن يعرفوا نوع الشراب المقدَّم لهم، صرَّح نصف المُختبَرين بأنهم يفضلون مذاق مشروب معين. لكن ما أن يطلعهم الدكتور مونتاغيو على حقيقة عينات المشروب الآخر، فإن ثلاثة أرباعهم كانوا يقولون إن طعم ذلك المشروب هو الأفضل، ويصحب ذلك تغير ملحوظ في نشاطات أدمغتهم أيضاً! لقد بدا وكأن اسم المشروب الرائج يحرك ذلك الجزء من الدماغ المتحكم بالتفكير المتقدم. استنتج مونتاغيو أن أدمغة المختبرين كانت تستدعي صوراً وأفكاراً من إعلانات سابقة، وبأن (صيت) العلامة التجارية كان يطغى على الجودة الحقيقية للمنتج بالنسبة للدماغ. فقد مثَّلت التجربة إذاً دليلاً علمياً على قدرة الإعلان على توجيه خيارات المستهلكين، وفتحت الباب أمام مشروعات التسويق العصبي.

كيف يقرِّر المخ؟
للوصول إلى طريقة لمداهنة المخ البشري، لابد من فهم آلية صنع القرار داخل هذا العضو الأكثر تعقيداً على الإطلاق.

من منظور تشريحي بحت، يُقسَّم الدماغ البشري إلى ثلاثة أقسام هي المخ و المخيخ و النخاع المستطيل . وفيما تستخدم مصطلحات مخ و دماغ و عقل كمترادفات عبر هذه المادة، فإن علينا أن ندرك أن كلمة مُخ تطلق في الأصل على ذلك التكوين الالتفافي الرخو الذي يشغل الفراغ داخل جمجمة كل منا. هذا المخ يُقسَّم بدوره من منظور الدارسين وعلماء النفس إلى ثلاثة أجزاء أو أمخاخ متداخلة يغلف كل منها الآخر ويحويه.. كما في دمى المتريوشكا الروسية الشهيرة.

يعرف الجزء الخارجي من هذه الأمخاخ الثلاثة بالقشرة (cortex). وهو المسؤول عن مهام معقدة من قبيل التعلم، التفكير المنطقي، اللغة والتفريق بين القرارات الذكية وتلك الأقل ذكاءً.. وتحت المخ الخارجي يأتي المخ الوسيط المسؤول عن تنظيم المشاعر والدوافع النفسية والتحكم في أمزجتنا، خبراتنا ووظائفنا الهرمونية. وفي قلب المخ يستقر الجزء الثالث الذي يتولى توجيه الإشارات الأساسية كالجوع وضبط حرارة الجسم والدفاع عن الحِمى والخوف من الخطر وما إلى ذلك.

ما خلُص إليه الباحثون، وما يركِّز عليه المهتمون بالتسويق العصبي؛ هو أن الإشارات الأكثر قوة وتأثيراً تصدر عن المخ الداخلي، بل هي تطغى على إشارات المُخّين الأوسط والخارجي وتُنفّذ على حسابهما، وعلى حساب القرارات المنطقية المدروسة الصادرة عن القشرة الخارجية بالذات. ومدار دراسات التسويق العصبي هو في فهم لغة هذا المخ الداخلي وكيفية تواصله مع الأجزاء الأخرى.

البحث عن زر الشراء !
في تجارب خاصة بالشركات المنتجة للسلع الاستهلاكية، يقوم العلماء بإدخال المتطوعين في أجهزة الرنين المغناطيسي الوظيفي ويعرضون عليهم لقطات متفرقة لسلع ومنتجات وشخصيات عامة. لتقوم أجهزة الرنين بتتبع مادتي الهيموغلوبين الغني بالأكسجين، وكذا الخالي منه، في المخ. وبتصوير المخ أثناء تتابع كل من هذه اللقطات، يحصل الباحثون على صور تفصيلية وآنية لاتجاه سريان الدم فيه ومواقع الخلايا العصبية النشطة خلال هذه العملية.

قادت هذه التجارب إلى التعرف إلى أنواع عديدة من الإشارات صادرة عن مناطق معيَّنة من الدماغ، وإلى ترجمة هذه الإشارات بما يتفق وتأثير السلعة أو الصورة على المتسوق. فبعض العلامات التجارية تحرِّك مراكز الإثارة والحماس بالمخ، لكنها لا تكفي لجعل صاحبه يهرع إلى الشراء. سلع أخرى تشعل مناطق الحَسم في الدماغ. وعندما تضيء هذه المناطق، فإن الشخص يكون قد تخطى مرحلة المداولة إلى القناعة التامة بحاجته إلى السلعة. ويُعتقد بأن ثمة روابط شخصية تجمع بين كل منا ونوعية معينة من المنتجات. ما يطمح إليه المسوقون العصبيون هو تعزيز هذه الرابطة، أو الولاء للاسم التجاري، وإعادة صياغة إعلاناتهم التجارية وتصاميم منتجاتهم بحيث تصب في هذا المجرى وتكون أكثر تأثيراً في هذه المناطق من المخ تحديداً.

