في مقالته رسالة دكتوراة تروِّج للطائفية الثقافية التي نشرتها صحيفة الشرق الأوسط مؤخراً، أثار الناقد السعودي حسين محمد بافقيه أسئلة عديدة حول مفهوم الحيادية وعلمية المناهج المعتمدة لمنح شهادات الدكتوراة أو غيرها من الشهادات الجامعية. وقد فتحت المقالة الباب واسعاً أمام ردود الفعل التي تناولت الموضوع من جوانب مختلفة وصولاً إلى دور المؤسسات التعليمية المانحة للدكتوراة. الناقد السعودي عثمان جمعة الغامدي يناقش هذا الموضوع من زاوية مكانة المنهج العلمي في التحصيل الجامعي.
يفترض بالجامعات أن تكون مهد المناهج العلمية، كما يفترض بالبحوث الأكاديمية أن تكون حيادية بعيدة عن الهوى والنوازع الشخصية. وقد أوصت هيئة اليونسكو الدولية بإدخال مقررات البحث العلمي والتوثيق في الجامعات على جميع المستويات التعليمية، ذلك أن الطالب يبقى في حاجة دائمة وماسة للمعلومة، وحيث إن التلقين يُبقي العقل كما هو فإن وصول الطالب بنفسه إلى المعلومة هو أحد أبواب التعلم الذاتي، وهو ترجمة للنظرة العلمية الحديثة التي ترى أن الطالب هو محور العملية التعليمية، وبمقدار التحدي الذي يواجهه الطالب تتفجر طاقاته الإبداعية في حل المشكلات، وبالتالي في الإبداع عموماً.
إن تعليم الطالب المنهجية العلمية من أبرز اهتمامات التربية الحديثة، فالمعرفة تبقى تسبح في أذهاننا كما تسبح موجات الأثير في الفضاء حتى تجد الجهاز الذي يتعرف إلى شفرتها فيطلقها في شكل موجات سمعية، فإذا لم تجد المعرفة العقل العلمي الذي يوظفها بالشكل الجيد ويستثمرها في أقصى حدودها أضحت بلا جدوى، وفي أفضل الاحتمالات تكون جدواها ضعيفة قياساً لما يناط بها.
لكن كيف يتعلم الطالب المنهجية العلمية؟ لعل الإجابة عن هذا السؤال من الأمور الصعبة، وهو بحاجة إلى تراتبية فكرية تعود به إلى جذور عميقة في مجال التفكير، فالجامعات وهي الأقدر على تعليم مناهج البحث العلمي بوصفها المؤسسة التربوية والعلمية الأكبر في أي قُطر، ينبغي أن تتوافر فيها البيئة المناسبة لتعليم تلك المناهج، وأن تتوافر فيها الكوادر القادرة على تحويل فلسفة العلم العائمة إلى مشكلات بحثية، وبالتالي تصبح الحلول محددة بقدر انتهاج الباحث منهج علمي دقيق وصارم.
المنهج العلمي يكاد يقترب من العصا السحرية في الثقافات الماورائية، يستخدمها الباحث في كل علم فتستحيل به فوضى المعرفة وتشظيها إلى نظام من العلامات. فالمنهج العلمي مطلوب في دراسة الأديان، وفي دراسة التاريخ، وفي دراسة الآداب، كما هو مطلوب في دراسة العلوم الطبيعية والتطبيقية وفي كل البحوث دون تفريق. وهذا يرجع إلى طبيعة المنهج ذاته وماهيته، حيث يعد أبسط تعريف للمنهج العلمي أنه الطريقة التي يصل بها الإنسان إلى الحقيقة، وفي أحد أقوال ديكارت ما يشير إلى الأهمية العظيمة للمنهج العلمي حيث يرى أن من الأفضل للإنسان أن يعدل عن البحث عن الحقيقة من أن يحاول البحث عنها من غير منهج.
قد يقع البعض ضحية البحوث العلمية حينما يصبح ميدانها العلوم الإنسانية، وما ذلك إلا لأن البحث في العلوم الإنسانية ملاصق للبشر، فالذات الباحثة هي ذاتها موضوع البحث، وهذا ما يجعل التشابك، كما يرى عماد مرهلاني في كتابه العلم والإيديولوجيا ، بين الذات والموضوع يصل إلى أقصاه، بسبب انخراط أنا الملاحظ في الظواهر المراد دراستها، إضافة إلى حدس الباحث الذي يزيد ويقل بمقدار إحساسه بضرورة التقنيات الموضوعية، وهذا ما يجعل الباحثين غير المنهجيين يتخطون حدود وعيهم الممكن، أو بوصف آخر حدود حسبانهم فيصلون إلى نتائج غير موفقة ولا مرجوة من بحث يُنسب إلى العلمية.