إحدى التطبيقات التجارية في مجال التسويق العصبي التي باتت معتمدة بالفعل من قبل عدد من الشركات الأميركية والكندية تعرف باسم ZMET . واحدة من أهم المسلمات التي أثبتتها هذه الوسيلة هي في كون المتسوق يبحث دوماً عن السلعة التي تضمن له شعوراً بالانتقال إلى شخصية مختلفة عن ذاته، أو إلى حال أفضل، حتى وإن لم يحصل هذا الانتقال إلا في مخيلته هو. لكن هذا الدافع يظل محكوماً بمؤثرات عقلية أخرى.

في تجربة شهيرة أخرى تمت بجامعة كارنيغي ميلون ، أُعطي كل من المتطوعين 20 دولاراً، وخُيروا بين إمكانية الاحتفاظ بها.. أو إنفاقها على أي من السلع -مختلفة الأثمان- التي تعرض صورها عليهم فيما هم مستلقون داخل أجهزة الرنين المغناطيسي. وعند تحليل نتائج الصور المتتابعة للدماغ أثناء هذه التجربة، وجد الباحثون أن مجرد عرض السلعة على الشاشة يُحفز نشاط المنطقة من الدماغ المعنية بمشاعر اللذة أو المتعة المحضة.. وكأن صورة السلعة تثير المتسوق غريزياً!

لكن، هذه الإشارة لا تلبث أن تنطفئ حين يظهر أن ثمن هذه السلعة المرغوبة عالٍ أو أكثر من قدرة المشتري. هنا تتدخل المناطق العليا من الدماغ لـ (تفكر) وتستخدم الخبرة المسبقة في اتخاذ القرار. نشاط هذه المنطقة مرتبط بعمليات الموازنة بين حسابات الربح والخسارة، التي تثور عادة قبل اتخاذ قرار الشراء، بما في ذلك عمليات التمييز بين القرارات المتضاربة وتحديد الأفضل من بينها، وكذلك توقع النتائج المستقبلية المبنية على كل منها. هذه المنطقة غالباً ما يُعزى لها ضبط التصرفات الشخصية وبالذات تلك التي تترتب عليها عواقب اجتماعية أو قانونية.

هكذا صار بمقدور العلماء توقع ما إذا كان الشخص موضع الدراسة سيُقدم فعلاً على شراء السلعة المعروضة أمامه على الشاشة أم لا. إذ إنه متى ما بدأت مناطق المخ المرتبطة بعمليات الموازنة بين الربح والخسارة في زيادة نشاطها، فيعني ذلك أن الشخص سيُقدم على الشراء. أما لو تم رصد سيطرة لمناطق قشرة الدماغ التي تنشط عند الإحساس بأن ثمن السلعة أعلى من فائدتها، فإن المتسوق غالباً لن يشتري. هذه النتائج ستغير فهمنا لآليات عمل المخ عند الشراء، وكيف تتغير هذه الآلية بحسب رغبة الشخص في متعة الاقتناء العاجلة، أو تأجيل هذه المتعة لوقت لاحق. وتبين النتائج أيضاً أن وقع ثمن السلعة على العقل و الألم الذي قد يسببه فقد المال عند الشراء كلها عوامل حاسمة في كبح جماح عملية التبضع. وهو ما يُبرر اختلاف الناس في الإقدام على الإسراف في الاستهلاك الشرائي في حال الدفع نقداً مقابل استخدام البطاقات الائتمانية، حيث يتم تأجيل الخسارة ولو إلى حين. وهذه كلها عوامل ستضعها الشركات التجارية في الحسبان عند تصميم الموجة القادمة من حملاتها الإعلانية.

أكثر من مجرد تسويق
ربما خَطَر للبعض أنه من المعيب أن ينتهي الحال بمعدات طبية بالغة التعقيد كأجهزة الرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI)، والتي يكلف أحدها 2.5 (اثنين ونصف) مليون دولار، في أن تستغل لزيادة مبيعات بعض السلع، عوضاً عن أن تُسخّر في تشخيص الأمراض المستعصية كأورام الدماغ وحالات الفصام النفسية. الحقيقة أن التسويق لا يمثل إلا وجهاً واحداً من أوجه التطبيقات المتعددة لمجال علمي مزدهر هو علم المخ والأعصاب التواصلي الذي يتوقع له أن يعيد تشكيل حضارتنا، على نحو ما فعلت التكنولوجيا الحديثة، لنتحول إلى مجتمع مبني على علوم المخ والأعصاب.

كأعضاء في هذا المجتمع الموعود، فإننا قد نضطر إلى التواؤم مع شروط جديدة للتعامل مع المؤسسات والأفراد من حولنا. الأسرار التي نفضِّل عادة أن نحتفظ بها لأنفسنا ربما لن تغدو كذلك في ظل النظام العصبي الجديد. عمليات تصوير الدماغ وتحديد الميول العقلية قد تصبح بمثابة تحصيل الحاصل عند التقدم إلى وظيفة جديدة أو لإتمام عقد الزواج مثلاً. هذه الصور والأفكار قد تستخدم كذلك لتحديد ميولنا السياسية أو الإجرامية، ولحل أزماتنا العاطفية وتحديد المسببات التي تدفعنا للتواصل مع أشخاص معينين وللتنافر مع سواهم، ولإعادة حساب معدلات ذكائنا وبالتالي إعادة ترتيب موقع كل منا في السلم الاجتماعي.

وقد بدأت الشركات التجارية بالاستفادة من نتائج التصوير المغناطيسي في إعادة صياغة استبياناتها التي توزع عادة على الجمهور لتصير محملة بعبارات موجهة أكثر نحو مراكز التعاطف في المخ، ولا يوجد ما يمنع المرشحين السياسيين ليتخذوا ذات المنحى. المدربون العصبيون يستفيدون كذلك من هذه التجارب التي جاءت نتائج بعضها في صالح المدارس القائلة بأهمية التفكير الإيجابي وضرورة البحث عن مبررات الفرح والسعادة، عوضاً عن التشاؤم والتركيز على أوجه القصور في الإنجاز.

ما بين مؤيد ومعارض
تثير تقنيات التسويق العصبي الكثير من الجدل ما بين مؤيد ومُعارض منذ أن سلَّطت عليها أضواء الإعلام قبل بضع سنوات. ويعزِّز هذا الجدلَ الاهتمامُ الحقيقي الذي تحظى به هذه التقنيات من قبل كبريات الشركات التجارية، والمبالغ التي تنفقها هذه لاستكشاف المزيد حول تطبيقات التسويق العصبي، إضافة إلى ظهور مؤسسات ربحية تروِّج لهذه الاستراتيجية التسويقية وتوفر خدماتها الاستشارية. الأمر يتجاوز إذاً الفرقعة الإعلامية الصرفة؛ لاسيما وأن قضايا مدنيّة قد أثيرت بالفعل في المحاكم ضد هذا النمط من الدراسات!

أولى المخاوف التي تثيرها هذه الفكرة تتمثل في أن يغدو البشر ضحايا عمليات غسيل دماغ منظمة تجريها الشركات الكبرى. فللوهلة الأولى توحي فكرة التسويق العصبي بمؤامرة رأسمالية للعبث بأمخاخ العامة وسلبهم المزيد من الأموال ناهيك عن القدرة على التفكير المستقل، ليغدو المتسوقون أشبه بقطعان الموتى الأحياء الواقعين تحت سحر العلامة التجارية. وهي مخاوف يسخر منها القائمون على هذه التجارب لسبب بسيط. ففهمنا لوظائف المخ البشري لا يزال في بداياته. المخ يظل عضواً على درجة عالية من التعقيد بحيث لا يمكننا أن نتحكم به وفق رغباتنا ونملي عليه شروط اتخاذ القرار. هذا ما يؤكده علماء المخ والأعصاب الذين يشيرون أيضاً إلى أنه مع كل التقدم الطبي والتقني الحاصل، وحتى مع القدرة على تصوير نشاطات المخ، فإن البشرية لم تزل بعد غير متفقة على صيغة موحدة لخريطة الدماغ.. ما يبرهن على استحالة التحكم بإشاراته حتى هذه اللحظة.

لكن هذه الحجج لا تلقى آذاناً صاغية عند فريق عريض من المفكرين الأخلاقيين والمدافعين عن حقوق المستهلك الذين يرون أن الإنسان قد أضحى بالفعل ومنذ خمسينيات القرن العشرين أسيراً للثقافة الاستهلاكية وخاضعاً لاستراتيجيات الشركات الكبرى. هم يشيرون إلى أن الأطفال باتوا يتعرفون على العلامات التجارية للألبسة الرياضية والمأكولات السريعة قبل أن يجيدوا القراءة والكتابة. كما أن الشخصية المعاصرة تتعرض للتسطيح أكثر فأكثر في سعيها إلى اقتناء الماركات الفارهة كرمز زائف للنجاح مقابل انحدار خطر في مستوى الثقافة والوعي العامّين.