من أجل ذلك، كان من أهم المواد الدراسية التي أضيفت إلى المحتوى الأكاديمي لأية دراسة جامعية مادة البحث العلمي، وخاصة إذا كان الطالب في مرحلة الدراسات العليا، إذ من المحتم عليه أن يكون له منهج يساعده في اكتناه المخبوء من المعارف، وفي تنظيمها والنوء بها بعيداً عن الأهواء والنزعات الشخصية، وإذا كانت الجامعات تسعى إلى ترسيخ وعي جمعي بأهمية العلم والأصالة العلمية فإنها تضع بذلك اللبنات الأولى للعقل العلمي، فالعقل العلمي هو ما تصبو إليه الجامعة ذات الرسالة الواضحة البيّن صدقها، ويمكن أن تقاس علمية الجامعات باستعراض يسير للدراسات المقدمة من أبنائها الذين تخرجوا فيها، فبقدر ما يتحمس الطلاب في دراساتهم إلى موضوعات تميل إلى التنوع يكون افتقارهم إلى علمية العقل، ومرد هذا الافتقار إلى أن التنوع يختلف عن التغاير، فالتنوع يأخذ العقل من موضوع إلى آخر دون منهج علمي، وحينها يصبح هدف العقل التوسع في المفاهيم وحسب، على عكس التغاير الذي يحصر البحث في نطاق ضيق يستطيع من خلاله الباحث الوصول إلى نتائج مرضية، وهو ما كان يُعبَّر عنه في الثقافة العربية قديما بالتبسط والتخصص.
لا يتوقف دور الجامعات على البحوث وإعطاء الشهادات وحسب، بل لعل ذلك لا يعدو أن يكون مرحلة من مراحل عملها الطويل في المجتمع الذي قامت بين ظهرانيه، وجزءاً من رسالتها الكبيرة. فالجامعات تتحمل عبء الارتقاء والنهوض بالمجتمع من جميع النواحي، ومن بين تلك النواحي: تنمية التفكير العلمي لأبناء المجتمع، وتغيير بعض المفاهيم السائدة، خاصة ما يظن منها أنها ذات صبغة علمية، فترسَخُ بشكل قوي حينما تصدر عن فئات لصيقة بالفكر والعلم.
ولكن كيف يمكن للجامعة أن تعمق التفكير العلمي في أبنائها إلا من خلال إيجاد الأساتذة والباحثين الذين ينشرون المعرفة في شكلها الصحيح، ويرسمون للدارسين الطريق السليمة للعلم، وينمون بيئة البحث العلمي وفق المناهج العلمية الرصينة. وربما يصعب على كثير من الجامعات أن تقوم بمثل هذا العمل، رغم ما نراه للوهلة الأولى فيه من سهولة ويسر، فالأمر لا يتعدى جيلاً واحداً من الأساتذة حتى يأخذ الوعي العلمي في الانتشار بين أفراد المجتمع، لكن أية جامعة تستطيع فعل ذلك إذا كانت لا تمتلك الفريق البحثي المناسب، وليس كل جامعة يمكنها أن تبث الروح العلمية في مناهج الدارسين لديها إذا كان أساتذتها بعيدين عن أصول البحث العلمي. ولذلك يصبح من العسير أن تتصدى جامعة لذلك دون أن تمتلك هي الكادر العلمي من أساتذة وباحثين يقومون بتعميق أصول البحث العلمي في الدراسات التي تجاز عن طريقهم.
إن المتَوَخَى دائماً من الجامعات أن يكون لها تأثير أشبه ما يكون بالموجات المغناطيسية التي تمتد آثارها في البيئة المحيطة بها، حيث تسهم في إحداث التغييرات الاجتماعية، وتحقق التفاعل بين الفرد والبيئة الاجتماعية. فكل جامعة حينما تعد مكمن المنهجية ومركز البحوث العلمية لاشك أن لها، أو هكذا يفترض، تأثيراً إيجابياً، خاصة في طلاب مرحلة الدكتوراة. فدراسة الدكتوراة تتجاوز الفائدة المعرفية والدقة التخصصية المتوخاة من الباحث في موضوع ما. ذلك أن أفضل ما تصبوا إليه الجامعة من إيصال أبنائها إلى مرحلة الدكتوراة أن يمتلكوا الطريقة الصحيحة في التفكير، وهي كيفية ترتيب الأفكار وتنظيم البيانات والاستفادة منها، ويرجع ذلك إلى كون الفترة التي يقضي فيها الطالب فترة بحثه في الدكتوراة وفق منهجية علمية معينة، تعطيه الخبرة الجيدة في العمل المنهجي. وهذا ما يجعل خبراء البحوث العلمية يوصون الدارسين بتحديد الموضوع في أضيق الحدود، وذلك بهدف الخروج بفائدة من البحث.
ولعل ما ميز المجتمع الصناعي وما بعد الصناعي، وهو ما نطمح أن تنقلنا جامعاتنا إليه، اعتماده على فلسفة ما سمي في قرابة منتصف القرن العشرين بعلم المستقبل. وهذا المصطلح أضحى، كما جاء في كتاب المعلوماتية والمجتمع ، يعبر عن فلسفة العلم الذي يعاكس الإيديولوجيا، ولكن الحياد المعرفي لا يتأتى في غير المجتمعات التي تبدأ فيها التجديدات بالصدور عن الدراسات العلمية البحتة وفق مناهج علمية دقيقة، حينها تتحول المعرفة النظرية إلى ثورة استراتيجية، وتحتل فيه أيضا الكوادر العلمية العليا مثل الجامعات ومراكز البحوث إدارة التطوير الاجتماعي والاقتصادي.