وثمة جدل أخلاقي قديم حول الفرق بين الرغبة والحاجة.. ولطالما اتهم الإعلان التجاري بأنه يعزِّز رغباتنا فيما لا نحتاج إليه حقاً.. وهو ما يكسب التسويق العصبي نقمة المطالبين بتحرر إنسان القرن الحادي والعشرين من سيطرة الإعلان. لكن المروِّجين لأفكار التسويق العصبي يعيدون صياغة هذه الجملة بالذات. هم يؤكدون على أن تجاربهم الأولية في هذا الصدد تهدف إلى تعزيز الصلة بين المستهلك والعلامة التجارية على نحو يصب في صالح الأول. التسويق العصبي سيوفر للمُنتجين فهماً أوضح لحاجات زبائنهم من السلعة، وسيزيد بالتالي من جودتها وكفاءتها. ويشير هؤلاء بدورهم إلى أن معظم قراراتنا كبشر تتكون أصلاً في الجزء اللاواعي من العقل. فالتسويق التقليدي ليس في الأصل إلا لعبة ذهنية تخضع للفهم الدقيق للعقل وطريقة تفكيره. والتسويق العصبي لا يأتي، والحال كذلك، ببدعة في هذا الشأن!

المتحمسون للتسويق العصبي يجادلون كذلك في أن تعزيز العلاقة بين المستهلك والعلامة التجارية من شأنه أن يدعم الميزات الحقيقية للسلعة كشروط السلامة والأداء ليدفع بالمصنعين للعمل بجد حقيقي على تطوير منتجاتهم عوضاً عن الاكتفاء بإغراق السوق بين فينة وأخرى بعبوات مختلفة المظهر تحمل عبارة جديد ومطوّر . كما أن بعض الباحثين يتجاوز ذلك ليطمح في الوصول عبر تقنيات التسويق العصبي إلى علاجات لحالات الإدمان على القمار والمضاربة بأسهم الشركات الخاسرة!

تجدر الإشارة إلى أن اعتماد تقنيات التصوير المغناطيسي للمخ في مجال التسويق لا يعني بالضرورة أن يتم إخضاع (كل) الناس لها. ولكن عوضاً عن ذلك سوف تجرى تجارب تحت ظروف معينة لعينات مختارة من الجمهور، وسوف يتم تصنيف النتائج واستقراء أثرها على باقي شرائح المجتمع، على نحو ما يتم في التسويق التقليدي، لكن عبر وسائل أكثر موثوقية كما يرى مناصروا هذه التقنية.

من منظور آخر، يوفر الاطلاع على (حقيقة) ما يجري داخل مخ المستهلك فرصة لتوفير مبالغ طائلة تنفق على الإعلان التقليدي، وهو الإعلان القائم على توقعات مجموعات التركيز (Focus Groups). هذه المجموعات تضم خبراء واختصاصيين تعينهم الشركة المنتجة للسلعة الاستهلاكية بهدف تحديد رغبات الزبائن واقتراح الأسلوب الإعلاني الأمثل للتعاطي معها. ولما كانت هذه المجموعات مكونة من بشر في نهاية المطاف، فإن اقتراحاتها دائماً ما تحفل بنسبة عالية من الخطأ. فخلال العام 2002م أنفقت الشركات الأميركية مليار دولار على جماعات التركيز هذه من جملة 120 مليار دولار ابتلعها السوق الإعلاني. وبالرغم من وجود قناعة بأن نصف هذه المبالغ تمثل هدراً لا طائل منه. إلا أن أياً من الشركات الكبرى لن تجرؤ على تقليص ميزانيتها الدعائية في ظل المنافسة المحمومة. لكن التسويق العصبي يعدنا، كما يقول مناصروه، بتغيير ذلك كله. لأنه سيعلمنا بما يجري بالضبط في عقل المستهلك.. حتى لو لم يكن هذا صريحاً في تعبئة استبيانة الرأي.. أو تعمَّد الكذب على مندوب المبيعات!

اقرأ
التسويق العصبي:
هل هناك زر شراء داخل المخ؟
هذا الكتاب موجه للراغبين في تبني أسلوب التسويق العصبي. هو يقدِّم نصائح لتوجيه رسائل لأدمغة الزبائن المحتملين وفق هذا الأسلوب.
بتبنيهما نظرية الأدمغة المتداخلة الثلاثة، يقدِّم المؤلفان شرحاً وافياً لطريقة تفاعل هذه الأجزاء من المخ وتفاصيل للخطوات الأمثل لتصميم وإرسال خطابات التسويق العصبي.

أضف تعليق

التعليقات